السبت، ديسمبر 10، 2016

حازم حسين يكتب : عن غادة وأنسي.. الحب العربي بين "العادة السرية" واختلاط المفاهيم وخوف الخونة








عن غادة وأنسي.. الحب العربي بين "العادة السرية" واختلاط المفاهيم وخوف الخونة
*************
هدأت الحمّى، وعاد ثوار الثقافة العربية أدراجهم، وخبا الدخان في ثكنات غادة السمان ومعاقلها التي قصفها المثقفون الليبراليون المحافظون "الثوار"، والآن يمكننا أن نجلس على طاولة العقل، إن كان ثمة عقل في كل ما تشهده الثقافة العربية.
بداية، لا أحب "الجادجمنتاليين" ولست منهم، وفي تصوري أن فساد الحكم والمنطق لدى أي شخص، يبدأ من رفع لافتة القيم، واتخاذ المواقف على أرضية أخلاقية، ومن هذه النقطة الضاربة لجذور التفكير السليم في اعتقادي، رأيت سيلا عرما من التناقض والتسطيح وادعاء الفضيلة، في قضية نشر الكاتبة السورية غادة السمان، رسائل الشاعر اللبناني أنسي الحاج لها، المؤرخة بالعام 1963، وغنّى كل ناقد أو حاقد أو خائف على ليلاه، أو بالأصح رسائله المخبوءة في بطن الغيب، ولم يقترب أحد أو يحاول، من الثقافة والإبداع والتقدمية وفكرة الشخصية العامة في أي وجه من الوجوه الموجبة للنقاش الموضوعي، استجاب الجميع لثقافة "نجد" المُعمّمة على الخريطة العربية، منحازين إلى ممارسة العادة السرية، بدلا عن انتزاع قُبلة في وضح النهار.
شخصيا لم أستسغ السير في مواكب اللعنات والمحاكمة والفرز الأخلاقي، ولا قطعان الرفض والاستهجان وقصف الجبهات، ولمّا أقرأ الرسائل بعد، لهذا آثرت قراءة رسائل أنسي الحاج لغادة السمان قبل التفكير في الاشتباك مع الموضوع، ولم أجد في الرسائل التسعة ما يمثل انتهاكا لعصمة الشاعر اللبناني وخصوصيته، ولا ما يمكنني حسابه في إطار التلصص واستباحة المساحات الشخصية، لم آخذ موقفا ولو هيّنا من غادة أو من أنسي، ولكنني أخذت موقفا صريحا ولا تفكير فيه من طوابير القضاة الأخلاقيين، ويعلم الله عاداتهم السرية التي لا أعلمها، ولي عليهم فساد منطقهم واختلال مفاهيمهم وتداخلها.
البداية البسيطة والسطحية، على مذهب جموع الثائرين العرب، أنه إن كان ثمة خطأ في موضوع رسائل أنسي الحاج لغادة السمان - وشخصيا لا أرى أي خطأ - فهو في وجود الرسائل من الأساس لا في نشرها، في هذا الشاب العاقل ذي الستة والعشرين عاما، المتزوج ووالد الطفلين، الذي يكتب رسائل عاطفية حارة وملتاثة لفتاة في منتهى عقدها الثاني، مقتحما خصوصية الفتاة ومبتزا لمشاعرها، إن كانت لم ترد على هذه الرسائل مثلما قالت، وإن ردت فالجريمة تخص أنسي وحده أيضا، ففي كل الأحوال هو رجل خائن، وفق فلسفة الرفاق الجادجمنتاليين الأخلاقيين، انتهك حقوق زوجة وطفلين، وطعن كرامة أنثى قارة في بيتها طمعا في أنثى هجرت وطنها بحثا عن العلم والأدب، ولا يختلف هذا المنطق لديّ عمّن ينتقدون الأنثى ويحاسبونها على ما تلاقيه من تحرش، ومن يلومون المحاربة التي لا تصمت على انتهاك وتعدٍّ، ومن يرون النساء مشروعات جنسية مفتوحة وأهدافا محتملة للمتعة المجانية، أنا ضد هذه التصورات كلها، ولكن هذا منطق الثائرين الذي لم أستطع رؤية ثورتهم خارجه.
البداية العاقلة في رأيي تنطلق من التحرير الإجرائي للمفاهيم، لفكرة الكتابة ومجالاتها، لمعنى الشخصية العامة وحدودها، ولمستوى ولاية الشخص على دوائره الشخصية المتقاطعة مع الآخرين، أو بتصور أكثر بساطة، كيف يتأتى لمثقف امتدح رسائل جبران ومي زيادة، ورسائل المنفلوطي للشخصية نفسها، ورأى علاقة سارتر وسيمون دو بفوار فتحا إيجابيا، وامتدح كتابات هنري ميلر وعلاقاته، وقس على هذه النماذج عشرات أخرى من الرطانات التي لاكها المثقفون العرب، يقف أمام رسائل أنسي لغادة موقفا أخلاقيا، يليق بشيخ جامع لا بمثقف ينتصر للكتابة والإبداع وقيادة العقل إلى حدود صكها الأسلاف ويأباها الواقع الحي، وأيضا كيف نتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة، تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتذبّ عنهم لدغات النحل، فالحقيقة أن أنسي الحاج شخصية عامة، يجوز في حقه ما لا يجوز في حق آخرين من عوام الناس وآحادهم، وفي