الأربعاء، يناير 21، 2015

(( تقلبات السيرة الذاتية للهايكو الياباني )) 4/ 3 الهايكو للجميع :- باسم القاسم




تقلبات السيرة الذاتية للهايكو الياباني \ 4/ 3

الهايكو للجميع ... 


/ هايكو / شيكي ما

ساوكا 1867-1902 : 

باسم القاسم 
تنويه : 

السيدات والسادة الأصدقاء كثيراً ما تردد مفهوم (( المشهدية )) والتصق بقصيدة الهايكو وهناك سعي وتأكيد وتركيز لجعل هذا المفهوم محوراً أساساً لكتابة الهايكو وهو سعي محق وصحيح كون أن هذا المفهوم يعتبر أوّل إطار بنيوي يؤطر قصيدة الهايكو ويعطيها الشرط اللازم لنشعر تماماً باننا إزاء //هايكو//.. ولكن هناك هيمنة لمفهوم المشهدية على نص الهايكو فهي مشهدية ذات صفات وشروط يمليها الجذر الفلسفي الذي صدر عنه شعر الهايكو في هذه المرحلة .. 
ومن المعروف بأن الصورة المشهدية والصورة البلاغية والصورة المباشرة والصورة المركبة هي من قضايا قصيدة النثر التي اعتنى بها النقاد طويلا ولربما اعتبروا أن أي كتابة نثرية شعرية تخلو من أساليب عرض الصورة هذه تُسقط عن هذه الكتابة النثرية صفة الشعرية وفي مراجع نقد قصيدة النثر مخزونات كبيرة ومتوفرة لمن يريد الاطلاع . . 
إذا أين نص الهايكو من المشهدية المطلوبة فيه..؟ وأين هو من هذه الأساليب وبأيها يمتاز .. 
سيكون لنا مع هذا الموضوع سبحاً طويلاً سنفككه ونفرد جزئياته وأعتقد أنه سيكون من المهم التركيز عليه لتستدل الفاعلية الأدبية العربية طريقها إلى فضاءات الهايكو ولكن ذلك بعد أن ننتهي من هذا العرض التاريخي لسيرة الهايكو الياباني ..وما أوجب لكتابة هذا التنويه هو أن /تشيكي ماسوكا/ هو أول من صرّح بطلاقة ووضع حجر أساس المشهدية الهايكوية إن صح التعبير وجعل منها جوهر الشعرية للهايكو الذي لا يمكن أن يمس أو أن يتم اسقاطه وسنلاحظ في قابل الأيام أن النقض مس جميع أركان الهايكو ولكنه لم يستطع أحد أن ينقض قضية المشهدية بل اجتهد عليها واحتفل بها وأُججت لتصبح روح الهايكو المقدس .

