الأحد، أغسطس 28، 2011

قصة ..... قصيرة تصافح العالم .... للاديب المغربي/ حسن البقالي




حسن البقالي: قصيرة تصافح العالم


كالمشي على أرض من نايلون، فرحة باستقبال الخطى وممتدة دون هوادة حتى آخر نبتة من عشب القلب، تم اللقاء بيننا.
كانت ساهمة..على الخط الواصل بين عبق الأزقة العتيقة والنسائم الوافدة من جهة الغرب. فكرت في أن عليها ألا تكتفي بالإنصات إلى تفتت حصوات الداخل فيما يشبه تدمير الخلايا، أو استراق السمع إلى العالم، كما لو أنها مجرد حيوان لطيف يجمّل الحياة ويسمها بالدهشة. فخففت إليها أقتحم عزلتها:
- هل تسمحين بدردشة قصيرة مع عملاق بئيس؟
- إذا كان العملاق بئيسا فلا بأس من أن ترفع القزمة من معنوياته.
أجابت باسمة..
وكان ذلك إيذانا بالانخراط في حديث طويل شبيه بمناجاة الأحبة.


*****


حين رأيتها أول مرة، خلت أنها دمية هاربة من مصنع ياباني.وبشكل ما، ونتيجة خلل عارض في حسابات الهندسة الآلية وسلالات الروبوتات، لم تتمكن الأشياء من الحفاظ عليها في حضرة الإنتماء، فمشت في الأرض تدشن لفصيلة جديدة من الأحياء.
كانت قصيرة جدا
كأنها نتاج مخيلة مولعة حد الشطط بالتكثيف..
قصيرة وضئيلة في حجم الكف.. بعينين سوداوين واسعتين وصافيتين، تنثال منهما نظرات بلون الصباح
عينين..
كأنهما الأصل
وسائر الجسد مجرد تكملة للتبرير.
كان بيدها قلم تناغيه بأناملها الدقيقة، ومن جيب قميصها السماوي يبدو الجزء العلوي لورقة بيضاء مطوية على أربع ونائمة في دعة.
قلت:
- قلم في اليد وورقة في الجيب..أهو وعد أم مصيدة؟
أيقظت الورقة من غفوتها وأفردتها قائلة:
- مصيدة؟ ربما..أو ربما قشة من خشاش الأرض أدغدغ بها خياشيم العالم كي أدفعه إلى العطاس..
بدت الورقة مكتوبة بخط رفيع..
في أعلى الصفحة مفتتح حكاية من زمن الطفولة، في شكل مقطع حواري يجمع بين قاض وامرأة قصيرة


" - أنا مْرا قصيوْرة
- ربي خلقك
- أو داري مدِيوْرة
- على قدك
- نضت نشطبها
- من حذاقتك
- ولقيت غريّش...."


وتحت المفتتح نصوص تختلف طولا وقصرا وتحديدا أجناسيا.. نصوص كالمزامير مكتوبة بخط رفيع ينتهي إلى التفتت والانحلال في البياض، قبل أن ينبعث من جديد عبر الأنفاس الأولى لليل حبر جديد.
نظرت إلى صباحة وجهها، وسألت:
- من أنت؟ أقصد ما جوهرك؟
فردت بسرعة بديهة، كما لو أنها تتحسس سؤال الجوهر و الماهية لدى كل استيقاظة:
- أنا .. قصيرة تصافح العالم
- اعتقدت في البداية أنك قصيرة تتلهى عن عزلتها بتفحص أحوال الآخرين..
- هل تدري: لكي تصافح العالم فأنت لا تحتاج إلى كف كبيرة..
كانت باسمة..واثقة وجريئة في تطويق الأشياء بالأسئلة. وجدتني أركز النظر على كفها الصغيرة التي تلامس كفي .. في شفتيها الورديتين وجسدها الضئيل الدافئ : كانت طفلة في خطواتها الأولى المزنرة بالدهشة والرغبة في الاستكشاف..
قرأت:


*****


حصان من فصيلة "البوني" poney صغير بزغب بني ناعم ، غرة بيضاء وقوائم قصيرة كقوائم جحش فرح..
يأتي به صاحبه إلى الحديقة، ويوقفه في طريق الأطفال مثل إغراء لا يقاوم.
يركب الطفل على ظهره ويقاد به في جولة عبر مدار الحديقة.
ينزل طفل
ويركب آخر..
ثم أصر الرجل على الركوب..
رجل ضخم الجثة، لفظته حانة مجاورة ورأى أن امتطاء حصان بني صغير الحجم قد يكون أحلى متعة في لحظته تلك قبل انهمار الصحو.
لم تكن ساقاه تقويان على حمله، والكلمات تسقط من فمه مثل زنابير مثلومة العرض.
- اسمع آ لخاوا..غي دورة وحدة..ونردو ليك.
- لا آ سيدي..الحصان صغير ما غاديش يتحمل ثقلك.
- ياك غي حصان..ما غاديش نركب على أختك..
- اختك هو أنت
واشتعل التلاسن لحظة، يمتح من حنق اللغة خراطيشه..قبل أن يُلجأ إلى الاشتباك الجسدي.
سمع عويل طفل
أنة وردة
وحنحنة حصان
ودعوات للعن الشيطان وضبط النفس..
بدأ الاشتباك يتراخى..تدلت الأذرع جانبا مثل حشرات داهمها الصقيع، وجفت الكلمات على الأفواه..
آنذاك تفقد صاحب الحصان حصانه، فلم يعثر له على أثر..
استغل الفوضى الطارئة وغفلة الكبار، فتسلل مع الأطفال إلى جهة مجهولة.


*****


كانت تتمشى في الشارع، بين السيقان والكعوب العالية، وترصد الأشياء حواليها بافتتان
وقتها تساءلت:
- لماذا كلما رأيت قزما لا أراه إلا في الشارع أو السيرك؟ لماذا لم أصادف أحدهم من قبل موظفا ساميا في إدارات الدولة أو مدير مقاولة أو أمين حزب أو داعية؟


*****
قالت:
( الخوف أصل كل إقصاء
يبني الإنسان جدارات للدفاع والاحتماء، تارة باسم العادي المألوف، وأخرى باسم المواضعات والسواء والمشترك الثقافي..
وأن تكون قزما
يعني أن تشذ عن المألوف
"روبير الصغير" يعرف القزم بأنه "القصير بشكل غير عادي".أما القواميس العربية (خذ المنجد مثلا أو لسان العرب) فإنها تضيف إلى قياس الأطوال بمثابة معيار حكْما قيميا يقرن القزم بالنذالة واللؤم ..
نحن مستصغرون ما إن تقع علينا النظرة الأولى..
موضوع تهكم أو فرجة أو ازدراء).
كنت أنصت إليها تلقي بزخاتها المبلبلة بين يدي، أعقب بين الفينة والأخرى أو أطرح سؤالا وأتابعها تراقص الكلمات.لم تكن بها مرارة أو حقد بأي شكل..فقط كانت تنهرق أمامي بشهوة عين ماء بين أحجار الجبل..جميلة جدا وعميقة..كأنها الكون مختزلا في رفة عين أو إطباقة شفة أو نقطة واحدة في امتداد البياض..
- يبدو أنك هنا منذ مدة، كيف لم ألتق بك من قبل؟
- المهم أنك لقيتني أخيرا
- ولست أعتقد أني سأفارقك.
علت شفتيها بسمة خاثرة وغمرني دفء كبير.


*****


تقول أسطورة الأندروجين إن إنسان بدايات الخلق كان مكتملا يجمع بين الذكورة والأنوثة.
كان قويا بحيث صار مصدر تهديد للآلهة نفسها، فانتهت إلى شطره إلى جنسين.
ما لا تقوله أسطورة الأندروجين هاته، أن إنسان بدايات الخلق..ذاك المكتمل الجبار..
كان قزما.

نقلا عن / موقع وزارة الثقافة المغربية

ليست هناك تعليقات: