ـ نبذة عن حياته، آثاره(1):
عام1924، أصدر بابلو نيرودا، وكان في العشرين من عمره، مجموعته الشعرية الثانية «عشرون قصيدة حب وأغنيةٌ يائسة
»، بعد مضيّ عام واحد على صدور مجموعته الأولى «الشفقيّات»، وأربعة أعوام على اتخاذه اسمه المستعار هذا، الذي عُرف به، بل وطغى نهائيّاً على اسمه الأصلي «نيفتالي رِيّيس باسوالتو»، إعجاباً منه بالشاعر والقاص التشيكي «جان نيرودا» الذي عاش في براغ ما بين عاميْ 1834 و1891. كما أن هذه المجموعة جاءت قبل خمسة وثلاثين عاماً من مجموعته الشعرية المعروفة «مئة قصيدة حب» التي صدرت عام 1959.
عام 1972 نشر نيرودا آخر مجموعاته الشعرية «جغرافيا باطلة»، قبل عام واحد من وفاته بمرض السرطان، بعد أن شهد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكم الديمقراطي في وطنه تشيلي وكان أحد دعائمه.
م.ح.
.....
.....
* ـ
آه يا اتساعَ غابات الصنوبر
آه يا اتساعَ غابات الصنوبر، وشوشاتُ موجاتٍ تتكسّر،
أضواءٌ كسلى، جَرَسٌ وحيد،
شفقٌ يسقط في عينيكِ، أيتها اللعبة،
محارةٌ، تغنّي فيكِ الأرض!
فيكِ تُغنّي الأنهار حيث تهرب روحي
مثلما ترغبين وحيث تريدين.
أريني طريقيَ في قوس أمَلِك
لأُطلق في هذيانٍ سربَ سهامي.
أرى حوليَ خصركِ الضبابي،
وصمتُكِ يحاصر أوقاتيَ المتعَبة،
وعندكِ، بين ذراعيكِ الشفّافتين
ترتاح قبلاتيَ ويعشش اشتياقيَ النّدي.
آه يا صوتكِ الغامض، الذي يخضّبه الحب
يتردد صداه في المساء، ويتلاشى!
هكذا في ساعاتٍ عميقةٍ فوق الحقول
رأيت السنابل يطويها فم الريح.
* ـ إنه الصباح الذي تملؤه العاصفة
إنه الصباح الذي تملؤه العاصفة
في قلب الصيف.
مثل مناديل الوداع البيض تسافر الغيوم،
وتمضي بها الريح مع أيديها المسافرة.
قلوبٌ للريح لا تنتهي
تخفق فوق صمتنا العاشق.
تعصف بين الأشجار، شجيّةً وإلهيّة،
مثل لغة ملأى بالحروب وبالغناء.
ريحٌ تخطف الأوراق المتساقطة
وتحرف السهام المتربّصة بالعصافير.
ريحٌ تجرفها بموجةٍ بلا زَبَد،
مستسلمةً، وألسنة نارٍ تتقصّف.
تتمزّق أسفار قُبَلِها وتَغرق
عند بوّابة ريح الصيف.
* ـ لِكيْ تسمعيني
لكيْ تسمعيني
ترِقُّ كلماتي
مثل آثار طيور النورس
على رمال الشطآن.
قلادةٌ، جلجلٌ سكران
ليديكِ الناعمتين كحبّات العنب.
وأرى كلماتيَ بعيدةً.
وأبعد منها كلماتُكِ.
تتسلّلق كاللبلاب فوق آلاميَ القديمة.
تتسلّق فوق الجدران الرطبة.
وأنتِ الملوم في هذه اللعبة الدامية.
إنها تفرّ من ملجئيَ المظلم.
وأنتِ تملئين كلَّ شيء، تملئين كلّ شيء.
قَبْلكِ استوطنتْ وحدَتي التي تحتلّينها،
واعتادتها، أكثر منكِ، أحزاني.
الآن أريدها أن تقول ما أُحبُّ أنْ أقولَ لكِ
كي تسمعيني كما أُحبُّ أنْ تسمعيني.
رياح الكآبة ما تزال تجرفها.
أعاصير الأحلام ما تزال تنهال عليها.
تسمعين أصواتاً أخرى في صوتيَ المتألم.
بكاء أفواهٍ قديمة، دماء تضرّعات قديمة.
أحِبّيني، يا رفيقة. لا تتخلَّيْ عني. اتبعيني.
اتبعيني، يا رفيقة، في هذه الموجة من الكآبة.