ظرف موضوعي ناضج كان يُفترض أن يجد زائر بيروت مساحة تحمل اسم الرجل، تضم ملابسه قبل كتاباته، وتطلعني على غرفة نومه لا على رسائله فقط، بينما لا يحق لي دخول غرفة نوم كائن عادي في هذا العالم، والنقطة الثالثة والأهم في تصوري، أن غادة السمان لم تخترق خصوصية أنسي الحاج، السيدة الفاضلة التي رمى الرعاع عرضها بسفالة واستخفاف، تقاطعت دائرتها الشخصية مع دائرة الشاعر اللبناني العاشق، فحق لها أن تتصرف في دائرتها كما شاءت، وحينما دبج الحاج رسائله التسعة، أخرجها من كهنوت الشخصي إلى مشاعية العام بدرجة ما من درجات العموم، باعتبار النسخ الأول وحدة ضئيلة وأولية من وحدات النشر العام، ولا فارق في تصوري بين القلم وماكينة الطباعة، وحتى أسرار الدول وملفاتها الكبرى تتاح للنشر بعد مدة محددة من السرية، والسيدة الفاضلة سترت الرسائل أكثر من نصف القرن، رغم أنها شأن شخصي يخصها قدر ما يخص أنسي الحاج، وربما أكثر وأكثر، إذ بخروج الرسائل من عصمة صاحبها لم تعد مملوكة له بأي صورة من الصور، النموذج الأقرب إن شئت مقاربة نظرية وثقافية - مع حفظ مساحة التباين في المثال ومجال عمل النظرية الأساسية - فكرة موت المؤلف لدى "رولان بارت" وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها، لم يعد أنسي حاكما للنص ولا طرفا فيه، أصبح نصا حيًّا يتنفس في هذا العالم بمفرده، فقط للمصادفة شهد ولادته وبداية تنفسه شخصان، أنسي وغادة، ولا حق لهما في مصادرته أو تفسيره، ولا واجب علينا في اتخاذهما مرجعية لقراءته، ولا تثريب على ناشره وقارئه.
الخلل الأكثر عمقا وفداحة من فكرة تداخل المفاهيم السابقة، وفق ما أراه، هو استمرار عبادة المثقفين العرب لقيمهم القديمة الرثة، وموازنة أمور الراهن وفق تصورات مرجعية وإحالية لا تبتعد كثيرا عما أسس له الفقهاء ورجال الكهنوت الميتافيزيقي، ما زال الحب عادة سرية لدى الذهنية العربية، على كثرة ما تقترفها، تناضل لإثبات القطيعة الكاملة معها، اعتقادا عميقا منها بأنها مساحة ملوثة لا تليق بسيكولوجيات الأطهار المعصومين من آباء الكلمة، هكذا وفق مستوى مركزي من المعرفة المؤدلجة والمؤسسة على ركائز قبلية وعقدية، ومن هنا تكتسب العلانية التي تقف شامخة كاحتمال قائم لمآلات الرسائل والعلاقات المبتورة والعادات السرية لمثقفي الراهن المُعاش، تهديدا خطيرا وعضويا للصورة النمطية التي تأسست عليها الثقافة العربية وتشكلت وفقها صورة المثقف، وهكذا كانت الجموع الثائرة تحاول الثأر لأنفسها بمواقف استباقية، تحاول صيانة سرية رسائلها، الحالية أو المستقبلية، أكثر من الثورة لاسم أنسي الحاج والأسى لسريته المهدرة.
ما فعلته غادة السمان حق شخصي لها، لا يجوز لأحد انتقاده أو قياسه بمازورة أخلاقية، وبعيدا عن فكرة الحق، فالسيدة لم تتلصص ولم تتحرش ولم تفتح دولاب أنسي الحاج ولا غيره، السيدة لم تقتحم الناس في صناديق الرسائل الخاصة ولم تخطف رجلا من زوجته، والدليل على هذا الرسائل نفسها، لم تدخل علاقتين في وقت واحد، ولم تتمرن على النوم الهادئ في أكثر من سرير، وحدها العقلية المحافظة الأخلاقية تفعل هذا وتنتقده ويصدمها نشره أو الحديث عنه، العقلية السوية - مثل غادة السمان ومن على شاكلتها رجالا ونساء - يعرفون حقيقة أننا بشر، بشر وحسب، لا يحق لنا أن نعيشها ملائكة ولا أن نزايد على الناس بدنسنا المخفي عن عيونهم، لهذا ستجدها تكتب هكذا، وتنشر هكذا، وتعيش هكذا، وستجدها وهي سيدة في الرابعة والسبعين من عمرها، غضة القلب والروح، تعرف قيمة أن تكون حقيقيا وعلى طبيعتك طوال الوقت، وتنتصر لقلوب العشرينيين أكثر من انتصار أصحابها لها، وتصون حق أنسي الحاج في أن يطلق رئتيه على وسعهما، كيفما شاءت له الحياة وهواؤها، لا أن يقبض على صدره بذراعيه ليحبس الهواء الذي لم يُخلق ليُحبَس، فقط يفعل الجادجمنتاليون هذا، فقط يفعله مثقفو العادة السرية.
سيدتي غادة السمان، محبة لروحك، وأسف على تطاول المتطاولين، ووردة بين دفتي رسائل أنسي لك، كوني بخير حتى يكون أنسي وغسان وجبران ومي والعقاد والمنفلوطي وكل المحبين بخير

ليست هناك تعليقات: