السبت، ديسمبر 10، 2011

فصل من رواية " أولاد حارتنا "..................لنجيب محفوظ





أدهم




1
كان مكان حارتنا خلاء . فهو امتداد بصحراء المقطم الذي يربض في الأفق . ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف و الوحشة وقطاع الطريق . كان سوره الكبير العالي يتحلق مساحة واسعة , نصفها الغربي حديقة , و الشرقي مسكن مكّون من أدوار ثلاثة . ويوماً دعا الواقف أبناؤه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة . وجاء الأبناء جميعاً , إدريس و عباس و رضوان و جليل و أدهم, في جلابيبهم الحريرية , فوقفوا بين يديه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلا خلسة . وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله , وراح يتفحصهم هنيهة بعينيه النافذتين كأعين الصقر , ثم قام متجهاً نحو باب السلاملك . ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية التي تزحمها لأشجار التوت و الجميز و النخيل , وتعترش في جنباتها الحناء و الياسمين , وتثب فوق غصونها مزقزقة العصافير . ضجت الحديقة بالحياة و الغناء على حين ساد الصمت بالبهو . وخيِّل إلى الأخوة أن فتوة الخلاء قد نسيهم , وهو يبدو بطوله و عرضه خلقاً فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط . وتبادلوا نظرات متسائلة . إن هذا شأنه إذا قرر أمراً ذا خطر , وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء وإنهم حياله لا شيء . التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه و قال بصوت خشن عميق تردد بقوة في أنحاء البهو الذي توارت جدرانه العالية وراء ستائر و طنافس :
- أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوقف ...
وتفحّص وجوههم مرة أخرى , ولكن لم تنم وجوههم على شيء . لم تكن إدارة الوقف ما يغري قوماً استحلوا الفراغ و الدعة و عربدة الشباب , وفضلاً عن هذا فإدريس الأخ الأكبر هو المرشح الطبيعي للمنصب , فلم يعد أحد منهم يتساءل عما هناك . وقال إدريس لنفسه : " ياله من عبء , هذه الأفكار لا حصر لها , وهؤلاء المستأجرون المناكيد ! " , أما الجبلاوي فاستطرد قائلاً :
- وقد وقفع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافي ..
عكست الوجوه وقع مفاجأة غير متوقعة , فتبودلت النظرات في سرعة و انفعال , إلا أدهم فقد غض بصره حياءً و ارتباكاً , وولاهم الجبلاوي ظهره وهو يقول في عدم اكتراث :
- لهذا دعوتكم ..
تفجر الغضب في باطن إدريس , فبدا كالثمل من شدة مقاومته , ونظر إلى أخوته بحرج , ودارى كل منهم – عدا أدهم طبعاً – غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطي إدريس , الذي كان تخطياً مضاعفاً لهم . أما إدريس فقال بصوت هادىء كأنما يخرج من جسم آخر:
- ولكن يا أبي ..
قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم :
- ولكن ؟ ! .
فغضوا الأبصار حذراً من يقرأ ما في نفوسهم , إلا إدريس فقد قال بإصرار :
- و لكنني الأخ الأكبر.. فقال الجبلاوي مستاء " :
- - أظن أنني أعلم ذلك , فأنا الذي أنجبتك .
فقال إدريس وحرارة غضيه آخذة في الارتفاع :
- للأخ الأكبر حقوق لا تهضم إلا لسبب ..
فحدجه الرجل بنظرة طويلة كأنما يمنحه فرصة طيبة لتدبر أمره وقال :
- أؤكد لكم أنني راعيت في اختياري مصلحة الجميع ..
تلقى إدريس اللطمة بصبر ينفذ . إنه يعلم كم يضيق أبوه بالمعارضة , وأن عليه أن يتوقع لطمات أشد إذا تمادى فيها , ولكن الغضب لم يدع له فرصة لتدبّر العواقب , فاندفع خطوات حتى كاد يلاصق ادهم , و انتفخ كالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق الحجم و اللون و البهاء بينه و بين أخيه , و انطلق الكلام من فيه كما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط :
- إني و أشقائي أبناء هانم من خيرة النساء , أما هذا فابن جارية سوداء ..
- شحب وجه أدهم السمر دون أن تنّد عنه حركة , على حين لوح الجبلاوي بيده قائلاً بنبرات الوعيد :
- تأدب يا إدريس ..
ولكن كانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف :
- وهو أصغرنا أيضاً , فدلني على سبب يرجحني به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم و العبيد ..
- اقطع لسانك رحمة بك يا جاهل ..
- إن قطع لساني أحي إلي من الهوان ..
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه و قال برقة باسمة :
- نحن جميعاً أبناؤك , ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا , و الأمر لك على أي حال .. و غاية مرامنا أن نعرف السبب ..
وعدل الجبلاوي عن إدريس على رضوان , مروّضاً غضبه لغاية في نفسه فقال :
- أدهم على دراية بطباع المستأجرين , ويعرف أكثرهم بأسمائهم , ثم إنّه على علم بالكتابة و الحساب ..
- وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب أخوته . متى كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان ؟ ! . و دخول الكتّاب , أهو ميزة أخرى ؟ ! . و تساءل إدريس متهكماً :
- أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد به من مذلة ؟
فأشار الجبلاوي نحوه بضجر و قال :
- فأشار الجبلاوي نحوه بضجر و قال :
- هذه إرادتي , وما عليك إلا السمع و الطاعة ..
و التفت الرجل التفاتة حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل :
- ما قولكم ؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه , وقال وهو واجم :
- سمعاً و طاعة ..
و سرعان ما قال جليل وهو يغض طرفه :
- أمرك يا أبي ..
و قال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف :
- على العين و الراس ..
عند ذاك ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت إلى أساريره حتى قبحت وجهه و هتف :
- يا جبناء , ما توقعت منكم غلا الهزيمة المزرية . وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء ..
فصاح الجبلاوي مقطباً عن عينين تتطاير منهما النذر :
- إدريس !
ولكن الغضب كان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره :
- ما أهون الأبوة عليك , خلقت فتوة جباراً فلم تعرف إلا أن تكون فتوة جباراً , ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين ..
اقترب الجبلاوي خطوتين في بطء كالتوثب , و قال بصوت منخفض وقد أنذرت أساريره المتقبضة بالشر :
- اقطع لسانك !
ولكن إدريس واصل صياحه قائلاً :
- لن ترعبني , أنت تعلم أنني لا أرتعب , وأنك إذا أردت أن ترفع ابن الجارية عليّ فلن أسمعك لحن السمع و الطاعة .
- ألا تدرك عاقبة التحدي يا ملعون ؟
- الملعون حقاً هو ابن الجارية ..
فعلت نبرات الرجل و اخشوشنت وهو يقول :
- إنها زوجتي يا عربيد , فتأدّب و إلا سويّت بك الأرض ..
وفزع الأخوة و أولهم أدهم لدرايتهم ببطش أبيهم الجبار , ولكن إدريس كان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطراً كأنه مجنون يهاجم ناراً مندلعة , فصاح :
- إنك تبغضني , لم أكن أعلم هذا , ولكنك تبغضني دون ريب , لعل الجارية هي التي بغضّتنا إليك , سيد الخلاء و صاحب الأوقاف و الفتوة الرهيب , ولكن جارية استطاعت أن تعبث بك , وغداً يتحدث عنك الناس يكل عجيبة يا سيد الخلاء .
- قلت لك اقطع لسانك يا ملعون .
- لا تسبّني من أحل أدهم , طوب الأرض يأبى ذلك و يلعنه , وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء و الحواري ..
فصاح الجبلاوي بصوت صكّ الأسماع في الحديقة و الحريم :
- اغرب بعيداً عن وجهي ..
- هذا بيتي , فيه أمي , وهي سيدته دون منازع .
- لن تُرى فيه بعد اليوم , وإلى الأبد ..
و اكفهر الوجه الكبير حتى حاكى لونه النيل في احتدام فيضانه , و تحرك صاحبه كالبنيان , مكوراً قبضة من الصوان . وأيقن الجميع أن إدريس قد انتهى . ماهو إلا مأساة جديدة من الماسي التي يشهدها هذا البيت صامتا . كم من سيدة مصونة تحولت بكلمة إلى متسولة تعيسة . وكم من رجل غادره بعد خدمة طويلة مترنحاً يحمل على ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص و الدم يطفح من فيه و أنفه . و الرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وأن عزّ جانبه عند الغضب . لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهى . حتى إدريس بكري الواقف و مثيله في القوة و الجمال قد انتهى . و تقدم الجبلاوي خطوتين أخريين وهو يقول :
لا أنت ابني ولا أنا أبوك , ولا هذا البيت بيتك و ولا أم لك فيه ولا أخ ولا تابع . أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوباً بغضبي و لعنتي , و ستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محروماً من عطفي و رعايتي ! .
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدمه و صاح :
- هذا بيتي , ولن أغادره ..
فانقضّ عليه الأب قبل أن يتقيه , و قبض على منكبه بقبضة كالمعصرة , و دفعه أمامه و الآخر يتراجع مقهقراً , فعبرا باب السلاملك , و هبطا السلم و إدريس يتعثر , ثم اخترق به ممراً تكتنفه شجيرات الورد و الحناء مفروشاً بالياسمين حتى البوابة الكبيرة فدفعه خارجاً و أغلق الباب . وصاح بصوت سمعه كلّ من يقيم في البيت :
- الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها ..
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أخرى :
- و طالقة ثلاثا من تجترىء على هذا ..


2
منذ ذلك اليوم الكئيب و أدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير . وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار و توزيع أنصبة المستحقين و تقديم الحساب إلى أبيه . وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة و سياسة , فرضوا عنه على رغم ما عرف عنهم من مشاكسة و فظاظة . وكانت شروط الواقف سراً لا يدري به أحد سوى الأب , فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمةً لإيثاره في الوصية . و الحق لأنه لم يبد من الأب قبل ذلك اليوم ما ينم عن التحيز في معاملته لأبنائه . و عاش الأخوة في وئام و انسجام بفضل مهابة الأب و عدالته . حتى إدريس – على قوته و جماله و إسرافه أحياناً في اللهو – لم يسيء قبل ذلك اليوم إلى أحد من أخوته . كان شاباً حلواً كريم المعشر حائزاً الود و الإعجاب . ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئاً من الإحساس بالفارق بينهم و بينه , ولكن أحداً منهم لم يعلن هذا ولا اشتم منه في كلمة أو إشارة أو شلوك . ولعل أدهم كان اشد إحساساً منهم بهذا الفارق , بين سمو أمهم وضاعة أمه , ولعله عانى من ذلك أسى مكتوماً و ألماً دفيناً , ولكن جو البيت المعبق بشذى الرياحين , الخاضع لقوة الأب و حكمته , لم يسمح لشعور سيء بالاستقرار في نفسه , فنشأ صافي العقل و القلب .
و قال أدهم لأمه قبيل ذهابه إلى إدارة الوقف :
- باركيني يا أمي , فما هذا العمل الذي عهد به إليّ إلا امتحان شديد لي و لك ..
فقالت الأم بضراعة :
- ليكن التوفيق ظلك يا بني , أنت ولد طيّب و العقبى للطيبين ..و مضى أدهم على المنظرة ترمقه العيون من السلاملك و الحديقة ومن وراء النوافذ , و جلس على مقعد ناظر الوقف و بدأ عمله . وكان عمله أخطر نشاط إنساني يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقاً و القاهرة القديمة غرباً . و اتخذ أدهم من الأمانة شعاراً , و سجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف . وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال . و سأله أبوه يوماً :
- كيف تجد العمل يا أدهم ؟
فقال ادهم بخشوع :
- ما دمت قد عهد به إليّ فهو أعظم ما في حياتي ..
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة , إذا أنه على جبروته كان يستخفّه طرب الثناء .وكان أدهم يحب مجلسه . وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب و الحب . وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي – له ولأخواته حكايات الزمان الأول , و مغامرات الفتوة و الشباب , إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوحاً بنبوته المخيف غازياً كل موضع تطأه قدماه . ولعد طرد إدريس ظل عباس و رضوان و جليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت , يأكلون و يشربون و يقامرون . أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة . كان عاشقاً للحديقة منذ درج , وكان عاشقاً للناي . ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجل وقته . فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول , و أسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة , أو استلقى تحت عريشة الياسمين , وراح يرنو إلى العصافير وما أكثر العصافير , أو يتابع اليمام وما أحلى اليمام , ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة و الهديل و التغريد وما أبدع المحاكاة , أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون وما أجمل السماء . ومرّ به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال :
ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف !
فقال أدهم باسماً :
لولا إشفاقي من غضب أبي لشكوت ..
فلنحمد نحن المولى على الفراغ !
فقال أدهم بساطة :
هنيئاً لكم ..
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام :
أتود أن تعود مثلنا ؟
خير ما تمضي الحياة في الحديقة و الناي ..
فقال رضوان بمرارة ك
كان إدريس يود أن يعمل
فغض أدهم بصره وهو يقول :
لم يكن عند إدريس وقت للعمل , ولاعتبارات أخرى غضب , أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها ..
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه : " الحديقة , وسكانها المغردون , والماء , و السماء , و نفسي النشوى , هذه هي الحياة الحقة . كأنّني أجد البحث عن شيء . ما هذا الشيء ؟ الناي أحياناً يكاد يجيب . و لكن السؤال يظل بدون جواب . لو تكلمت هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين . و للنجوم الزاهرة حديث كذلك . أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام " .
ووقف أدهم يوماً ينظر على ظله الملقى على الممشى بين الورود , فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشياً بقدوم شخص من المنعطف خلفه . بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه . و التفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهّم بالتراجع عندما اكتشفت وجوده , فأشار بالوقوف فوقفت , و تفحصها ملياً , ثم سألها برقة :
من أنت ؟
فأجابت بصوت متلعثم :
أميمة ..
إنه يذكر الاسم , فهو لجارية و قريبة لأمه , وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه .
ومال إلى محادثتها أكثر فسألها :
ماذا جاء بك على الحديقة ؟
فأجابت مسبلة الجفنين :
حسبتها خالية ..
لكن ذلك محرم عليكن ..
فقالت بصوت لم يكاد يسمع :
أخطأت يا سيدي ..
و تراجعت حتى توارت وراء المنعطف , ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة , وإذا به يغمغم متأثرا " ما أملحك ! " . و شعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة . و إن الورد و الياسمين و القرنفل و العصافير و اليمام و نفسه نغمة واحدة . و قال لنفسه : " أميمة مليحة , حتى شفتاها الغليظتان مليحتان , و جميع أخوتي متزوجين عدا إدريس المتكبر , وما أشبه لونها بلوني , وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات , ولن يسخر أبي من اختياري وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي ؟ ! . "










3
وجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض كالعبير . و حاول كثيراً أن يراجع حساب اليوم , ولكنه لم يرى في صفحة عقله إلا السمراء . ولم يكن عجيباً أن يرى أميمة اليوم لأول مرة , فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو و يعيش بفضلها و لكنه لا يراها . و استسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح : " أنا هنا , في الخلاء يا جبلاوي , ألعن الكل , اللعنة على رؤوسكم نساءً و رجالاً , وأتحدى من لم تعجبه كلماتي , سامعني يا جبلاوي ؟ ! " . وهتف أدهم : " إدريس ! " و غادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجهاً نحوه في اضطراب ظاهر , و بادره قائلاً :
إدريس سكران , رايته من النافذة مختل التوازن من السكر , أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا ؟
فقال أدهم وهو يغضي ألماً :
قلبي يتقطع أسفا يا أخي ..
وما العمل ؟ ! إن كارثة تهددنا !
ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدِث أبانا بالأمر.. ؟
فقطب رضوان قائلاً :
أبوك لا يراجَع في أمر , و حال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه ..
فغمغم أدهم في كآبة :
ما كان أغنانا عن هذه الأحزان !
نعم , النساء يبكين في الحريم , عباس و جليل معتكفان من الكدر , و أبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ..
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق :
ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئاً ؟
يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة , ولا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن , غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض , أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس ..
لماذا قصدتني إذن ؟! بين يوم و ليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق . وتنهد قائلاً :
إني بريء من كل هذا , ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكتّ ..
فقال رضوان وهو يهم بالذهاب :
لديكك من الأسباب ما يوجب عليك العمل ..!
ومضى راجعاً . و لبث أدهم وحده و أذناه ترددان هذه العبارة " لديك من الأسباب ..." نعم . إنه المتهم دون ذنب جناه . كالقلة التي تسقط على راس لأن الريح أطاحت بها . وكلما أسف أحد على إدريس لُعِنَ أدهم و اتجه ادهم نحو الباب ففتحه ومرق منه . رأى إدريس غير بعيد يترنح دائراً حول نفسه , يقلب عينين زائغتين , وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره . ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأراً , ولكن أعجزه السكر فمال نحو الأرض وملأ قبضته تراباً ورمى به أدهم فأصاب صدره و انتثر على عباءته . و ناداه أدهم برقة :
أخي ..
فزمجر إدريس وهو يترنح :
اخرس يا كلب يا ابن الكلب , لا أنت أخي ولا أبوك أبي , ولأدكنّ هذا البيت فوق رؤوسكم ..
فقال أدهم متودداً :
بل أنت أكرم هذا البيت و أنبله ..
فقهقه إدريس من فيه دون قلبه و صاح :
لماذا جئت يا ابن الجارية ؟ عد إلى أمك و أنزلها إلى بدروم الخدم ..
فقال أدهم دون أن تتغير مودته :
لا تستسلم للغضب , ولا توصد البواب في وجه الساعين لخيرك . فلّوح إدريس بيده ثائراً و صاح :
ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء , الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع , و يعبدون مذلهم , لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس , فقل لأبيك أنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه , وإنني عدت قطاع طريق كما كان , و عريبداً أثيماً معتوياً كما يكون , و سيشيرون إلّي في كل مكان أعيث فيه فساداً و يقولون : " لبن الجبلاوي " بذلك أمرغكم في التراب يا من تظنون أنفسكم سادة و أنتم لصوص ..
وتوسل أدهم قائلاً :
أخي أفِق , حاسب نفسك على كل كلمة توجب اللوم , ليس الطريق مسدوداً في وجهك إلا أنم تسده بيديك , وإني أعدك بأن يعود كل شيء طيب إلى أصله ..
فخطا إدريس نحوه بصعوبة كأن ريحاً ترجعه و قال :
بأي قوة تعدني يا ابن الجارية ؟
فقال وهو يرمقه بحذر :
بقوة الأخوة !
الأخوة ! قذفت بها في أول مرحاض صادفني ..
فقال أدهم متألماً :
ما سمعت منك من قبل إلا الجميل ..
طغيان أبيك أنطقني بالحق ..
لا أحب أنم يراك الناس على هذه الحال .
فأرسل إدريس ضحكة معربدة و صاح :
و سيرونني على أسوأ منها كل يوم , العار و الفضيحة و الجريمة ستحلّ بكم على يدي , طردني أبوك دون حياء فليتحمل العواقب ..ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحّى هذا عن موقفه دون تردد , فكاد إدريس يهوى على الأرض لولا أن استند إلى الجدار , و لبث يلهث حانقاً , وينظر في الأرض مفتشاً عن حجر , فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل . و اغرورقت عيناه من الحزن , وكان صياح إدريس ما زال صاخباً . و حانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو , فمضى نحوه وهو لا يدري و متغلباً على خوفه بحزنه . ونظر إليه الجبلاوي بعينين لا تفصحان عن شيء . وكان يقف بقامته المديدة ومنكبيه العريضين أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه . وأحنى أدهم رأسه قائلاً :
السلام عليكم ..
فتفحصه الجبلاوي بنظرة عميقة ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه :
صرِّح لما جئت من أجله ..
فقال أدهم بصوت مهموس :
أبي , إن أخي إدريس ..
فقاطعه الأب بصوت كضربة الفأس في الحجر :
لا تذكر اسمه أمامي ..
ثم وهو يمضي إلى الداخل :
اذهب إلى عملك !


4
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء و إدريس يتردى في مهاوي الشقاوة . في كل يوم يسجل في كتابه حماقة جديدة . كان يدور حول البيت ليقذفه بأقذع الشتائم . أو يجلس على كثب من الباب , عارياً كما ولدته أمه كأنما يتشمس , وهو يترنم بأفحش الأغاني وكان يتجول في الأحياء القريبة في خيلاء الفتوات , يتحدى كل عابر بنظرات هجومية , و يحترش بكل من يعترض سبيله , و الناس يتحاشونه كاظمين , وهم يتهامسون " ابن الجبلاوي " ولم يحمل لغذائه هماً , فكان يمد يده بكل بسلطة إلى الطعام حيث وجده . في مطعم أو على عربة , فيأكل حتى يكتظ ثم يمضي دون شكر من ناحيته أو محاسبة من الآخرين و إذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه , فتقدم إليه البوظة حتى يسكر , ثم ينطلق لسانه كالنافورة بأسرار أسرته و أعاجيبها , و تقاليدها السخيفة و جبنها المهين , منوهاً بثورته على أبيه , جبار هذه الأحياء جميعاً , ثم يدخل في قافية ليغرق في الضحك , و يغني إذا لزم الحال و يرقص , و تتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعركة , ثم يذهب مشيعاً بالتحيات . وفي كب مكان اشتهر بهذه السيرة , فتحاماه الناس ما استطاعوا , و لكنهم سلموا بأمره كأنه مصيبة من مصائب الدهر . ونال الأسرة ما نالهم من الغم و الكرب . وغلب الحزن أم إدريس فشُّلت و احتضرت . وجاء الجبلاوي ليودعها فأشارت نحوه بيدها محتجة و فاضت روحها بأسى و غضب , و خيم الحزن على الأسرة كخيوط العنكبوت , فتوقف سمر الأسرة فوق السطح , وسكت ناي أدهم في الحديقة .
و يوماً تفجر غضب الأب عن ثورة جديدة كانت ضحيتها هذه المرة امرأة . غذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة و يطردها من البيت . وعُلم في نفس اليوم أن أعراض الحمل ظهرت على المرأة , فقُررّت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده . و غادرت نرجس البيت وهي تصوت وتلطم على خديها . وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها بركابه دون ترحيب , ودون جفاء كذلك إذ لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة .
على أن كل مصيبة وإن جلّت لا بد يوماً و أن تؤلف . لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف في البيت الكبير كما يعود السكان إلى ديارهم عقب زلزال أكرههم على الفرار منها . عاد عباس و رضوان و جليل إلى ندوة السطح , كما عاد أدهم إلى سهرة الحديقة يناجي الناي فيناجيه . ووجد أميمة تضيء خواطره و تدفىء مشاعره , و صورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح في مخيلته . فقصد مجلس أمه في حجرتها حيث كانت تطرز شالاً , فأفضى إليها بذات نفسه , إلى أن قال :
إنها أميمة يا أمي , قريبتك .
فابتسمت أمه ابتسامة باهتة دلت على أن فرحة الخبر لم تستطع التغلب على عناء مرضها فقالت :
نعم يا أدهم , إنها فتاة طيبة , نصلح لك كما تصلح لها , و ستسعدك بمشيئة المولى .
ولما رأت تورد البهجة في وجنتيه استدركت قائلة :
لا ينبغي أن تدللها يا بني حتى لا تفسد حباتك , و سأخاطب أباك في الأمر لعلي أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدركني الموت ..
وعندما دعاه الجبلاوي إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامة لطيفة حتى قال لنفسه : : " لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته " . و قال الأب :
ها أنت تطلب زوجة يا أدهم , ما أسرع الزمن , وهذا البيت يحتقر المساكين ولكنك باختيار أميمة تكرم أمك , لعلك تنجب ذرية صالحة . لقد ضاع إدريس , وعباس و جليل عقيمان , و رضوان لم يعش له ولد حتى اليوم , و جميعهم لم يرثوا عني إلا كبريائي , فاملأ هذا البيت بذريتك , و إلا يذهب عمري هباء .
و كانت زفة ادهم لم يشهد لها الحي نظيراً من قبل . و حتى اليوم يجري ذكرها مجرى الأمثال في حارتنا . تدلت ليلتذاك الكلوبات من غصون الشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم . و أقيم سرادق فوق السطح للمغنين و المغنيات . و امتدت موائد الطعام و الشراب في البهو والحديقة و الخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير . و بدأت زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل . سار فيها كل من يحب الجبلاوي أو يخافه حتى انتظمت الجميع . و خطر أدهم في جلباب حريري ولاسة مزركشة بين عباس و جليل , لأمل رضوان فسار في المقدمة , وعلى اليمين وعلى اليسار حاملو الشموع و الورود , و تقدم الموكب مجموعة كبيرة من المنشدين و الراقصين , و تعالى الغناء , و تبعته تأوهات المطربين و تحيات المعجبين بالجبلاوي و أدهم , حتى استيقظ الحي و دوت الزغاريد . وسار الموكب من الجمالية فالعطوف ثم كفر الزغاري و المبيضة , ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات , وحطب من حطب , و رقص من رقص , ووزعت الحانات البوظة مجاناً فسكر حتى الغلمان , و تهادت الجِوز من جميع الغرز في طريق الموكب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحسن كيف و الهندي .
وفجأة لاح إدريس كمارد انشقّت عنه الظلمة في آخر الطريق . لاح عند المنعطف المفضي على الخلاء على ضوء الكلوبات التي تتقدم الموكب فتوقف حاملو الكلوبات عن السير و انتشر التهامس باسم إدريس . ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف حناجرهم فكّفت عن الغناء , ورآه الراقصون فجمدت أوساطهم . و سرعان ما سكتت المزامير و خرست الطبول , و غاضت الضحكات . و تساءل الكثيرين عم يفعلون , فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى و إن ضربوا لم يضربوا غلا ابن الجبلاوي . ولوح إدريس بنبوته وهو يصيح :
لمن الزفة يا حثالة الجبناء ؟
فساد الصمت واشرأبت الأعناق نحو أدهم و إخوته , وعاد إدريس يتساءل :
متى كنتم لابن الجارية أو لأبيه أصدقاء ؟
عند ذلك تقدم رضوان خطوات و هتف قائلاً :
أخي, من الحكمة أن تدع الزفة تمر ..
فصاح إدريس مقطباً :
أنت آخر من يتكلم يا رضوان , أنت أخ خائن وابنٌ جبان , وذليل يشتري رغد العيش بالكرامة و الأخوة ..
فقال رضوان بإشفاق :
لا شأن للناس باختلافاتنا ..
فقهقه إدريس قائلاً :
الناس يعلمون بخزيكم , ولولا جبنهم العريق ما وجدت هذه الزفة زامراً أو منشداً ..
فقال رضوان بعزم ثابت :
أبوك عهد إلينا بأخيك , ولا بد أن نحفظه ..
فعاد إدريس يقهقه وهو يتساءل :
أرأيت أنك تدافع عن نفسك لا عن ابن الجارية ؟
أين رشادك يا أخي ؟ بالحكمة وحدها تعود إلى بيتك .
إنك كاذب , وتعلم أنك كاذب .
فقال رضوان في حزن :
لن ألومك فيما يخصني , ولكن دع الزفة تمر بسلام ..
فكان جوابه أن انقض على الموكب كالثور الهائج . وأخذ نبّوته يرتفع و يهوي فتتحطم الكلوبات و تتصدع الفوانيس و تبعثر الورود , و راح الناس يولون مذعورون كالرمال أمام العاصفة . و تكاتف عباس و رضوان وجليل أمام أدهم فتضاعف غضب إدريس :
يا أنذال , تدافعون عمن تكرهون خوفاً على الطعام و الشراب .. وهجم عليهم , فتلقّوا ضرباته بنبابيتهم دون أن يردوا عليها وهم يتراجعون , وإذا به يرمي بنفسه فجأة بينتهم فيشور سبيلا إلى موقف ـدهم فعلا الصوت في النوافذ , وهتف أدهم وهو يتحفز للدفاع عن نفسه :
إدريس , لستُ عدوا لك فارجع إلى عقلك .
ورفع إدريس نبوته . وهنا صاح صائح : " الجبلاوي " . وصاح رضوان مخاطباً إدريس :
أبوك قادم ..
فوثب إدريس إلى جانب الطريق و التفت إلى الوراء فرأى الجبلاوي قادماً وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل . وعض إدريس على أسنانه ثم هتف ساخراً :
سأهبك عمّا قريب حفيداً من الزنا تقر به عينك .
و اندفع نحو الجمالية والناس توسع له الجانبين حتى ابتلعته الظلمة . وبلغ الأب موقف الأخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت آلاف الأعين المحدقة فيه , ثم قال بلهجة آمرة :
ليعد كل شيء إلى أصله ..
ورجع حماة الكلوبات إلى مواقعهم , و دقت الطبول , وعزفت المزامير , ثم غنى المنشدون , ورقص الراقصون , واستأنفت الزفة مسيرها ..
وسهر البيت الكبير حتى الصباح في طرب و شراء و غناء . وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمة واقفة إلى جانب المرآة و النقاب الأبيض ما يزال يغطي وجهها . كان مخموراً مسطولاً لا تكاد تحمله قدماه , فاقترب منها وهو يبذل جهداً شديداً ليتمالك أعصابه . ورفع النقاب عن وجهها الذي طالعه في أحسن رواء , وهوى برأسه حتى لثم شفتيها المكتنزتين , ثم قال بلسان مخمور :
لتهم الهموم جميعاً مادمت حسن الختام ..
واتجه نحو الفراش , يستقيم خطوة و يترنح خطوة , حتى استلقى على عرض السرير باللاسة و المركوب , و كانت أميمة تنظر إلى صورته المنعكسة على المرآة وهي تبتسم في إشفاق و حنان






5
مجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبل . و لبساطته أعلن عن سعادته بأقواله و أحواله حتى تندّر به إخوته . وعند ختام كل صلاة كان يبسط يديه هاتفاً : " الحمد لصاحب المنن , على رضا أبي الحمد له , على حب زوجتي الحمد له , على المنزلة التي أحظى بها ون من هم أجدر مني بها الحمد له , على الحديقة الغناء و الناي الرفيق الحمد له " . و قالت كل امرأة من نساء البيت الكبير إن أميمة زوجة واعية , فهي ترعى زوجها كأنه ابنها , وتوادد حماتها و تخدمها حتى أسرتها , و تراعي مسكنها العناية التامة كـنه قطعة من جسدها . أما أدهك فكان زوجاً مترع القلب بالمحبة و حسن المعاشرة . وكما شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبل , فقد شغل الحب بقية يومه , و استبد به حتى نسي نفسه . و توالت أيام هانئة . وامتدت فوق ما قدر رضوان و عباس و جليل الساخرون , ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراعدة المزبدة في النهر الرصين . وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم , فشعر أن الزمن لا يمر في غمضة عين , وأن النهار يعقبه الليل , وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت مل معنى , وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يجدر به أن يهجرها , وأن شيئاً من هذا لا يعني بحال من الأحوال أن قلبه تحول عن أميمة , فما تزال في صميمه , ولكن للحياة أطواراً لا يخبرها المرء إلا يوماً بيوم . و عاد إلى مجلسه عند القناة , وأجال بصره في الأزهار و العصافير ممتناً و معتذراً . وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة , فجلست إلى جانبه وهي تقول :
نظرت من النافذة لأرى ما أخّرك , لماذا لم تدعُني معك ؟
فقال باسماً :
خفت أن أتعبك
تتعبني ؟..طالما أحببت هذه الحديقة , أتذكر أول لقاء لنا هنا ؟ وأخذ يدها في يده , واسند رأسه على جذع النخلة مريلاً طرفه إلى الغصون , وإلى السماء خلال الغصون , و عادت هي تؤكد له حبها للحديقة , و كلما أمعن في الصمت أمعنت في التوكيد , إذ أنها كانت تكره الصمت بقدر ما تحب الحديقة , وكان حديث حياتها أطيب حديث . ولا باس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث في البيت الكبير , خاصة ما يتعلق بزوجات رضوان و عباس و جليل , ثم تغير صوتها مائلاً نحو العتاب وهي تقول :
أنت تغيب عني يا أدهم ..؟
فابتسم إليها قائلاً :
كيف و أنت ملأ القلب !
ولكنك لا تصغي إلي ..؟
هذا حق . ومع أنه لم يرحب بمقدمها فإنه لم يضق به . ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقاً . و الحق أنه يشعر بأنها جزء لا يتجزأ منه . وقال كالمعتذر:
إني أحب هذه الحديقة , لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلستها , وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضفضة و عصافيرها المزقزقة تعرفني كما أعرفها , وأود أن تقاسمني حبها , أرأيت على السماء كيف تبدو خلال الغصون ؟
فرفعت عينيها مقدار لحظة ثم نظرت غليه باسمة و قالت :
إنها جميلة حقاً , وجديرة بأن تكون أطيب ما في حياتك ..
فانس من قولها العتاب دون إفصاح و بادرها قائلاً :
بل كانت كذلك قبل أن أعرفك ..
والآن ؟
فضغط على يدها بحنوّ قائلاً :
لا يتم جمالها إلا بك ..
فقالت وهي تحدّ بصرها نحوه :
من حسن الحظ أنها لا تؤاخذك على انصرافك عنها إليّ
فضحك ادهم و جذبها نحوه حتى التصق خدها بشفتيه , ثم سألها :
أليست هذه الأزهار أجدر بالتفاتنا من الكلام عن زوجات أخوتي ؟ ! .
فقالت أميمة باهتمام :
الأزهار أجمل لكن زوجات أخوتك لا يكففن عن الحديث عنك , إدارة الوقف , دائماً إدارة الوقف , و ثقة أبيك فيك , يبُدئن و يُعدن في هذا ..
و قطب أدهم غائباً عن الحديقة , و قال بحدة :
لا شيء ينقصهن !
الحق أني أخاف عليك العين ..
فهتف أدهم غاضباً :
لعنة الله على الوقف , أرهقني و غيّر القلوب عليّ و سلبني راحة البال , فليذهب في داهية ..
فوضعت إصبعها على شفتيه وهي تقول :
لا تكفر بالنعمة يا أدهم , إن إدارة الوقف شأن خطير , وقد تجر وراءها نفعاً لا يخطر بالبال ..
جرت حتى الآن المتاعب .. , وحسبنا مأساة إدريس ..
فابتسمت , لكن ابتسامتها لم تنّم عن بهجة وإنما دارت بها اهتماماً جدياً تجلى في نظرة عينيها , و قالت :
انظر إلى مستقبلنا كما تنظر إلى الغصون و السماء و العصافير ..
وواظبت أنينة على مشاركته جلسته في الحديقة . ولم تكن تعرف الصمت إلاّ في النادر , لكنه اعتادها , كما اعتاد الإصغاء بنصف انتباه أو دون ذلك , وعند الحاجة يتناول الناي لينفخ فيه ما شاء له من الطرب .
و استطاع أن يقول في رضى تام أن كل شيء طيب . حتى شقاوة إدريس باتت شيئاً مألوفاً , لكن المرض اشتد على أمه . و عانت آلاما لم تعرفها من قبل تقطّع لها قلبه و كانت تدعوه على جانبها كثيراً فتسبغ عليه أكرم الدعاء . ومرة قالت له بتوسل حار : " أدع ربك دائماً أن يقيك الشر و يهديك سواء السبيل " . ولم تدعه يذهب . و ظلت تراوح بين الأنين و بين مخاطبته و تذكيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه . و بكاها أدهم و بكتها أميمة , وجاء الجبلاوي و نظر في وجهها ملياً ثم سجّاها باحترام وقد تجلت في عينيه الحادتين نظرة كئيبة مليئة بالشجن .
و ما كاد ادهم يعود رويداً إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارىء على أميمة لم يعرف له علّة . بدأ بانقطاعها عن مجلسه في الحديقة فلم يسر بذلك كما كان يتوهم أحياناً . وسألها عن سر انقطاعها فاعتلّت بأعذار شتى كالعمل أو التعب . ولاحظ أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود , فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفة حقيقية , كأنما تجامله , وكأنما مجاملته عناء . و تساءل عما هنالك ! لقد مر بشيء شبيه بهذا , و لكن حبه صمد له و تغلب عليه . و كان بوسعه أن يقسو عليها , وود أحياناً لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها و شحوبها و مغالاتها في التأدب معه . أحياناً تبدو حزينة , وأحياناً تبدو حائرة , ومرة باغت في عينيها نظرة نافرة حتى ركبه الغضب و الجزع معاً . فقال لنفسه : " فلأصبر عليها قليلاً , إما أن ينصلح حالها أو فلتذهب في ألف داهية ! " .و جلس إلى أبيه في مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامي و تفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته و سأله :
نالك ؟
فرفع ادهم رأ

ليست هناك تعليقات: