الاثنين، يونيو 22، 2015

المدونة تنفرد بنشر مقالات نقدية "التجريب خارج المتن" . بقلم الشاعر والناقد / صلاح فايق




الفصل الأول
التجريب خارج المتن

كان اعتناق الجيل الستيني لـ(قصيدة النثر) التي تزامنت مع هذا الجيل قد أحدث انعطافا مفاجئا في مضمار القصيدة لأنه أحدث نقلة كبرى فتحت الباب واسعا أمام التجريب الجديد ولاسيما أنها قد أثرت الأدب بالتنويعات الشكلية واللغوية التي ما اعتاد الشاعر العربي عليها سابقا، فراح الشعراء يزاوجون بين أشكالهم الشعرية واستخداماتهم اللغوية مما وسم قصيدتهم بصفة إغرابية غامضة أصبحت على غرارها النصوص في كثير منها عبارة عن طلاسم شعرية ربما أعيت فكر القارئ وأجهدت عقله وهو يحاول فك التباس هذه الأصناف الجديدة . 
لذلك حاول القارئ تجريب السبل كلها التي من شأنها أن ترضى طموحه في الوصول إلى مداليل النصوص الشعرية ولو كان ذلك من خارج المتون .
في السابق كان يصار إلى معرفة النصوص من خلال معرفة الظروف المحيطة بالنص من حياة الشاعر ، والحياة الاجتماعية التي رافقت النص وصولا إلى ظروف إنتاج النص ، وكأن هذه الأمور مرايا عاكسة لما تحمله النصوص من معان ، لذا جاءت نصوصهم نوعا ما تقريرية واضحة الدلالة على أكثر الأحيان .
أما بعد أن تغيرت الفكرة من خلال عزل المؤلف عن النص وعد النص كتلة مستقلة عن مؤلفه ومكتفيا بذاته فقد راح يصار إلى منبهات قريبة من المتن وإن عدت في السابق غير موجودة أو غير لافتة للنظر لأنه ((إذا كان بالإمكان تأجيل معلومات مرحلة ما قبل النص للتعرف إليها ضمن النص نفسه وما يطرحه السياق أو البناء ، فإن من غير الممكن تجاهل ما يلي النص من كيفيات تتعلق بتقديمه وإيصاله ، ويدخل في عناصر عدة منها : العنوان ، عبارات التقديم ، عبارات الإهداء ، الهوامش ، الفواصل ، المكان والزمان إن وجدا)) () إذ أخذت هذه الأمور حيزا واسعا في الدراسات النقدية الحديثة ، لما لها من أثر بالغ في تفكيك الرموز وإزالة الغموض من على سطوح النصوص ولا سيما أن الشاعر الحديث أصبح يعطيها أهمية خاصة من أهمية المتون ، بوصفها مفاتيح القراءة وسر مدلولاتها . لذلك صار على القارئ الحديث الربط بين هذه الخطوط المتفرقة لمعرفة ما يحتويه المتن من قيمة تعبيرية علاوة على قيمته الخارجية ومدى إسهام النص كقيمة معنوية فضلا عن قيمته الجمالية ، وإن كانت نصوص شعراء هذه المرحلة لا تعتني القيمة الإيصالية أكثر من اعتنائها بالقيمة الفنية ، لكن ذلك لا يعني أن الشاعر يكتب من دون رؤية يؤمن بها ويحاول عكسها على سطوح البياضات الورقية، ولأجل جلاء الغموض ، ومعرفة علاقات المتون بما يحيط بها سنتعرف على كل ما يقع خارجها وما له تأثير مباشر عليها بصورة أكثر تفصيلا من خلال التوقف عند كل واحدة من هذه الأمور .
1- العنوانات .
لقد أخذت العنوانات حيزا واسعا في الدراسات النقدية الحديثة بعد أن غيبت ، أو لم تكن ذات أهمية تذكر في التراث ، إذ لم يكن الشاعر يعتني بعنونة قصائده فجاءت القصائد بلا عناوين ، أو أخذت القصيدة عنوانها من قافيتها مثل لامية العرب وغيرها . في حين أن العنوان صار جزءا من الشبكة الدلالية للنص الشعري ، لذا تفنن الشعراء في اختيار عنوانات قصائدهم إذ جعل العنوان بؤرة تتجمع فيها دلالات النص الشعري () منذ العصر الحديث .
لذلك شرع النقاد في دراسة النصوص الحديثة التي اختلفت عن النصوص القديمة من حيث الإيحاء والتكثيف والإثارة والوحدة العضوية إذ أصبحت اللغة في القصيدة الجديدة إيحائية واستعارية أكثر منها تقريرية مباشرة ، ولم تعد القصيدة تحتوي على مقاطع تستبق الغرض المباشر للنص لذا احتاج النقاد إلى ما يدلهم على جمالية النصوص ، ولا يعرف ذلك إلا من خلال تفكيك النصوص وإعادة ربطها من جديد ، والعنوان هو أحد الميكانزمات التي تدفع عجلة الدلالة نحو التوحد والتعبير . لذا انقسمت العنوانات على مجموعتين الأولى عنوانات المجاميع الشعرية والثانية عنوانات النصوص ، على الرغم من أن الفرق بينهما واضح إلا أنهما قد يتفقان من حيث الدلالة فبنية عنوان القصيدة ((هو الذي يحدد هوية القصيدة والأساس الذي تبنى عليه)) () في حين أن عنوان المجموعة هو البؤرة التي تتجمع فيها القصائد مجتمعة . لذلك يكون أكثر تركيزا وكثافة لأنه يعطي صورة أولى ، أو مفتاح أول لكل نص داخل المجموعة ، فالقارئ عندما يتناول المجموعة الشعرية أول ما يقف على عنوانها وفي بعض الأحيان يكون هو المحفز إلى قراءة المجموعة لما تتركه قراءة العنوان من انطباع معين على مخيلة القارئ ثم من بعد ذلك الدخول إلى النصوص الشعرية التي تحمل هي الأخرى عنوانات خاصة ، لذلك ((إن دراسة العنوان تحمل في طياتها محورين :
1- المحور التاريخي التطوري ، حيث تنطوي البنية اللغوية للعنوان على وعي اللغة بانعكاس الواقع الاجتماعي والشخصي للشاعر .
2- المحور الفني الجمالي ، وفيه تبرز أهمية بنية العنوان اللغوية في وعي الشاعر بالتطور الدلالي لبنية العنوان وارتباطه بالمؤثرات الثقافية)) () .
وقد مال الستينيون في انتقاء عنوانات مجموعاتهم تماشيا مع روح التجريب والمغامرة وما يحملوه من رسالة أدبية يبغون إيصالها إلى القارئ ، فكانت العنوانات الشعرية إضاءة ثقافية لما حملوه من فكر رافض أنتجته ظروفهم السياسية وما شاهدوه من سجون واعتقالات وانتفاضات متواصلة ، فجاءت مجاميعهم تندد بالاضطهاد والظلم ، وتحاول تغيير الواقع المأساوي الذي كانوا عليه .
فالمتتبع لنتاجاتهم الشعرية وما أصدروه يقف على نتاجات تجريبية ثرة حاولت نسف القديم لتترك المجال مفتوحا أمام الإبداع من دون إرهاصات تراثية أو قوانين تعسفية كما هم يرونها لذا جاءت نصوصهم إيذانا بالعهد الجديد أو الموجة الجديدة .
إن هوس التغيير في نتاجات الستينيين على أوجه ، فجاءت عنواناتهم تعبيرا عن حاجتهم الفكرية إلى ما يحقق أحلامهم فكتب العزاوي ((سلاما أيتها الموجة سلاما أيها البحر)) () إذ لم تكن الأمواه هنا غير أمواه تجريبية انقلابية أحدثت موجة جارفة لكل ما يعترض طريقها من أشياء إذ يقول :
أنا الموجة والبحر سلاما أيها البحر تقدم
واجرف القلب الجريح 
لمفازات العصور ()
فالموجة هنا التجريب الذي نادى به هو وجماعته فحاولت اكتساح الراكد والساكن من أمامها ثم تلاها بعد ذلك (الأسفار) () ثم (الشجرة الشرقية) () ثم (فراشة في طريقها إلى النار) () انتهاء بـ(صاعدا حتى الينبوع) () التي أعاد فيها طبع المجموعتين الأوليين ، فضلا عن الروايات .
إن مجرد النظر إلى هذه العنوانات يوحي بالتحول الحاصل في الشعرية الحديثة إذ إن طابع الحركة والتغيير ذات أبعاد أيديولوجية وواضح هذا من خلال استخدام مفردات الموجة والأسفار والطريقة والصعود وما إلى ذلك من نمو متدرج نتيجة الألفاظ الحركية إذ إن كل لفظ من هذه الألفاظ ينم عن تحول حاصل في الذائقة الأدبية وأسلبة حديثة ابتعدت عن الغنائية المفرطة التي كانت سابقا ، هذا فضلا عن كتاباتهم النقدية . ودلالة على الهدف الأساس في التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي .
فدلالة العنوانات هنا دلالية قصدية إذ لم تقتصر على شاعر محدد وإنما تضافرت الجهود جميعها من أجل الابتعاد عما بدأ به سابقوهم مثال ذلك أصدر سامي مهدي (أسفار جديدة) () و(أسفار الملك العاشق) () وكذا الأمر بالنسبة إلى خالد علي مصطفى الذي أصدر (سفر بين الينابيع) () . إذ إن إصرارهم على عنونة قصائدهم بالسفر له دلالة تغييرية لا سيما إذا عرفنا أن السفر هو الانتقال من وإلى وما يصاحبه من مخاطر ومفاجآت وما إلى ذلك .
لذلك كان لعنوانات مجاميع فاضل العزاوي دلالتان : دلالة المرحلة التي كانت عليها مشاريعهم المستقبلية ، ودلالة القصائد التي حوتها هذه المجاميع من تجريبات إبداعية استطاع من خلالها الشاعر المزاوجة بين هاتين الدلالتين .
أما سركون بولص فقد افتتح صدور ديوانه الأول (الوصول إلى مدينة أين)() طاولة الصراع لكن بصورة عشوائية إذ لم يحدد الهدف ، إنما أراد الخروج على ما هو عليه ليس إلا وأن كلفة ذلك منفى ، إذ إن القارئ عندما يتناول هذه المجموعة يجد أنه موزع بين نصوص لا يفضي أحدها إلى الآخر حتى وإن كتبت كتابة قصدية فهو يقول : ((تبدأ المجموعة بكلمة وصلت ، وتنتهي بكلمة ذهبت))() وهذا ما يدلل على عدم الاستقرار ، وانعدام النهاية لدى سركون . ثم تلتها مجاميع أخرى هي على التوالي (الحياة قرب الأكروبول) () و(الأول والتالي)() و(حامل الفانوس في ليل الذئاب) () وأخيرا (إذا كنت نائما 
في مركب نوح) () وكل هذه المجموعات أعطت انطباعات حركية مستمرة من خلال (الحياة) و(حامل الفانوس) و(مركب نوح) إذ لا انتهاء لتجريبية هذه المرحلة من خلال عنوانات مجموعاتها وهي متشاطرة ما بين الإبصار كـ(حامل الفانوس) أو الثقة بالنفس من خلال (مركب نوح) .
وكذلك الأمر مع صلاح فائق الذي استهل مجاميعه بـ(رهائن) () ثم (تلك البلاد) () ثم (الطريق إلى البحر) () ثم (مقاطعات وأحلام) () ثم (رحيل)() إذ إن دلت هذه العنوانات على شيء إنما تدل على حجم التغيير الذي حصل في ثقافة الشعراء ومدى إسهامهم الفاعل في تغيير المجتمع من خلال تغيير الذات .
إن تجريبية جماعة كركوك للعنوانات لم يكن في وجودها فهي موجودة قبلهم إنما كانت في طريقة استخدامها بوصفها ((عناصر ومؤشرات تتحكم في توجيه القراءة وإنتاج شروط دلالة المدلولات)) () .
أما بشأن عنونة النصوص فـ((يؤلف العنوان على مستوى التعبير مقطعا لغويا يعلو في النص وتتحكم به قواعد نحوية وسيميائية تعمل على بلورة موضعه وتحديد رؤيتها وترميز دلالتها في مفردة أو عبارة ذات أجزاء تتعاقب لأداء وظيفة وتأسيس وجهة نظره من التركيب العام للنص)) () .
لذلك ((ينطوي موقع العنوان في أعلى النص على دلالتين متباينتين الأولى مكانية والثانية زمانية فهو أول ما تقع عليه العين ، وقد يحتاج المتلقي إلى العودة إليه بعد قراءة النص ليتأكد من علاقة العنوان بالنص ، وهو أكثر أجزاء القصيدة رسوخا بالذهن بعد أن تهدأ ثائرة الألفاظ ولا يبقى منها إلا أشدها توهجا وتوترا . أما الموقعية الزمانية للعنوان في النص الشعري فهو أمر يحتاج إلى أكثر من دليل للتأكد من مجيئه قبل النص أن بعده)) () ويرى د. عبد الله الغزامي أن ((العنوان في القصيدة هو آخر ما يكتب منها ، والقصيدة لا تولد من عنوانها ، إنما العنوان هو الذي يولد منها ، وما من شاعر حق إلا ويكون العنوان عنده هو آخر الحركات)) () وسواء أجاء العنوان قبل النص أم بعده لا يهم بقدر ما يهم كون العنوان متداخلا مع النص أم لا إذ ((عن طريق العنوان تتجلى جوانب أساسية أو مجموعة من الدلالات المركزية للنص الأدبي 000 ويصبح الشروع في تحليل العنوان أساسيا عندما يتعلق الأمر باعتباره عنصرا بنيويا يقوم بوظيفة جمالية محددة)) () .
لذا إن دلالة العنوان تحدد دلالة القصيدة وقد كتبت جماعة كركوك قصائد تجريبية فكان طبيعيا أن تحمل هذه النصوص عنونة جديدة من مثل ((أنا الصرخة أي حنجرة تعزفني ، وتعاليم فاضل العزاوي إلى العالم ، ونزهة المحارب ، وعويل العنقاء)) () وغيرها إذ إن هذه العنوانات تبين بشكل واضح ثورة الستينيين على سابقيهم وانتهاء العهد القديم إذ كرر فاضل العزاوي في قصيدة (أنا الصرخة) مثلا كلمة (جيلي) سبع عشرة مرة وكأنه يؤكد مفاهيمهم الجديدة في التجريب والمغايرة من خلال استنهاض الجيل الذي هو فيه والذي يرى أنه قادر على قلب الموازين السابقة، وكذلك في قصيدة (تعاليم فاضل العزاوي) إذ يستخدم في هذا النص مختلف الأساليب التجريبية كالكولاج والبوستر والإعلان حتى الصور الشخصية . مما يدلل على أن النصوص التجريبية تؤكد هذه التنويعات الخطابية وغيرها .
أما سركون بولص فقد تراوحت عنواناته بين الانقلاب والرحيل من مثل ((هناك رحلات ، لن أنتظر أكثر ، قصيدة في كل لحظة ، وقصيدة عندما تنطلق صرخة))() وبين ((إرشادات في الطريق إلى الجمرة ، مسافرون في اللحظة التالية، ثم ، هنا ينتهي العالم المعروف)) () وهذا ما يبين حجم التغيير الحاصل في العنونة الشعرية ومدى اندفاع الشعراء الستينيين في الانفصال والمغايرة . إذ قصيدة (إرشادات في الطريق إلى الجمرة) تحاكي قصيدة التعاليم لفاضل من حيث الاستخدامات المتنوعة وتعدد الخطابات داخل النص الواحد ابتداء من استخدام النثر ثم السرد الروائي ثم الحروف والأرقام والكلمات الأجنبية حتى استخدام صدى الأصوات ، وكذلك قصيدة (هنا ينتهي العالم المعروف) إذ تحمل عنوانات فرعية كثيرة مثل ((بقيت هذه الطريق ، أوامر من الغد ، شرقا حتى الموت ، مشهد باتجاه واحد ، حالة إنذار)) () وغيرها فكل هذه العنوانات تؤكد انتهاء حقبة الرواد وتبشر بميلاد عهد جديد تأخذ فيه النصوص أبعادا جديدة غير التي كانت سابقا من خلال اشتمال النصوص على مختلف المصادر الخطابية واختفاء النزعة الغنائية والحس الرومانسي الذي كان مسيطرا على غالبية النصوص الشعرية القديمة .
إن تجريب الستينيين انحرف عن كل ما هو شائع فأنتج نصوصا تركت فيها دلالات العنوان مفتوحة وهذا متأت من دلالة النصوص المفتوحة التي جاؤوا بها لقد أدرك الستينيون أن التعبير المباشر قد يفضي إلى استهلاك النصوص ونفاذ قابليتها على الاستمرار لذلك تركوا الفضاءات مفتوحة وتحمل أكثر من دلالة ، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل جاءت بعض النصوص من غير عنوان لتدلل على اتساع فضاء التأويل وعدم اعتماد القارئ على تأويل محدد يستنتجه من العنوان ، لذلك كتب (جان دمو) أربعة عشر نصا شعريا () من دون عنوانات كما في النص الآتي : 
((000000000000000))
((النهار وأعاجيبه ينزلق في 
الجيب : أوقد شموع الحب ، بينما الغابات 
تغفلني وتحيل صبواتي
إلى رماد : أية حكاية لا 
تصدي فيها انهيارات الزمن ؟ 
خلو البال حال عظيمة 
والهناءة سيدة أقواس قزح 
المشاعر))() 
إذ إن إغفال دور العنوان هنا والاستعاضة عنه بأقواس بينها نقاط قد أبهم دلالة النص وشوش على القارئ ما تفضيه الكلمات مما دفع النقاد إلى احتساب نصوصه مبتورة ومنهم حاتم الصكر إذ يقول ((بعض قصائد – جان دمو – أظن أنها مبتورة لسبب أو لآخر)) () فغموض دلالة النص وعدم ترك منفذ للقراءة أعطى مجالا واسعا لأن يتهمه الناقد في أكثر من ذلك من مثل ((تعطي مفتتحات القصائد ونهايتها انطباعا بعبثية الكتابة الشعرية)) () وكذلك يقول ((غالبا ما ينهي جان دمو قصائده باحتمالية تنسف أي تعيين أو تحديد مثل ، ربما ، أو ، النفي ، الاستفهام))() وهكذا في حين أن هذه القراءات القصدية ربما أجحفت دور التجريب وحتمت على الشاعر التعبير المباشر وإنتاج دلالات واضحة وهذا مما يهمش دور الإبداع . نعم إن الغموض القاتم هو مضيعة للوقت وقتل للنصوص لكن البحث عن المعاني ربما يفقد المتعة ، ويصرف النظر عن جمالية النصوص إلى دلاليتها ولا سيما أن جماعة كركوك كانوا يعتنون بفنية النصوص لا بإيصاليتها .
2- المقدمات والإهداءات .
إن انغماس الشعراء من الجيل الستيني في تجريبهم وسعيهم الدائم وراء المغايرة إصرارا منهم على التفرد وإشباع الذات من خلال الابتداءات الجديدة أدى إلى تشكيلهم أنساقا اتصفت بالغموض والغرابة مما أثار حفيظتهم بعد أن وجدوا أن نصوصهم مشتتة الدلالة فعمدوا إلى تزويدها بمقدمات وإهداءات توجه النصوص من الخارج وتعطي للقراءة تصورا سابقا عنها .
لذا هي إعطاء فكرة عن النص قبل قراءته ، إذ تقوم في دور الوسيط بين القارئ والنص تسهم في إجلاء غموض النص وتوجيه القراءة على وفق ما يراد لها أن تكون أو ما يرغب الشاعر في أن تكون عليه .
لذا تختلف المقدمات عن الهوامش في أنها تسبق النص على عكس الهوامش التي تلي النص ، كذلك هي تغطي النص كله ولا تغطي ما غمض من النص كما في الهامش ، وقد جاءت المقدمات عند جماعة كركوك متعددة ، إذ تصدرت المجاميع الشعرية تارة ، وتصدرت النصوص تارة أخرى ، فقد عبرت المقدمات عن تجريبية الشاعر واتجاهه إذ جاء في مقدمة (الأسفار) لفاضل العزاوي الآية الكريمة قال تعالى : قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ () فاستغلال الشاعر فرادة الإبصار والرؤية لدى السامري ليعبر بها عن الاتجاه الجديدة في الشعرية العربية والخروج عن الآخر وكأنه رأى ما لا يراه غيره فابتدع ما لم يسبقه إليه أحد . إن ما جاءت به النصوص يعبر – من وجهة نظر الشاعر – عن ادخار الرؤية إليه دون غيره . لذا إن مقدمة الديوان أعطت تصورا عن أن ما يلي التقديم تجربة جديدة ، وهذا ما قصده الشاعر وحاول إثباته من خلال النصوص ، إن وجهة النظر الجديدة التي حملتها المقدمة جاءت مغايرة للمألوف السابق . وكذلك فعل سركون بولص في ديوانه (الحياة قرب الإكروبول) إذ قدم المجموعة بقول ثيودور ريتكه : (في أزمنة الظلام ، تبدأ العين بالرؤية) فإخبار الشاعر بـ(أزمنة الظلام) له دلالتان : الأولى دلالة الأزمنة التي تحسب بالدقائق والساعات والشهور والسنين وهذا ما قصد به الزمان الذي وجد فيه قبل أن يحاول تغييره والثانية الظلام الذي خيم على تلك الأزمنة ، فاختيار لفظة الظلام له علاقة في الرؤية إذ يحاول إعاقتها فاستغل الشاعر ذلك ليقصر الأمر على نفسه في حالة فريدة . إن مثل هذه المقدمات تطرح على القارئ مجموعة كبيرة من التساؤلات وهو يقف أمام النصوص ودلالتها مما يعطي دافعا للقراءة والاكتشاف ولا سيما هي توحي بأن ما تحمله النصوص سيكون مختلفا .
بيد أن مقدمات المجاميع لم ترد على وتيرة الاقتباسات فقط بل وضع الشعراء مقدمات شعرية كجزء من العملية الإبداعية للمجموعة كاملة إذ قدم جان دمو مجموعته أسمال بقوله :
((حبيبتي 
فمك حمار كهربائي 
حيث أسناني تسافر مع الريح)) () .
إذ إن التأثير السريالي والنقل الآلي للألفاظ جاء واضحا من خلال ألفاظ النص ولا سيما (حمار كهربائي) و(أسنان تسافر) وهذا ما اصطبغت به المجموعة كاملة. وكذلك فعل فاضل العزاوي في مجموعته (الشجرة الشرقية) إذ قدم المجموعة بقصيدة أسماها (الفاتحة) حملت دلالات المجموعة كاملة من خلال الشمول والتعدد الذي اشتملت عليه أبيات القصيدة مجتمعة .
وقد جاءت المقدمات متصدرة النصوص الشعرية ، ولكن بطرق مختلفة ومتعددة إذ شغلت المقدمة جزءا من النص كما جاء عند فاضل العزاوي إذ يقول :

((لافتة مرفوعة فوق رمال الجزيرة العربية 
يقرأها أعراب فقراء
ممنوع أن أكتب أسمائي
أن أرثي جيلي
أن أسرق شيطانا من عاصمة الله)) () .
فالتقديم كان من مفردات النص التي لا يمكن الاستغناء عنها لأنه يبين ماهية المفردات التالية له ، وربما يكون فاضل العزاوي من أكثر شعراء جيله في هذا المجال فقد أخذ التقديم عنده حيزا كبيرا إذ اشتملت نصوصه الأول في المجاميع الخالية من تقديم على مقدمات حملت دلالات النصوص الأخر ولا سيما في (فراشة في طريقها إلى النار) إذ جاء فيه ((إني لأخشى كثيرا أيها الأعرابي إنك لن تبلغ الكعبة لأن هذا الطريق الذي تسلكه يؤدي إلى تركستان)) () فالتقديم حمل دلالة المجموعة وإن لم يكن في صدرها إذ توهان الأعرابي يفسره عنوان المجموعة ، وكذلك ثقافة الشاعر وأسلوبه ولا سيما إذا قارنا بين مجموعة الشاعر الثانية (الأسفار) وبين هذه المجموعة إذ تخلت (الفراشة) عما جاء في (الأسفار) وذلك واضح من خلال مقدمتيهما ، إن عناية الشاعر بالمقدمات لم يكن في المجاميع الشعرية فقط بل تعدى ذلك إلى النصوص المفردة التي لم يتضمنها ديوان كما في (معراج الرائي) إذ قدم النص الأول بعبارة ((إلى أين أزمعت هذا المسير ؟ وهل يرحل المرء من غير زاد ؟)) () فالعبارة أخذت مكان تقديم المجموعة بمكانها ودلالتها على الرغم من أنها تصدرت النص الأول فقط .
أما عند سركون بولص فقد اختلف الأمر فهو لم يعتن بتقديم النص الأول كما فعل فاضل بل ترك التقديم يأخذ مكانه أيا كان ، وقد جاءت مقدماته ، إما تماشيا مع حلم التغيير والتجريب ، إذ جاء في إحدى مقدماته ((من أجل أن نعبرك كم من الأبناء سهروا عبثا ، وكم من الأمهات بكين ، كم عروسا عاشت عانسا حتى موتها لكي تكون لنا أيها البحر)) () فالعبور الذي يحلم به الشاعر هو الانتقال والتخطي لموجة السابق إذا ألم الشاعر في الوصول إلى مبتغاه جعله غير مبال في حجم الخسائر التي سوف يتعرض لها وهو يتخلى عما قاله الشعراء قبله . وقد تبرز أهمية التقديم وعلاقته الوثيقة بالنصوص حينما يكون التقديم عنوانا للمجموعة كما في تقديم (حانة الكلب) إذ جاء فيه ((إذا كنت نائما في مركب نوح وأنت سكران فما همك لو جاء الطوفان)) () فعنوان المجموعة هو جزء من مقدمة القصيدة ، فتطابق الدلالة بين عنوان المجموعة والمقدمة لا يستوجب المجاورة أو التقارب في الأمكنة بقدر ما تستوجب الدلالة المضمونية المتعاضدة فيما بينها مما يولد قصدية واضحة .
أو قد يكون متن القصيدة مبنيا على تقديمها إذ يضع الشاعر التقديم ثم ينسج فكرته على غراره ، فقد قدم قصيدة له بقول دافنشي ((بمجرد التحديق في السقف يمكنك أن ترى الكون)) () إذ جاء في المتن ((أرقد على ظهري محاولا أن أنام لكنني بدل أن أنام أحدق إلى الساعة الخامسة صباحا في سقف)) وهكذا .
أما الاهداءات فقد عملت ماعملته المقدمات من توجيه النصوص وتكثيف دلالتها في الاستكناه والتأويل لا سيما وهي موجهة إلى شخص محدد مما يعطي النصوص صورة أولية أو استباقية عن قيمة النص وإيحائيته إذ ((إن الإهداء يوجه القصيدة باتجاه المهدى إليه ، ويفسر كثيرا من نداءاتها)) () وقد ترد الاهداءات متصدرة المجاميع الشعرية كما حصل عند سركون بولص في (الحياة قرب الأكروبول) إذ جاء الإهداء ((إلى كاظم جهاد في قلب الأكروبول، بالضرورة))() فقد يمثل الإهداء دلالة مركزية تنعكس على المجموعة كاملة مما جعل الشاعر يثبت في النصوص ذكريات عاشها في كركوك وحاول توثيقها . وكذلك إهداء مجموعته (إذا كنت نائما في مركب نوح) إذ حمل الإهداء ((إلى يوسف سعيد (الأب) في ذكراه الدائمة وإلى أدونيس سيد الهجرة في أقاليم النهار والليل)) () فتأكيد الشاعر على الهجرة والانتقال جاء متطابق الدلالة بين العنوان وبين الإطراء على أدونيس وهذا بدوره يشاكل نصوص المجموعة التي كان الاختلاف فيها واضحا عن مثيلاتها لدى الشاعر ، إلا أن ذلك لم يلق حظه عند فاضل العزاوي إذ لم ترد الإهداءات لديه إلا في مجموعته الأخيرة إذ جاء الإهداء باللغة الإنكليزية ((إلى Srephen W. Hawking))() وهذا مما ابتدعه الستينيون في استخدام اللغة الأجنبية .
والملاحظ أن التوافق بين المقدمات والاهداءات من حيث العمل كبير ، إلا أنهما يختلفان من حيث الصياغات إذ إن الغالبية العظمى من المقدمات كانت عبارات يقتبسها الشاعر من غيره أما الاهداءات فقد كانت بتعبير الشاعر نفسه دون اقتباس ، مما يدل أن علاقة الإهداء بالشاعر أكثر على خلاف التقديم الذي يظهر علاقته بالنص أكثر ، كذلك إن الاهداءات فقدت الكثير من إيحاءاتها لوضوح دلالتها ، أكثر من المقدمات التي ربما جاءت لتعطي بعدا أكثر من الإهداء ، لذا لم تأخذ الاهداءات حظها الكافي عند جماعة كركوك مثلما حظيت المقدمات .
3- الهوامش .
وهي ((إضاءة معالم من متن القصيدة وقراءتها قراءة ذاتية من خلال مستلات أو تعليقات أو إيضاحات تقدم في جانبي القصيدة أو في أسفلها)) () فهي تنازلات يقدمها الشاعر عن نصوص أحس إنها جاءت بعيدة عن تعبيراتها الداخلية ، وربما حملت القارئ على الابتعاد عما يحاول التدليل عليه .
لذلك هي قراءة أولى من الشاعر نفسه يقدم فيها إيضاحات ضرورية تخدم النص وتسهم في إشراقياته وقد أسماها د. محمد مفتاح بالشرح الذي يرى أنه ((أساس كل خطاب وخصوصا الشعر)) () .
فالهوامش تعطي مفاتيح ما غمض والتبس على القارئ من تعابير ربما تكون هي محل إشكاليات النص لأن النص إنما يدور حول ثيمة معينة داخلية كانت أم خارجية طرحها الشاعر في لا وعيه الإبداعي وقد وجدت الهوامش لإظهار هذه الثيمة وتفعيل دور القراءة ، فهي تعمل بصورة ارتدادية إذ ترجع القارئ إلى النص بعد أن انتهى من قراءته بسبب كونها تأتي بعد النص ، فالقارئ عندما يقرأ النص ربما يتنازل عن تصوراته التي كونها بمجرد وجود الهوامش ، لكن ذلك لا يعني أن القارئ ملزم بقراءة الشاعر إذ قد يجد القارئ في النص ما لم يره الشاعر أصلا ، وقد يشرح الشاعر ما يحس أنه محل إشكال القارئ ، وقد اختلفت الهوامش لدى جماعة كركوك بين أن تكون ملاحظات داخل النصوص أو خارجها توضع في نهاية المجموعة الشعرية لتوضيح فكرة أو ترجمة مصطلح أو غيرهما ، وقد كتب فاضل العزاوي في (تعاليم فاضل العزاوي) داخل المتن ((ملاحظة : من أجل اختصار هذا المقطع أرجو القراء أن يضعوا تاريخ اليوم والشهر اللذين سأموت فيهما فقط (بعد وفاتي بالطبع) بدل ذكر كل أيام الأسبوع أو أشهر السنة)) () فإيراد الملاحظة هنا داخل المتن يلفت نظر القارئ إلى أنها جزء من المتن وأن هذا النص قابل للحركة والتغيير بزيادة أو نقصان ، وهذا مما يفعل دور القراءة ولا سيما أن القارئ يقوم بحذف أجزاء من نص الشاعر ليضع تاريخ الوفاة وهذا يتم على وفق رغبة الشاعر نفسه ، مما يعني قيام القارئ بالعملية الإنتاجية .
وقد توضع الملاحظة في نهاية المجموعة كما أسماها سركون بولص ((ملاحظات على القصائد)) () إذ بين فيها ظروف إنتاج النص وزمانها وهي تسهم في تحديد مدى التطور الحاصل في تجريبية الشاعر وإبداعه ، كما تحدد الحقبة الزمنية التي جرب بها الشاعر نصوصه إذا علمنا أن لكل حقبة زمنية تجريبية خاصة تختلف عن التجريبيات السابقة .
بيد أن الهوامش لم تقتصر على الملاحظات بل وردت على شكل إشارات تلحق النص الشعري كما جاء عند فاضل العزاوي إذ يقول :
((1- لم يكن الهروب ممكنا على الإطلاق الأسلاك مكهربة وجنود الرابية يصوبون بنادقهم إلى ظهري .
2- أعني بالشهر الكامل (31) يوما وهذا يساعد على تحديد ذلك في سبعة أشهر فقط هي (كانون الثاني ، آذار ، مايس ، تموز ، آب ، تشرين الأول ، كانون الأول) .
3- لقد تعمدت إحراج السلطان ، فكما تعرفون أن إينشتاين لم يكن موجودا حينذاك ، وكان استحضاره يقتضي الحصول على آلة الزمن لأج. جي. ويلز أولا وهذا ما كان يثير في نفسي القلق والخوف)) () فالإشارات هنا جاءت لتوضيح مقصدية الشاعر وغاياته داخل النص دون أن تحرف قراءة أو تعيق تأويل في سابقة فريدة لم يلتفت إليها أحد قبل الشاعر وجيله إذ تعد قراءة الهوامش بعض من قراءة النص وهذه كثيرة في نصوص الشاعر ولا داعي لذكرها هنا كما في قصيدة الصحراء إذ أشار إلى تسعة جوانب مهمة في داخل النص استلزمت التوضيح ، وغيرها .
4- الفواصل .
وهي إشارات رقمية أو علاماتية توضع بين مقاطع القصيدة ، الغرض منها فصل مقطع عن الآخر لدوافع متعددة منها إما تسهيلا للقارئ في قراءة النص ، أو تسهيلا للشاعر في الانتقال من مقطع لآخر دون الحاجة إلى وجود روابط منطقية كحسن التخلص وحسن الانتقال وغيرهما .
إن اعتماد الشاعر على الكتابة النثرية دفع الشاعر إلى تقسيم نصه على فقرات يفصل بينها فاصل معين لغرض تجاوز الاستطرادات والإفاضة غير المحببة في النصوص ، لذا إن تقسيم النص على كتل مفصلة لم يكن صورة تزيينية جمالية فحسب بل حاجة أسلوبية أوجبتها دلالة النصوص وحاجتها التعبيرية.
وقد استخدم جماعة كركوك الفواصل بصورة متفاوتة ومتنوعة تبعا إلى تنويعاتهم الشعرية ، إذ عمد بعض الشعراء إلى استخدام الفواصل الرقمية المتسلسلة (1 ، 2 ، 3 ، 4 000) وهكذا ، كل مقطع يحمل تسلسلا معينا حتى نهاية النص ، وقسم استخدم الفواصل العلاماتية كإشارة إلى انتهاء المقطع أو القطعة وابتداء مقطع آخر بغض النظر عن طول المقطع أو قصره ، إذ لا وجود إلى حجم معين لكل مقطع أو استحقاق ثابت لكل فاصل .
ومن الذين استخدموا الفواصل الرقمية فاضل العزاوي إذ في قصيدته (تعاليم فاضل) قسم نصه إلى خمسة عشر قسما كل قسم يحمل تسلسلا خاصا وذلك لتتواءم مع حاجة النص التغييرية في الانتقال بين الفقرات ولا سيما أن عنوان النص (تعاليم) مما يعني أن الشاعر قام بطرح أكثر من تنويعة خطابية داخل النص الواحد وهذا يعني أن هناك أكثر من لوحة تعبيرية وأكثر من وجهة نظر وكأن مقاطع النص متفرقة تجمعها هذه التسلسلات الرقمية ولا سيما أن المقاطع كبيرة الحجم ، وغير ذلك في شعره كثير مما ينم عن امتلاك الشاعر أسلوب تعبيري جديد في التعامل مع النصوص الحديثة لم يكن موجودا من قبل مما أخرج الشعراء الستينيين من دائرة التقليد .
وكذلك الأمر نفسه عند صلاح فائق فقد قطع نصه (مقاطعات وأحلام) إلى (80) قطعة كل قطعة تحمل رقما خاصا من مثل .
45
فلاح قرب جبل
يقدم رغيفا إلى شاعر هارب 
في جيبه مقطع واحد
عن شاعر يقتله فلاح 
قرب جبل
46
سكير يقرأ وصية أمه الميتة
يضحك بين فقرة وفقرة
بقهقهة
يمزق الوصية 
47
في المرآة مصاص دماء 
(قرأت عنه كثيرا في الكتب القديمة)
لكن ، أمامها ، في الصالة 
ليس هناك غيري() وهكذا .
فالتقسيم الرقمي جاء متناغما مع ما موجود في عنوان النص (مقاطعات وأحلام) إذ إن كثيرا من الأحلام تتقاطع مع الواقع ولا تتحقق ، لذا إن كل مقطع من هذه المقاطع لا يجمعه مع السابق له واللاحق إلا المجاورة إذ جسد كل واحد منها لوحة مستقلة لا يجمعها سوى وحدة الفكرة والأسلوب .
وقد استخدمت فواصل على شكل كرات سود (●) للفصل بين مقاطع النصوص كتمييز بين البياض المتروك بين مقطعين الذي يعبر عن زمن متحقق ، وبين اختلاف المقطع عن الآخر والانتقال السردي ففي قصيدة (مقاطع) جعل الشاعر كل مقطع فيها يختلف عن الآخر كما في المثال .

قرد هو الشاعر 
يرقص المهرج
في حفلة الخليفة 
في شارع الملوك
يبيع صياد من العمارة أسماكه الميتة 
● () .
فالمقاطع هنا غير متجانسة مما أوجب وجود حواجز بين تمفصلاتها لكي لا تتداخل الصور فاختار الشاعر هذا النوع من الفواصل .
أما صلاح فائق فقد اعتمد في كتابه (رحيل) () ذا النص الواحد وقد بلغ أكثر من مئتي صفحة وسائل متعددة للفصل بين مقاطع القصيدة ، فهو فضلا عن تقسيمه القصيدة على أرقام بلغت العشرة وهي مقاطع كبيرة عمد على تقسيم المقطع الكبير على أقسام أخرى متوسطة أخذت شكل (□□□) تسهيلا للقراءة ، وربما يقوم في بعض الأحيان بتقسيم المقاطع المتوسطة إلى مقاطع أصغر على شكل نجوم(***) .
إن هذه التنويعات التقسيمية كانت محاولات تجريبية أفادت الشاعر في تزيين نصه إذ كما علمنا أن الكتاب كله قصيدة واحدة مما أدى إلى وضع فواصل بين مقطع وآخر يتعارف عليه الشاعر بصورة فردية إذ كل شاعر يصنع الفواصل التي يختارها لنصه ، وربما كتب الشاعر أكثر من نص مقسم ، استخدام فيه مختلف الفواصل لغرض التنويع والتغيير كصورة تزيينية تجريبية .
5- التواريخ .
إن سعة التجريب واتساع مدلولاته أدى إلى عدم وجود فترة معينة له إذ يوجد متى ما استحكمت الظروف الواجبة لوجوده في حقبة وزمان لذا إن وجود تاريخ زمني معين في النص يفيد في معرفة التطور الحاصل في العملية الشعرية كلها أولا ، ثم معرفة مستوى التقدم والتطور التجريبي للشاعر نفسه على نحو خاص ثانيا ، ولما كانت جماعة كركوك تعيش حقبة مأساوية غاية في الاضطهاد والصعوبة حاول الشاعر توثيق ما يمر به من ظروف من خلال النصوص ، وتوثيق النصوص التي تعبر عن أحوال ومواقف كان يعيشها الشاعر بصورة مستمرة .
لقد عمد الشعراء إلى وضع تواريخ معينة أسفل نصوصهم إيذانا منهم ببدء انقلابهم الجديد ، وقد اختلفت التواريخ بحسب اختلاف التجريب الشعري ، وإذ حملت التواريخ جانب المذكرات او مكان كتابة النص أو المصادر التي أخذ منها النص وغيرها فضلا عن استخدام الشاعر للتاريخ بصورة متعددة ابتداء من ذكر التاريخ مع النص الشعري وصولا إلى كتابة التاريخ كمقطع شعري في نهاية النص كصورة تجريبية يؤطر الشاعر فيها نصوصه بطرق مبتكرة علاوة على الصور الجمالية الآخرى التي ترافق النصوص لذلك اختلفت طريقة كتابة التواريخ من شاعر لآخر ومن نص لآخر فقد استخدم فاضل العزاوي في قصيدته (الجلاد والضحية) أسلوب المذكرات في كتابة التاريخ فقد جاء في نهاية النص ((مذكرات محمد رضا الشبيبي – ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني 1917-1918م – الثقافة الجديدة ، العدد 4 ، تموز 1969م)) () إذ إن النص الذي أورده الشاعر مقتبس من مذكرات الشبيبي فوضعه الشاعر في نصه مع عدم إغفال الجانب التوثيقي ، فجاء التاريخ هنا متعاضدا مع سنده بصورة مبتكرة حديثة ساعدت في إيضاح النص لوجود علاقة جامعة بين تاريخ النص ومفرداته لا سيما وهي تتحدث عن الإعدامات والسجون التي ابتلي بها المجتمع العراقي من جراء الاحتلال السابق ، كما دخلت التواريخ مجالات أخرى في مضمار السبق التجريبي فقد دخل التاريخ في النص الشعري وكأنه مفردة من مفرداته كما حصل عند سركون بولص في قصيدته (إرشادات في الطريق إلى الهجرة) إذ ذكر فيها :
المخرج 
حيث غلايين تدخنها في الجبال قبائل لا حصر لها
تتراصف في عالم يختنق أو يخنق في الحقيقة
وهذه الأفعال كلها في داخل خلية 
سرية أو عادية إذا شئت
كلسان يقطع لينبت كغابة في قلب 1972م
سان فرانسيسكو () .
فالكلمات جميعها دالة على التاريخ الشعري الذي ختم به الشاعر قصيدته ليأخذ حيز التدوين بحسب نصوص عام 1972م ، إذ عد تاريخ النص ضمن مفرداته التعبيرية .
وربما تطور الأمر إلى أكثر من ذلك إذ كتب التاريخ على شكل قطعة شعرية في نهاية النص كما فعل فاضل العزاوي في (أقنعة البوذي) فقد جاء فيها .
في هذا اليوم : السبت
في هذا الشهر الدافئ : آذار 
في هذا العام : الخامس بعد الستين
في هذي الغرفة من بيت مغلق 
في هذا الشارع في البتاوين
الموقف :
أن أنهي هذا المقطع
أن أفتعل الصمت () .
فالتاريخ أخذ طابع النص الشعري وكتب بالكلمات على خلاف ما تعارف عليه الشعراء إذ لم يسبق لشاعر أن أرخ نصه بقطعة شعرية كهذه مما يدلل على أهمية تواريخ النصوص ، وربما عمد الشاعر إلى ذلك كنوع من الجمالية التجريبية التي أطر بها نصه في فنتازيا شعرية طغت على نفسية الشاعر فأحدثت هكذا تغيير ، وقد تجسد ذلك من خلال مفردات النص (الدافئ ، الغرفة ، المغلق ، الصمت) وغيرها إذ غلب على النص طابع الرومانسية .
وقد جاءت بعض التواريخ مبهمة وغير معلنة مع أن الشاعر قد شغل مكانها ببعض الرموز تصريحا منه بأنه لم يغفل مكان التاريخ إنما وضع بدلا عنه ((:-/؟%_____ ==== ////)) () مما يعني أن الشاعر أراد إضمار التاريخ ولا سيما في عدم إعطاء فرصة للقارئ في استدراج الدلالة من خلال المؤثرات الخارجية ولا سيما وأن النص خال من أي منها .
أو ربما جاءت التواريخ لتبين زمن كتابة النص إذ اختلاف الفترة الزمنية بين كتابة النص وصدور المجموعة الشعرية كما حصل لدى سركون بولص فقد أصدر مجموعته (إذا كنت نائما في مركب نوح) عام 1998م في حين تعود نصوصها إلى فترة شعرية سابقة جدا إذ يقول ((كتبت هذه القصائد في السنوات الاولى من حياتي في أمريكا أي خلال الفترة الممتدة من عام 1969م إلى عام 1982م)) () فالتواريخ هنا تبين الاختلاف الزمني بين كتابة النص وتاريخ نشره.
ومن الشعراء الذين أهتموا في كتابة التواريخ (جان دمو) ففي مجموعته (أسمال) جاءت أغلب نصوصه الشعرية مؤرخة مع ذكر مكان كتابة النص الذي أخذت فيه (حانة روافد دجلة) الحيز الأكبر . وربما لذلك علاقة كبيرة في غموض نصوصه وعدم وضوح دلالتها إذ يرى حاتم الصكر أن ((البياض ، الفراغ ، السراب– وهذه مفردات في نصوص الشاعر – رموز تتقشر عن بعضها في شعر جان دمو حيث القصيدة ذاتها قشور متداخلة ، وأغلفة هشة مع لغة خائفة ، ورؤى
محمومة ، وصور مقطوعة ، قد تصل في بعض هيجاناتها إلى درجة الانفجار لكنها تخمد دوما في موقد اللاوعي ، ومن هنا نفهم حرصه على أن يؤرخ مقطوعاته ويضع لها مكانا هو اسم حانة بغدادية في الغالب))() .
إن دلالة التاريخ عند جان دمو قد يوحي إلى دلالة عبثية بالألفاظ والصور لديه إذ ذكر مكان كتابة النص الذي يكون ضمن حانة للخمور يدلل على أن سريالية النصوص ربما هو متأتي من لا وعي الشاعر عند كتابة النص لذا ((عبثا نحاول أن نعثر على صنف دم لعينة جان دمو
الشعرية ، مهما أغرى الصعاليك والغجر والشطار أن يتبعوه ، ومهما أفرح منظري السريالية والباحثين عن مفردات لكتابها العربي ، فهو بقوة (ميكانزمات الفراغ) يلتهم كل تقليد أو
مدرسة أو اتجاه ، ويلقي الشاعر بالشعر والزمن والمكان والأشياء من حوله إلى عدمه اللذيذ))() 

ليست هناك تعليقات: