بلوك نوت (1)
..
"إليك وحدك، يا كلوتيلد، أنسب الفضل خلال عام لا نظير له في ظهور أرق العواطف الإنسانية، التي مع إنها ظهرت متأخرة إلا أنها حاسمة. إن الصحبة المقدسة، الأبوية والأخوية معا، الموافقة لآدابنا المشتركة، هي التي تسمح لي أن اقدر سائر مفاتنك الشخصية، هذا المزيج العجيب من الرقة والنبل، وأكبر الظن أن أي قلب آخر لن يحسهما إلى هذا الحد..إن التأمل المألوف لمثل هذا الكمال يجب أن يضاعف - حتى على الرغم مني - من شوقي المنظم لهذا الكمال الكلي الذي وضعنا فيه أنا وأنت والغاية العامة من الحياة الإنسانية...
لقد رأينا في شرف نحن الاثنين هذا الائتلاف الجميل بين وظيفتين متضامنتين ولكنهما مستقلتان..تتجه إحداهما بالطريق العلمي نحو إنشاء اعنقادات ذكورية فعالة، وتتجه الأخرى بطريق الجمال إلى تنمية عواطف أنثوية عميقة. وإذا كان لا غنى عن مثل هاتين الوظيفتين فلن تحتل أيهما مكان الصدارة.
إن جميع المفكرين الذين يقدرون الاستجابة الذهنية لعواطف المودة سيحترمون الزمن الذي أنفق في نسج هذه الانفعالات الشريفة وبعثها"
..
هذه الكلمات العاطفية الفلسفية كتبها الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" في إهداء كتابه "نظام في السياسة الوضعية". وهو الكتاب الذي استغرقه التفكير فيه مدة 12 عاما وكرسه لدين طبيعي أو دين مادي، مؤسس على فلسفة "كونت" الوضعية التي خلبت لب أوربا وافلحت في أن تؤسس لنظام من أجل التقدم يعقب فوضى الثورة الفرنسية الكبرى كما كان يريد.
كانت ديانة "كونت" من ذلك النوع الذي يسمى "دين الفلاسفة"، واسمها الذي اشتهرت به "دين الإنسانية"، إذ اعتبرت أن ما قدسه البشر باسم "الله" كان هو الأجداد والأسلاف أو أعمال الإنسانية العظيمة كلها، ومجراها الزماني الأزلي الخلاق. وهي ديانة تخلو من الإله الخالق الذي تألفه أديان الناس، وإن كانت قد صنعت لنفسها في النهاية إلها وأصبح لها ميتافيزيقا. لقد قال "كونت" لمحبوبته وهو في غمار تأليف كتابه:
"إن كتابي القادم سوف يكون عبارة عن أوبرا ضخمة تعلن الأولوية العليا والاجتماعية للحب الكوني ليس فقط على القوة وإنما أيضاً على العقل"
والمهم أن أوربا برغم العبارة الأخيرة من إهدائه لـ"كلوتيلد" - الذي يبدو أن "كونت" استشعر فيه بعض الشيء ما يدور حوله بعد أن جعله حبه في عزلة عقلية عن الواقع - لم تتلفت أو تحترم هذا "الزمن الذي أنفق في نسج هذه الانفعالات الشريفة وبعثها". وفضلت الحضارة الأوربية أن تسير في طريق "منهج العقل" والعلم الكونتي الوضعي بلا منهج "كونت" في القلب، أو فضلت أن تعتاش - بالأصح - على القلب القديم الذي عرفته في المسيحية، وعرفت كيف توظفه لأغراضها المختلفة مادية وروحية. ولم يبق من فلسفة "كونت" إلا إطارها التمهيدي والذي هو مجرد تأسيس - من وجهة نظره - لجوهرة الدين، جوهرة "كلوتيلد".
لم يكتفي "كونت" بأن يجعل من معشوقته المقدسة نبية دينه العلمي الوضعي، بل جعلها إلهته المقدسة، حين تصور معبد الدين على هيئة محراب كبير لتمثال معشوقته التي تجسد، أو تتجسد بها، ألوهية الإنسانية.
وفي الواقع، لا يمكن لأحد اليوم أن يحكم بدقة على طبيعة مثل هذا الانفجار العاطفي في حياة الفيلسوف الفرنسي غير المستقرة، والذي أفرز للعلم دينا أو دينا علميا يقارب المستحيل من جهة توحيد المادة والروح. فمما يقال أن سر ابتعاد "كلوتيلد" عن "كونت" هو تشوه وجهه بمرض الجدري. فالمعروف أنها كتبت له على أثر أول مفاتحة لها بحبه هذه الكلمات: " سوف أكون صديقتك إلى الأبد، ولكن صديقتك فقط، ولن يحصل شيء بيننا". وفيما يحكى أن أول تعليق لها بعد لقائهما الأول كان عن دمامته!.
المهم، أنه وبناء على كل ذلك، كان التقييم الفلسفي العام لعاطفة "كونت" المشبوبة - كما أتى على لسان الفيلسوف الفرنسي "إميل بوترو" - أنها عاطفة مخبول. وشخصت الفلسفة ما لديه من حب مقدس باعتباره "اضطرابا عميقا في العواطف جعله لا يحس وزن الجانب الواقعي للعاطفة في نمو تفكيره الفلسفي".
أما تقييم "كلوتيلد" في العقل الفلسفي الأوربي فقد استقر على أنها امرأة تافهة وأن "ضآلة المحبوب، بالإضافة إلى مزاج كونت الملتهب بالعاطفة، يجعلا من هذه الحادثة سببا عارضا..". والمقصود أن هذا اللقاء العشقي الذي عدّه "كونت" لقاء كونيا فريدا هو من وجهة نظر الفلسفة محض حادث عارض تافه لا يمكن وزنه في تقدير وتقييم الانحراف "الكونتي" الذي جعل من عقله عقلين ومن مذهبه مذهبين.
لكن - في تقدير "كونت" نفسه - أن هذا اللقاء أضاف لعقله قلب، وأضاف لفلسفته روح، وكان طموحه أن تمتد عظمة وتأثير ووهج هذا اللقاء الروحي الكوني الخلاق ليضيف لأوربا، بل للحضارة وللإنسانية كلها، قلبا وروحا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق