مشاهد من فيلم سيريالي ما بين الرؤية التائهة والحلم المتأرجح
قراءة نقدية بقلم /كتور محمد ربيع هاشم
عندما قرأت هذا الديوان الشعري للشاعر الشاب محمد علاء الدين للمرة الأولى وكنت أعلم أنه الإصدار الأول للشاعر دارت برأسي بعضُ الملاحظات الانطباعية السريعة ، والحقيقة كانت ملاحظات كثيرة لم تكن في غلبتها لصالح الشاعر أو الديوان نفسه ... وكنت أتساءل جدياً : هل من الشجاعة أن أدفع بديوانٍ للنشر قبل أن يثمر ؟ أم من الإبداع نشر الديوان حتى ولو كانت حظوظ النصوص قليلة؟
وفي كل الأحوال تمنيت أن أتجنب وجودي كمناقش للديوان نقدياً مكتفياً دائماً بتشجيع الشاعر واعتبار الديوان إرهاصة لعملٍ إبداعي قادم يستحق الإشادة الكاملة ، بل والتهنئة أيضا بميلاد منتجٍ إبداعي يُثري الحركة الإبداعية ويضيف إليهاوشاءت الظروف أن أكون مناقشاً للديوان فعلياً ووجدتني إزاء ذلك أعيد قراءة الديوان مراتٍ ومع كل مرةٍ كنت في سجالٍ مع وضد الديوان ولضيق الوقت فضلا عن وجود ظروف كثيرة آثرت أن تكون هذه الدراسة قراءة نقدية مع وعدٍ بدراسةٍ موسعةٍ للديوان أهديها للشاعر الصديق فيما بعد
الخيط الرفيع بين الصنعة والإبداع
يقول جان روسي : ( الإبداع لا يمكن أن يُختزل إلى صناعة أو حرفية لأن الإبداع هو القدرة على ابتكار النمط وإحيائه واكتشاف طاقاته المتعددة وتفجيرها ) .. ويرى كاتيان : ( أن هناك فرقاً بين الإبداع والتعبير ، فالإبداع يتزامن فيه التصوير والإنجاز مولداً نموذجا يتمتع بالطزاجة والتفرد .. بينما يكرس التعبيرُ وسائله التقنية لإعادة إنتاج نموذجٍ متصور قبليا ) .. فالإبداعُ أصالةٌ ، بينما التعبير مجرد إعادة إنتاج
والحقيقة آثرتُ أن أقدمَ بهذا لمحاولة اكتشاف الخيوط الفاصلة بين الإبداع والتعبير داخل الديوان ، ولأنطلق من اسم الديوان نفسه فهو يمهد لي عنوةً تهيؤاً لدخول عالمٍ شعري قائم على علاقات متوترة وغائمة وربما غير منطقية في محاولة لإسقاطها على واقعٍ مشابه وكأن هذه المشاهد المنفصلة جزئياً وذاتياً ولكنها ـ وهذا ثانيا ـ تدور في فلك فيلم واحد وصف بأنه سيريالي أي عبثي فوق الواقع وبالتالي فهو أقرب ما يكون لفكرة الحلم نفسها المسيطرة على أغلب قصائد الديوان
وفي رأيي كان الشاعر موفقا إلى حدٍّ ما في توظيف مفرد الحلم بأشكالها المتعددة لخدمة المشاهد الملتقطة لهذا الفيلم السيريالي سواء كانت مشاهد وصفية أو متخيلة أو رؤيوية ، ووضح هذا جدا على سبيل المثال في مفتتح قصيدة بصمة روح صـ 21 ــ [ أرواح سفن طايرة ف بحور من شموس .. حيطان سحب .. أبواب بتفتح في السما ] فهي صورة كلية لحلمٍ ميتافيزيقي وإن كانت في مستواها الصياغي والتركيبي تحتوي صنعة وتكلفاً ، بل وربما غموضا مفتعلا يجعلها صورة غير متصورة لا ذهنيا أو حتى وجدانيا ...
كذلك يأتي الحلمُ بصورة أخرى في قصيدة تلاجة صـ 33 ـ : [ آه لو يمشي الحلم ف ضلك أو قدامك ] ، وفي القصيدة ذاتها : [ بتحضن حلمك] ، ولن أقفَ عند هذه النقطة كثيرا ، وإن كانت تستحق الإشادة بالربط بين مفردة الحلم وعالمها داخل نصوص الديوانوتوظيفها لخدمة مشاهد هذا الفيلم السيريالي سواءً كان هذا مقصوداً بالتوفيق في اختيار اسم الديوان ، أو جاء بصدفة مجانية.
الشعر في رأيي عمل إبداعي غامض الإيحاء والتركيب والإنتاج بمعنى آخر استنفارالحالة الشعرية وخروجها ـ بترجمة الأحاسيس ـ إلى حروف هي مسألة أصيلة تتم بشكل غامض داخل اللاشعور واللاوعي بناءً على تراكماتٍ ثقافية وتراثية ومعرفية .... إلخ
ولكن هذه العملية الإبداعية إن تخطت حدود اللاوعي صارت في رأيي تكلفا وصنعة تنأى عنهما الشاعرية ، ويظهر هذا جدا في المنتج الشعري ، فالمزج الإبداعي الإصيل داخل المبدع يصنع منتجاً إبداعيا مدهشا ومترابطا وأصيلاً صياغة ومعنى ..
وقد لاحظت في كثير من قصائد الديوان خرقاً واضحاً لهذا المزج الأصيل حين تباينت العلاقات داخل السطور الشعرية وطغت الركاكة الصياغية أحياناً ، والبتر الدلالي ، وعشوائية الخيوط الموحدة للنصوص نفسها
فمثلا في قصيدة الحرية لينك صـ 13 ـ حاول الشاعر في إطار شكلي متعمدا ـ وأعيدها : تعمد هو في هذا الإطار أن يمزج بين الشاعرية الإنسانية وإحدى وسائل التواصل الإليكتروني في إشارة واضحة في رأيي لتأثير هذه الوسائل الأليكترونية على قيام ثورة مصر المجيدة كان هذا هو الشكل فإن ولجنا إلى الموضوع نفسه وجدنا عناوين وتحتها سطور شعرية ،
وبداية لو أقرينا هذا الإطار الشكلي لقلنا مثلا الحرية بادج وليس لينك باعتبار الصفحة تحتوي لينكات وكومينتات وفوتو وفيديوهات وشات .... إلخ ،
نجد أيضا أخطاء لغوية مثل : (حازروني ) بدلاً من حذروني ... نجد shat وصحتها chat .. نجد admine وصحتها admin ...
نجد أيضا الخطاب المرسل مثل : ( مابيسمعش لكنه سامع نبضها ) ..
ما أريد أن أقوله أن التعمد والصنعة غالبة على نصوص الديوان وهي في رأيي ضد الشاعرية نفسها مفهوما ودلاليا ، وعندما نوغل داخل النص المتعمد نجد مشاكل كثيرة خاصة باللغة والصور والحوار كما وضحنا بعضها سلفا في إحدى قصائد الديوان وغير ذلك ،
وقد تكرر هذا الأمر في قصائد متعددة داخل الديوان ومنها مشهد من فيلم سيريالي ، اضحك ، آلة زمن ، أول إشارة ....
أيضاً هذا الزخم الكبير جدا من الأسماء والأعلام ـ في ديوان عامي لا يحتمل في رأيي كل هذا الحشد الغير موظف بالمرة داخل نصوص الديوان ـ لهو دليل آخر على هذه السمة المصطنعة داخل الديوان على سبيل المثال : [ جورنيكا ، بيكاسو ، مراكب الشمس ، ببي ، إبو ، الأمم المتحدة ، نيرون ، إنسان حجري ، إليوت ، دافنشي ، الموناليزا .... إلخ
الرؤية والإيقاع
الشاعر تتبلور رؤيته من خلال ثقافته وشخصيته الإبداعية ، والرؤية هي خلاصة نضج الشاعر لأنها تكون أيديولوجيته التقنية والفكرية والإحساسية والخَلقية أيضا.
والشاعر غير مطالب بمجرد الرصد فقط ، أو ما سبق وأن قلناه وأسميناه التعبير ، ولكنه مطالبٌ ببلورة رؤية واضحة تتبنى خلاصة تجربته واعتقاده تكون كفيلة بترسيخ شخصيته الإبداعية المتفردة .. وقد كُتبت نصوص كثيرة في الديوان كمجرد رصدٍ وتعبيرٍ أكثر منهما إبداعاً
وعلى سبيل المثال قصيدته وصف مصر صـ 43 ـ تمتليء بأسماء الأعلام وبشكل مجاني وغير موظف : [ درويش ، داليدا ، محفوظ ، سومة .... ] علاوة على بعض الأخطاء اللغوية وربما المطبعية مثل ( عاسوا ) وصحتها عاثوا بحرف الثاء .. نجد أيضا إقحام أسطورة إيزيس في النص ، بل اسم النص نفسه ـ وصف مصر ـ يصلح عنوانا لمقالة أو خبر وليس قصيدة شعر يكون عنوانها مفتاح شفرتها المهيء للدخول إلى عالمها ..
نجده أيضا في نص آلة زمن صـ 36 ـ مثلا يقول : ( حابب تمشي في ضل الليل ، بقى معقول ينساك الليل؟ ) منتهى المباشرة دون تعميقها برؤية واضحة ومتفردة ...
يحاول الشاعر أيضا صنع دهشة ومفارقة من خلال خلق تضادٍ دلالي أو سعي وراء نهاياتٍ مدهشة لكنها أيضاً تفتقد الرؤية الواضحة مثل قصائد : عمود النور صـ 116 ـ ، طشاش صـ 56 ـ وغيرهماالبنية الإيقاعية داخل الديوان تختلط وتموج بالوزن والإيقاع وكذلك باضطرابهما معا ، فهناك قصائد موزونة إلى حدٍ ما إن تجاوزنا على بعض الهنات العروضية مثل قصيدة من خلاياك الجذعية صـ 5 ـ ، وهناك قصائد نصفها موزون والآخر مضطرب الوزن مثل قصيدة نوتة إبو صـ 8 ـ ، ونصوص نثرية تماماً بالمعنى الوزني لا المعنى التنظيري والتقني والفني وكنت أرى ضرورة وجود غاية ما من وراء خلط النصوص الموزونة وغير الموزونة كالترتيب الزمني وهذا ليس واضحا ، أو الترتيب المرحلي وهو بدوره أيضا غير مطروح أو ظاهر ، هناك نوع من العشوائية في التعامل مع هذا البعد الوزني والإيقاعي داخل نصوص الديوان بدون رؤية واضحة أو منهج محدد ، وقد ينجح الشاعر أحيانا في الاكتفاء بالإيقاع دون الوزن فتسير النصوص بانسيابية إلا أنه يقع في أحيان أخرى فخ الخلل الإيقاعي نفسه لتصير النصوص ركيكة صوتيا واستاتيكية جامدة وثقيلة إيقاعيا مثل نص اضحك صـ 39 ـ على سبيل المثال وإذا كان جون كوين قد قال في كتابه بناء لغة الشعر : ( حدث التشعير يتم على مستويين في اللغة أحدهما صوتي والآخر معنوي المستوى الأول مستوى دائري والثاني مستوى امتدادي ) فإننا نردف معه أن الديوان قد أخل لغويا بالمستوى الصوتي بوجود هنات عروضية كثيرة جدا في النصوص المفترض أنها موزونة ، وكذلك هناك خلل إيقاعي ملحوظ بالنصوص الغير موزونة وهذا يحتاج إلى وقفة ومراجعة من الشاعر ..
وأختم قراءتي النقدية السريعة للديوان ببعض الملاحظات :
الملاحظة الأولى :
وجود كم هائل من الأخطاء المطبعية كانت تستوجب دقة من الشاعر في مراجعة بروفة الديوان قبل دفعة بشكل نهائي إلى المطبعة ، وكذلك أخطاء لغوية داخل الديوان نفسه ولأسوق هنا بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر ... غصن الزتون في قصيدة صليب معقوف صـ 51 ـ ، وصحتها غصن الزيتون .. تلت مرات في قصيدة بريش نعام صـ 58 ـ وصحتها تلات مرات
الملاحظة الثانية :
وجود بعض التركيبات الغير مستساغة أو مفهومة أو حتى تؤخذ على أبواب التأويل مثلما يقول في قصيدة صليب معقوف2 صـ 61 ـ : [ صليب معقوف كنيس خراب ابراهيمي ] ولا أعرف للآن ماذا تعني هذه الجملة وهذا التركيب ؟
الملاحظة الثالثة :
أغلب نصوص الديوان تتبنى نظرية يونج النفسية أن اللاشعور الجماعي خزائن التجارب ، فقليلا هي النصوص الخاصة بتجربة الشاعر الذاتية الخاصة والغالب بشكل حاسم قصائد الهموم الجماعية.
في النهاية أشكر الشاعر الفيومي محمد علاء الدين على هذه الخطوة الشجاعة رغم كل ملاحظاتنا النقدية هذه ولكنها لا تنتقص من حجم خطوة كبيرة قام بها الشاعر تستحق الإشادة والشد على اليد حتى تكون هذه التجربة نواةً لمشروع شعري كبير إن ظل مخلصاً للأدب والشعر وهذا رهاننا عليه.