لكنَّ كلماتيَ سيخضّبها حبُّكِ.
أنتِ التي تحتلّين كلَّ شيء، تحتلّين كلَّ شيء.
سأصنع منها جميعاً قلادةً لا نهاية لها
ليديكِ البيضاوين، الناعمتين مثل حبّات العنب.
* ـ أتذكّركِ مثلما كنتِ
أتذكّركِ مثلما كنتِ في الخريف الفائت.
قبُّعةٌ رماديةٌ وقلبٌ ساكن.
في عينيكِ تتّقدُ ألسنة الشفق.
وتسقُطُ الأوراق في مياه روحك.
متشبّثةً بذراعيّ مثل نبتةٍ متسلّقة،
تلملم أوراقُها صوتَكِ المتمهّل والهادئ.
لهبٌ من ذهولٍ تحترق فيه ذاتي.
سنبلةٌ برّيةٌ عذبةٌ زرقاء تعانق روحي.
أُحِسُّ بعينيكِ تسافران والخريف بعيد:
قبّعةٌ رمادية، صوتُ عصفورٍ وقلبٌ مثل بيت
تهاجر إليه أشواقيَ العميقة
وتسقط قبلاتيَ الفرِحةُ مثل جمرات.
سماءٌ تغمرُ مركَباً. حقولٌ تنبسط تحت الرُّبى.
ذكراكِ من نورٍ، من دخان، من غديرٍ ساكن!
هناك، أبعدُ من عينيكِ، تحترق الأمسيات.
أوراقٌ جافّة خريفيةٌ تحوم في روحك.
* ـ مُطرِقاً في الأمسيات
مُطرِقاً في الأمسيات أُلقي بشباكيَ الحزينة
إلى عينيكِ المحيطيّتين.
هناك تُطبق وحدتي ويَستعرُ لهيبها
وتلوّح بذراعيها مثل غريق.
أُطلق إشاراتٍ حمراً فوق عينيكِ الغائبتين
اللتين تفوحان مثل البحر على ضفة منارة.
وتبقين في الظلمة، أيتها الأنثى البعيدة، يا أُنثاي،
ويُطلّ من نظرتِك شاطئ الذُعر.
مُطرِقاً في الأمسيات ألقي بشباكيَ الحزينة
إلى هذا البحر حيث ترتعش عيناكِ المحيطيّتان.
عصافير المساء تنقر أولى النجوم
المتلألئةِ مثل روحي عندما أُحبك.
يقفز الليل في ظلمته
ناثراً سنابل زرقاً فوق الحقول.
* ـ أيتها النحلة البيضاء
أيتها النحلة البيضاء التي تحومين، سكرى بالعسل،
داخل روحي، وتدورين متمهّلةً كالتفاف الدخان.
أنا اليائسُ، الكلمةُ بلا أصداء،
الذي فقد كل شيء، وكان لديه كل شيء.
أيتها المرساة الأخيرة، يَصِرّ في أعماقك اشتياقيَ الأخير،
أنتِ الوردة الأخيرة في أرضيَ القاحلة.
آه أيتها الصامتة!
أغمضي عينيك العميقتين. هناك يرفرف الليل بجناحيه.
آه عَرّي جسدَكِ الشبيهَ بتمثالٍ خائف.
لكِ عينان عميقتان ينسكبُ فيهما الليل.
ذراعان نَضِرتان من زهرٍ وحضنٌ من ورد.
ثدياكِ صَدَفتان.
وفراشةٌ من ظلّ جاءت لتنام على صدرِك.
آه أيتها الصامتة!
هنا الوحدة التي يخلّفها غيابُك.
إنها تمطر. رياح البحر تقتنص طيور النورس التائهة.
حافيةً تمشي المياه عبر الدروب الرطبة.
وشجرةٌ تُطلقُ أوراقُها صرخاتِ أنين.
أيتها النحلة البيضاء، الغائبة، وما تزالين تحومين داخل روحي.
وتستمرين مع الأيام، رقيقةً وصامتة.
آه أيتها الصامتة!
* ـ أجل قلبي
من أجل قلبي يكفي صدرك،
من أجل حريتكِ تكفي أجنحتي.
من فمي سيصل حتى السماء
ما كان غافياً فوق روحِك.
فيكِ أملُ كلِّ يوم.
تأتين مثل الندى فوق تويجات الزهر.
تُغرقين الأفق عند غيابك.
هاربةً دَوْماً كالموجة.
كنتِ تُغنّين في الرياح
مثل شجر الصنوبر ومثل السواري.
مثلها أنت ساميةٌ وصامتة.
وفجأةً توقعين الحزن، مثل السفر.
مضيافةٌ مثل درب قديم.
تملؤكِ أصواتُ حنينٍ وأصداؤه.
وعصافيرُ كانت تنام في روحِك،
أيقظتُها، وكم فرَّتْ وهاجرتْ.
* ـ مضيتُ واسِماً بصلبانٍ من نار
مضيتُ واسِماً بصلبانٍ من نار
أطلَسَ جسدِكِ الأبيض.
كان فمي عنكبوتاً يبحث فيه مختبئاً.
فيكِ، خلفكِ، خائفاً، ظمآن.
حكاياتٌ أرويها لكِ على ضفّة الشفق،
أيتها اللعبةُ الحزينةُ والحلوة، كي لا أَدَعكِ حزينة.
طائرُ التّم، شجرةٌ، شيءٌ بعيدٌ وفرِح.
أيام العنب، أيام النضج والثمر.
أنا الذي عشتُ في مرفأ حيثُ أحببتكِ.
الوحدة يخترقها الحلم والصمت.
محاصَرٌ بين البحر والحزن.
صامتٌ، هاذٍ، بين ربّانَيْ زورقين ساكنَيْن.
بين الشفتين والصوت، شيءٌ راح يموت.
شيءٌ له جناحا طير، شيءٌ من كآبةٍ ومن نسيان.
هكذا مثل شِباكٍ يتسرّب منها الماء.
يا لعبتي، لم يَبْقَ غير قطراتٍ ترتعش.
لكنَّ شيئاً يُغنّي بين هذه الكلمات الهاربة.
شيءٌ يُغنّي، شيءٌ يَصعد حتى فميَ الشره.
أيتها القدرة على استقبالكِ بجميع كلمات الفرح.
أُغنّي، أحترق، أهرب، مثل بُرجِ أجراسٍ بين يديْ مجنون.
يا حنانيَ الحزين، ماذا تفعلين فجأةً؟
عندما بلغتُ ذروةَ الجرأةِ والبرودة
انغلق قلبي مثل زهرةٍ مسائية.
* ـ مُتفكِّراًً، أصطاد ظلالاً
مُتفكِّراً، أصطاد ظلالاً في وحدتيَ العميقة.
أنتِ أيضاً بعيدة، آه، أكثر بعداً من أي إنسان آخَر.
مُتفكِّراً، أُطلق عصافيرَ، أمحو صوراً،
أدفن مصابيحَ.
بُرجُ أجراسٍ من ضباب، ما أبعده، هناكَ، فوق!
أخنقُ النحيب، أطحنُ آمالاً قاتمة،
طحّانٌ صامت،
يدهمكِ الليل، وأنتِ بعيدةٌ عن المدينة.
حضوركِ لا يعنيني، غريبٌ عنّي.
أُفكِّرُ، أسيرُ طويلاً، حياتيَ قبلكِ.
حياتيَ قبل لا أحد، حياتيَ المُرّة.
الصرخة أمام البحر، بين الصخور،
أَركضُ حرّاً، مجنوناً، وسط رذاذ البحر.
الغضب الحزين، الصرخة، عزلة البحر.
جَموحٌ، عنيفٌ، أُطاول السماء.
أنتِ، يا امرأة، ماذا كنتِ هناك، أيُّ خطّ، أيُّ أثرٍ
مِن هذه المروحة الهائلة؟ كنتِ بعيدةً مثل الآن.
حريقٌ في الغابة! يشتعل في صلبانٍ زرق.
يشتعلُ، يلتهبُ، يتّقد في شَجَرٍ من نور.
يتقصَّف، ينهار. حريقٌ. حريق.
وروحي ترقص جريحاً من شَرَرِ النار.
مَن الذي ينادي؟ أيُّ صمتٍ يضجّ بالأصداء؟
ساعةُ الحنين، ساعةُ الفرح، ساعةُ الوحدة،
ساعتي أنا بينها جميعاً!
بوقٌ تنفخ فيه الريح وهي تُغنّي.
شغفٌ جارفٌ بالبكاء منعقدٌ إلى جسدي.
زعزعةٌ لكلّ الجذور،
اجتياحٌ من كلّ الأمواج!
كانت روحي تدور، بلا نهاية، فَرِحةً، حزينة.
مُتفكِّراً، أدفن مصابيحَ في الوحدة العميقة!
مَنْ أنتِ، مَنْ تكونين
عن موقع / الف ليلة وليلة