المصدر / مجلة مصر المحروسة
القاهرة 18 مارس 2012 الساعة 11:37 ص
الثوار الذين أحكى عنهم هنا هم أهل مصر، وبالأخص أهل المحروسة، الذين ثاروا مطالبين بخلع الباشا التركى الذى عينه السلطان العثمانى وأوفده من إسطنبول ليحكم مصر، والزمان سنة 1805.
تبدأ الحكاية مع خروج الفرنسيين، أو الفرنسيس كما كان يسميهم أهل ذلك العصر، من مصر فى شهر سبتمبر سنة 1801، رحلت الحملة الفرنسية عن مصر لكن الاستقرار لم يعد إلى البلاد، التى أصبحت مسرحا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها؛ الأتراك العثمانيون وأمراء المماليك الجراكسة وإنجلترا. ولم تدرك هذه القوى المتصارعة أن هناك طرفا آخر عاد إلى الساحة من جديد بعد غياب، إنه الشعب المصرى.
كانت قوة الشعب قد بدأت تظهر مجددا فى السنوات السابقة على الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة فى القاهرة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات الثورة التى قامت فى يوليو سنة 1795 وقادها مشايخ الأزهر ونجحت فى إرغام إبراهيم بك ومراد بك وهما قائدا المماليك على توقيع وثيقة التزما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الاحتلال الفرنسى لمصر تصاعدت روح المقاومة لدى المصريين وانخرطوا فى النضال من أجل تحرير بلادهم، وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة للمصريين من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة الشعبية السيد عمر مكرم الذى كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين بسبب وضعه كنقيب للأشراف فى مصر، وكان للرجل دور بارز فى حشد المصريين للتصدى لقوات الحملة الفرنسية فى القاهرة وضواحيها عند مقدمها إلى البلاد، لكنه فضل الهجرة إلى الشام عندما احتلت الحملة القاهرة.
شعر المصريون أن أمر بلادهم لابد أن يعود إلى أيديهم بعد خروج الحملة الفرنسية، فقد أثبتوا قدرتهم على الدفاع عن بلادهم وحمايتها، وسقطت بذلك الحجة التى استند إليها الغزاة والحكام الأجانب منذ عصر البطالمة والتى أبعدوا بسببها المصريين عن المشاركة فى إدارة أمور بلدهم.
وخلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ، وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم الأتراك والمماليك، وبسبب تدخل القوى الأوروبية الكبرى فى شئون البلاد، وتوالت الاحتجاجات الشعبية وتصاعدت.
ويصف المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى المعاصر لتلك الفترة سنة 1219 هجرية، والتى يوافق ختامها نهاية شهر مارس سنة 1805، فيقول: «وانقضت السنة وما حصل بها من الغلاء وتتابع المظالم والفِرَد على البلاد، وإحداث الباشا له مرتبات وشهريات على جميع البلاد، والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة، وطلب الأموال منهم وحبسهم، واشتد الضنك فى آخر السنة، وانعدم القمح والفول والشعير، وغلا ثمن كل شىء، ولولا اللطف على الخلائق بوجود الذرة حتى لم يبق بالرقع والعرصات سواه، واستمرت سواحل الغلال خالية من الغلة هذا العام من العام الماضى وبطول هذه السنة، وامتنع الوارد من الجهة القبلية، وبطلت المأكولات وقل وجودها، وغلا ثمنها، ومع ذلك، اللطف حاصل من المولى جل شأنه، ولم يقع قحط ولا موت من الجوع كما رأينا فى الغلوات السابقة من عدم الخبز فى الأسواق، وخطف أطباق العيش والكعك وأكل القشور، وما يتساقط من الطرقات من قشور الخضروات وغير ذلك، ولم نر مثل ما رأيناه فى هذه السنة من الفتن والنهب والظلم والعرى وانقطاع الطريق وتعطيل المتاجر من قبلى ومن بحرى وجهات الأرزاق وغلو الأثمان».
وعند هذا الحد كان الكيل قد فاض بالمصريين، ولم تفلح حركات الاحتجاج المتفرقة التى قاموا بها فى إنهاء المظالم أو تحسين الأحوال، واعتمد الباشا العثمانى الذى كان يحكم مصر نيابة عن السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم فى قمع حركات التمرد والاحتجاج.
وفى يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 اعتدى الجنود الدلاة على أهالى مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم، ونهبوا مساكنهم، وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه بداية للثورة التى أطاحت بالباشا العثمانى وفرضت إرادة المصريين على السلطان.
خرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع فى تحد واضح للجيش العثماني، مطالبين بإخلاء القاهرة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثمانى تنتهى يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يستجب لهم.
فماذا فعل الناس؟
يقول الجبرتى: «فلما أصبح يوم الأحد ركب المشايخ إلى بيت القاضى واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال حتى امتلأ الحوش والمقعد بالناس، وصرخوا بقولهم شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم، ومن الأولاد من يقول: يا لطيف، ومنهم من يقول: يا رب يا متجلى اهلك العثملّي، ومنهم من يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وغير ذلك، وطلبوا من القاضى أن يرسل بإحضار المتكلمين فى الدولة لمجلس الشرع، فحضر الجميع واتفقوا على كتابة عرضحال بالمطلوبات، ففعلوا ذلك وذكروا فيه تعدى طوائف العسكر والإيذاء منهم للناس وإخراجهم من مساكنهم، والمظالم والفرد، وقبض مال الميرى المعجل، وحق طرق المباشرين، ومصادرة الناس بالدعوى الكاذبة، وغير ذلك، وأخذوه معهم ووعدوا برد الجواب فى ثانى يوم».
وحاول الباشا العثمانى المماطلة، فأرسل إلى القاضى والعلماء من يحذرهم بأن موقفهم هذا خروج على الشريعة، فرد السيد عمر مكرم على من قال له كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم وقد قال الله تعالى: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، فقال له السيد عمر مكرم: أولى الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا الرجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة وهذا شيء من زمان، حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه».
وطلب حضورهم للقائه فى اليوم التالى للتشاور معهم فى أحوال البلاد، فأحس قادة الأمة بسوء النية لدى الباشا العثمانى، فاتفقوا على عدم الصعود إلى القلعة، وبدلا من ذلك اتخذوا خطوة جريئة غير مسبوقة فى تاريخ مصر منذ قرون طويلة.
حمل المصريون السلاح ووضعوا المتاريس فى الشوارع وحاصروا القلعة ومنعوا عنها الطعام والشراب، وتصدوا بالقوة المسلحة لكل محاولات العسكر العثمانى لفك الحصار، ويقول الجبرتى: «وحمل السلاح كل قادر على حمله، وخلت مخازن الأسلحة بما فيها من آلات الكفاح، وكان الفقراء من العامة يبيعون ملابسهم أو يستدينون ويشترون الأسلحة».
ويقول فلكس مانجان المعاصر للأحداث: «إن هذه الجولات الحربية وما بدا على الجموع من روح القوة أثرت فى نفوس جند الوالى الذين انكمشوا أمام هذه المظاهرات»
وهنا برز دور حجاج الخضرى شيخ طايفة الخضرية بالرميلة كقائد عسكرى شعبى ميدانى لعب دورا مهما فى قيادة الثورة، أما السيد عمر مكرم نقيب الأشراف فقد أصبح الزعيم الأول للشعب بلا منازع ويقول عنه المؤرخ المصرى عبدالرحمن الرافعى: «كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون فى تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يُعرف للسيد عمر مكرم فضله فى هذه الحركة، فقد كان أكثر الزعماء شجاعة وإقداما، وأقواهم إخلاصا وإيمانا، وأكثرهم عملا، وأبعدهم نظرا، كان يتقدم الصفوف، ويشدد العزائم، ويدعوا إلى مواصلة الجهاد، ويتلافى أسباب الخلاف والانقسام».
وعندما بدأ بعض كبار مشايخ الأزهر يخشون من قوة الشعب ويدعونه إلى ترك حمل السلاح، كان عمر مكرم هو الذى يساند حق الشعب فى الثورة وفى حمل السلاح، وقد أورد الجبرتى فى تاريخه رواية تكشف عن هذا، فذكر فى حوادث شهر ربيع الثانى من سنة 1220 «اجتمع الشيخ الشرقاوى والشيخ الأمير وغالب المتعممين، وقالوا إيش هذا الحال، وما تدخلنا فى هذا الأمر والفتن، واتفقوا أنهم يتباعدون عن الفتنة، وينادون بالأمان، وأن الناس يفتحون حوانيتهم ويجلسون بها، وكذلك يفتحون أبواب الجامع الأزهر، ويتقيدون بقراءة الدروس وحضور الطلبة، وركبوا إلى محمد على وقالوا له أنت صرت حاكم البلدة والرعية ليس لهم مقارشة فى عزل الباشا ونزوله من القلعة، وقد أتاك الأمر فنفذه كيف شئت، وأخبروه برأيهم، فأجابهم إلى ذلك، وركب الأغا وصحبته بعض المتعممين، ونادوا فى المدينة بالأمن والأمان والبيع والشراء، وأن الناس يتركون حمل الأسلحة بالنهار، وإذا وقع من بعض العسكر قباحة رفعوا أمره إلى محمد على، وإن كان من الرعية رفعوه إلى بيت السيد عمر النقيب، وإذا دخل الليل حملوا الأسلحة على العادة وتحفظوا على أماكنهم، فلما سمع الناس ذلك أنكروه، وقالوا إيش هذا الكلام، نصير طعمة للعسكر بالنهار وغفراء بالليل، والله لا نترك حمل أسلحتنا، ولا نمتثل لهذا الكلام ولا هذه المنادة، ومر الأغا ببعض العامة المتسلحين فقبض عليهم وأخذ سلاحهم، فازدادوا قهرا، وباتوا على ذلك، واجتمعوا عند السيد عمر النقيب وراجعوه فى ذلك، فاعتذر وأخبر بأن هذا الأمر على خلاف مراده».
ورغم صحوة الشعب المصرى وخروجه حاملا للسلاح، ورغم ظهور زعامات شعبية من بين المصريين، مثل نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وشيخ طائفة الخضرية حجاج الخضرى وبعض كبار مشايخ الأزهر كالشيخ الشرقاوي، إلا أن المصريين لم يفكروا فى اختيار أيا من هؤلاء حاكما للبلاد، وقرروا أن يسلموا ثورتهم لأحد قادة العسكر.
ونعود مرة أخرى إلى مؤرخ العصر عبد الرحمن الجبرتى الذى يصف اما فعله المصريون يوم 13 مايو 1805 فيقول: «فلما أصبحوا يوم الاثنين، اجتمعوا ببيت القاضى، وكذلك اجتمع الكثير من العامة، فمنعوهم من الدخول إلى بيت القاضي، وقفلوا بابيه، وحضر إليهم أيضا سعيد أغا الوكيل، وركب الجميع، وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولابد من عزله من الولاية، فقال: ومن تريدونه يكون واليا، قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليا علينا بشروطنا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولا، ثم رضى، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوى فألبساه له، وذلك فى وقت العصر، ونادوا بذلك فى تلك الليلة فى المدينة».
ويقول الجبرتى فى موضع آخر: «تم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع، والإقلاع عن المظالم، وألا يفعل أمرا إلا بمشورته ومشورة العلماء، وإنه متى خالف الشروط عزلوه».
إن ما حدث يوم 13 مايو سنة 1805 يعكس تحولا مهما فى التاريخ المصري، ويتوج مرحلة من النضال الشعبى امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم؛ ففى هذا اليوم نجح المصريون ولأول مرة فى تاريخهم المعروف فى اختيار الحاكم الذى يتولى شئونهم، وقد رأى زعماء الأمة، كما رأى الشعب فى ذلك الحين، أن محمد على هو الشخصية التى تصلح لتولى الأمر، فقد نجح طوال أربع سنوات فى التقرب من المصريين والتودد إليهم، ولم يكن الأمر قاصرا فى ثورة مايو سنة 1805 على اختيار المصريين لحاكمهم بل إنهم فرضوا عليه كذلك الشروط التى يتولى الحكم على أساسها.
لكن هل التزم محمد على بهذه الشروط؟ الإجابة لا، بسرعة انفرد محمد على بحكم مصر وتخلص من كل الزعماء الذين أتوا به إلى كرسى الحكم، كيف فعل هذا؟ وما الخطة التى سار عليها؟
للتاريخ بقية..
هاولع فى نفسى