ماذا قال هايكو / شيكي ماساوكا/ :
تبنت قصائد هذه المرحلة من حياة الهايكو مفهوم (الشاسي) "الوصف انطلاقا من الطبيعة"
( shasei ) [يترجم ألان كيرفن كلمة"shasei" بـ" مجمَل مأخوذ على طبيعته"، ويترجمها ويلي فاند وال بـ"مجمل على الطبيعة".]. فكانت موضوعة نص الهايكو ترتكز هنا بمادتها الخام على الاندماج ووحدة العالم مع الطبيعة وهنا يغرق الهايكو في أحضان فلسفة الزن ويرتكز عليها بالخصوص ففلسفة بوذية زِنْ Zen Buddhism، التي تجيز إمكانية "الاستنارة" enlightenment المتدرِّجة أو المفاجئة، أي تطهير الذهن والاتحاد مع الخليقة كلِّها والتي أُبدِعَتْ لكي تستحث الشعور بالجمال والتلقائية المفتقَدة طويلاً ..
يا له من نسيم عليل.
سرطان صغير، تحت المطر،
يتسلق شجرة صنوبر
***
أوراق اللوتس في الجدول
تتحرك فوق الماء.
أمطار حزيران.
***
العاصفة
التي دامت نصف يوم
كسرت ساق الخبَّيْز
هامش (1) :
ثلاثة مفاهيم أو مبادئ أو رياضات أو فلـنسمّها ما شئنا سادت بين شعراء الهايكو في هذه المرحلة من حياة الهايكو واستولت عليه وربما هي من أحيت الهايكو من جديد لدى اليابانيين وأعطته مجده العريق وصيرورته الحاضرة وهي
*مبدأ (sabi ) سابي : هوتحريض الشعور بالحزن (سابي sabi) أو بجمال العالم وسرِّه. وقد عمد سادة الهايكو إلى التقاط "التقاطع بين اللا زمني والزمن..."، المعنى السرِّي للطبيعة والحياة البشرية. وقد مارسوا الـسابي لكي "يختلسوا النظر إلى العدم"، بتكثيف الذات بحيث تصبح لا شيء تقريبا والشعور بالـ ـسابي يتخلَّل الهايكو، أي شعور مُلازم بوهم الوجود وزواله وجماله في الوقت ذاته. كلُّ التعلقات الشخصية تزول، ولهذا يبدو الحزن أشبه بالحكمة wisdom منه بالكَرَب anguish. بكلمات أخرى، سابي هو الاتحاد مع "اللاأنا" not-I
*مبدأ ( (satori الساتوري : إنه الحدس، لكنه أيضًا حدس مختلف تمامًا عما نألفه بهذه الكلمة
الساتوري على المستوى النفسي هو تجاوز حدود الذات، وعلى المستوى المنطقي رؤية التآلف بين النفي والإيجاب، وعلى المستوى الميتافيزيائي هو المعرفة الحدسية أن الصيرورة هي الكائن وأن الكائن هو الصيرورة. الـساتوري، كما يقول سوزوكي، "يشبه خبرة من خبرات الحياة اليومية، لكنه فوق الأرض بإصبعين وحسب". فقد تقود الأشياء اليومية نفسها إلى الاستنارة: سرطان، يزحف على قدم، غراب هاجع على غصن شجرة، صوت الماء الناتج عن قفزة ضفدع. فلحظة وقوع الـساتوري، يضيء الذهن، وتنفتح النَّفْس على العالم، ويُرى كلُّ شيء في فرادته: الزهرة في "زهريَّتها"، والشجرة في "شجريَّتها"...
إنه أعلى درجات اليقظة .
*مبدأ ( shasei ) الساشي : الوصف انطلاقا من الطبيعة بمعنى الانتقال من المجرد إلى المحسوس وأخذ وصف الأشياء كما هي بمجملها وعلى طبيعتها مجردة هكذا بدون ان تستبطنها الذات وما يفضي إلى هذا الوصف هو الاستنارة عندما تتحقَّق الاستنارة، تتلاشى الحدود يبن العالمين الداخلي والخارجي، وتختبر الوعي "الأصلي". إذ ذاك، تكون حرًّا، غير مقيد بجسمك ولا بأفكارك، فترى الأشياء كلَّها فورًا، دون تعلُّق بها يفرض نفسه على الظروف. تصبح طبيعتك صافية؛ تأتي الأفكار وتذهب، دون أن تترك أثرًا
كيف قال هايكو /شيكي ماساوكا/ :
تمتاز أسلوبية كتابة الهايكو في هذه المرحلة بالإيجاز في وصف الأشياء والوقائع ووضوح التفرد بأسلوبية التعبير الأدبي والتصويري المعتمد على الوصف البصري والأسلوب السَّلِس البسيط..
بين حين وآخر
تصير صقيعا
الريح قوية
**
على الشاطئِ الرمليِ
آثار أقدام
طويل يوم الربيع
**
أوه الخريف
في العالمِ غير محدود
آثاره
**
في ليلية عاصفة
وأنا أقرأ رسالة
العقل مُتَرَدِّد
وقد أنجز شيكي ماساوكا أعظم وأهم مشروع في الحياة الشعرية اليابانية إذ أنه قدم كياناً مستقلاً وشكلاً فريدا منضبطاً واخرجه للعالم تحت مسمى ((هايكو)) فقد أنكر شيكي قيمة الهايكاي –رينغا ورفض استخدام لفظة الهوكو أو الهايكاي واستبدلهما بلفظية ((هايكو)) = طفل الرماد وكأنه يعلن ولادة كيان شعري مستقل بذاته وهذا ما حصل فعلا واتبعه كل الشعراء اليابانيين حتى اليوم وقد أصبح الهاياكاي- رينغا يطلق عليه اسم (رينكو) واصبح القليل من المختصين من يهتم به ..
هامش (2)
يؤكد /ريو توسيا/ أن لاطلاع/ شيكي ماساوكا /على الثقافة والنقد الغربي أثر كبير على نسخة الهايكو هذه فقد اعتقد تماماً أن الوصف البليغ الموجز هو الأهم للتعبير الأدبي وتصاويره، لهذا امتاز أسلوبه باللطف والإيجاز والتركيز . وهنا نتلمس عملية تلاقح بين مبادئ الزن وثقافة النقد الغربي من ناحية تأثيرهما على أسلوب الكتابة الشعرية والحراك اللغوي الذي يمارسه الهايكست في القصيدة وهذا ما يسمح لنا بكل رحابة صدر أن نسعى في ((شكلنة)) قصيدة الهايكو اليابانية وترجمة جميع مبادئ فلسفة الزن التي تبناها الهايكست إلى حالة لغوية وممارسة نحوية .. ففي هذه المرحلة التي عبرها الهايكو أصبح شكله الكتابي مقنن ومحدد وقابل للتأطير لغوياً وهذا ما أسهب شيكي ماساوكا في الحديث عنه ليعطي صفة الكيان اللغوي للهايكو وقد كان صريحاً وواضحاً بل وجريئاً في هذا الصدد في حديثه عن ( الوصف البصري /التعبير الأدبي التصويري/ البساطة والسلاسة / الايجاز والتركيز ) وهذه كلها لها علاقة بأسلوبية الكتابة اللغوية وبنيوية النص ولعل هذا التوجه لدى ماساوكا بدا واضحاً خصوصا مع النقد والانتقاد اللاذع الذي وجهه لكتابات باشو وقال : أن الصفاء الشعري ينقصها ويثقلها أحياناً بعناصر النثر والتفسير مما يتخطى طبيعة القصيدة
السيدات والسادة :
من الواضح أن ما تم تعميمه في القراءات الناقدة لنصوص الهايكو من قبل الأقلام العربية لم يتعد الغوص في فلسفة الزن وسحب النص دائماً إلى المبادئ التي تحدثنا عنها وهي
(( Sabi __ shasei __ satori )) مما أعطى انطباعاً أنك يجب أن تغوص في مبادئ الزن وترتدي ثوب رهبنته لتصبح جديرا بكتابة الهايكو وهذا ما تسبب في السعي لدى البعض لجعل قصيدة الهايكو قصيدة نخبوية وقد أصبح الحديث عنها يأخذ منحى احتكاري وهناك من رفضها سلفاً بسبب التركيز على أنها فقط أحد منتجات بوذية الزن هذا برأيي خطأ فادح وممارسة ظالمة .. سنحاول هنا معكم أن نتلافاه وننتهي من هذا الجنوح نحو آفة تعالي المثقف .. ستصبح كتابة الهايكو بمتناول الجميع حين يعرفون بانها قبل كل شيء كيان لغوي له أسلوبه اللغوي وله مادته من المعاش اليومي مثلما أتحدث عن الترصيع والزحاف والجناس والطباق والوقوف على الأطلال والتشبيب ..إلخ في قصيدة الشعر العمودي ومثلما أتحدث عن التفعيلة ومجازاتها والصورة وتركيباتها في قصيدة التفعيلة ومثلما أتحدث عن أقانيم القصيدة النثرية ..
أصدقائي :
سنجد في المراحل القادمة التي سنتحدث عنها أن اليابانيين قاموا جاهدين بالتخلص والتخفيف قدر الامكان من هذه النزعة وذلك لإعطاء الهايكو صفة العالمية والحداثة وقبل أن يقدم لنا أحد بعض الأصوات التي تمسكت بهذا المنحى سأقول بأن هذا النزاع بين التقليدي الكلاسيكي والحداثي والمعاصر قد اندلع في معظم نماذج الشعر نجده عندنا بين متمسك بعمود الشعر ورافض لكل مخالف له وبين مجتهد عليه ومطور للحالة الشعرية العربية والجميع على ما أعتقد على دراية كافية بهذا الموضوع .
إذاً سنتفق على أن أي كتابة شعرية هي نابعة عن تأمل قد يكون ذا طابع فلسفي أو ديني أو عفوي وهذا التأمل يقوم بالتعبير عنه الشاعر بأسلوبية شعرية لغوية معينة .. وكذلك هو
(( الهايكو)) ذو منشأ تأملي وبنفس الوقت له أسلوبية شعرية لغوية معينة ولابد أن لايطغى أحد طرفي المعادلة هذه على الآخر وربما تبقى الاسلوبية الكتابية (( الشعرية)) هي التي تأخذ دور البطولة في هذه الملحمة التي نسميها ((هايكو)) .
سنتابع معاً جهداً وافيا من كل الرائعين والبنائيين والايجابين من عشاق الهايكو في استنباط الشكل الكتابي للهايكو العربي وحراكه اللغوي الخاص ..أمام هذا العالم الزاخر المجنون بأحداثه وتركيباته وأحداثه المتسارعة الكارثية والعجائبية سأقول فلنجعل من بوذية الزن نكهة وحسب ولتكن وليمتنا العامرة وليمة لغوية..
تقبلوا خالص مودتي واحترامي
وإلى لقاء ..
المراجع :
* تاريخ الهايكو الياباني / ريو توسويا
*مدخل لدراسة بوذية الزن /موسى ديب الخوري
*في كتابة الهايكو وشعرية التجربة / د.عاشورفني
*هامش (1) (2) دراسات موت اللغة /باسم القاسم
* من روائع الهايكو / ترجمة عبد النبي ذاكر

ليست هناك تعليقات: