السبت، يناير 03، 2015

الأديب عصام الزهيري يكتب : منذ متى بدأ المسلمون يحفظون القرآن تاما؟!








              منذ متى بدأ المسلمون يحفظون القرآن تاما؟!
.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما أراد "البيضاوي" (القرن السابع الهجري) أن يبرر استخدامه لأحاديث الموضوعة في تفسيره أرجع ذلك إلى رغبته في تحريض الناس على حفظ القرآن!، إذ قال: "رأيت اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد ابن اسحاق، وأعرضوا عن حفظ القرآن، وقد وضعت هذه الأحاديث حسبة لله تعالى"!.
ورغم غرابة التبرير طبعا إلا أن المسألة تظل في حاجة إلى فحص بحثي تاريخي يجيب عن سؤال لا يعتنى بطرحه في العادة رغم أهميته، وهو: منذ متى بدأ المسلمون يهتمون بحفظ القرآن بكامله بدلا من فهمه واستيعابه استيعابا جيدا ودقيقا؟. 
لا يعني هذا أن حفظ القرآن نقيضا للفهم في كل الأحوال، لكنه يتعلق بما أصبحنا نراه شائعا من حرص المسلم على حفظ القرآن أو آيات منه مع ترديدها – جهرا غالبا - كتمائم سحرية تدفع الضر وتجلب البركة، دون أدنى رغبة – أو قدرة - على تعمق موضوعاته وتدقيق أحكامه والتخاطب مع بلاغته وسياقاته الإشارية، وهو فارق – لا شك - بين عقلية الجهل والخرافة التي تنظر للقرآن الكريم نظرتها إلى عمل سحري تمائمي، وعقلية الاستيعاب التي تراه وحيا إلهيا يخاطب عقول وقلوب البشر من أجل هدايتهم لطريق مستقيم.
في كل الأحوال فإن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الصحابة الكرام وكثير من التابعين لم يهتموا بحفظ القرآن الكريم كاملا، ولم يكونوا يعدون حفظ القرآن بكامله فضيلة من الفضائل الكبرى أو هدفا عظيما يسعى المسلم لتحقيقه كما هو الحال اليوم. حتى أنه روي عن "ابن عمر" أنه أقام على حفظ سورة البقرة ثماني سنين، وقد قال في ذلك أنه "إنما كان يحفظ ولا ينتقل من آية إلى آية حتى يفهم". وواضح من ذلك أن ما كان يشغل موقع الصدارة عندهم، والمرتبة القصوى في علاقتهم بالقرآن، هو التبحر في فهمه والتدقيق في تعمقه والتحرج من الإدلاء فيه بتفاسير على عواهنها بدون معرفة محيطة وموثوقة.
بدلا من حفظ القرآن كاملا، ورغم أن الحاجة لذلك كانت أكثر تطلبا في بيئة الجزيرة العربية التي لا تنتشر فيها القراءة والكتابة، كان الصحابة رضوان الله عليهم يتبادلون حفظه (فهمه) ويتوزعون حفظهم لآياته فيما بينهم. وبحسب الخبر المنقول عن "أنس" ورواه "أحمد" في مسنده : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا" ولم يفكر معظمهم في حفظه كاملا على ذلك، مما يوحي بأن مسألة كهذه لم تكن مطروحة على أذهانهم بقدر ما كان المطروح دائما هو فهمه على ما تقدم، وبما يشي بحاجتنا إلى تدقيق البحث في هذه الجزئية أو التفصيلة التاريخية الهامة، التي قد يخرج الباحث منها بنتائج دالة وجيدة.
كانت الطريقة المعروفة أو شبه المعتمدة التي تداولتها الأخبار في حفظ الصحابة للقرآن، كما ذكر "أحمد أمين" في كتابه "فجر الإسلام" أنهم: "كانوا يحفظون السورة أو جملة آيات ويتفهمون معانيها، فإذا حذقوا ذلك انتقلوا إلى غيرها". وهي طريقة في الحفظ والاستيعاب لابد أن تدفعنا لطرح السؤال والبحث عن إجابة له بطريقة علمية، وهو: متى وكيف ولماذا وفي أي ظرف انقلبت الآية من الاهتمام بقراءة القرآن بالمعنى التام للقراءة، أي قراءة فهم وذوق وتدبر وتعمق، إلى الاهتمام بحفظه وترديده على الوجه الشائع اليوم أي كسلاسل من تمائم السحر جالبة البركة بغض النظر عن معناها أو استيعاب معناها؟
هنا يجب أن يتوقف الفحص التاريخي الذي ربما يعيدنا إلى بداية شيوع الاهتمام بحفظ القرآن بين العامة والخاصة، وربما يكون قد شاع حفظه في البداية دون حدوث تضارب بين حفظه وفهمه. وأخمن أن هذا التحول إلى الحفظ والترديد التمائمي يعود إلى ما بعد الأزمة السياسية والدينية الشاملة التي وقعت خلال الفتنة الكبرى، وقد تكون هي ما أدى إلى شعور معظم الناس بخطورة نتائج التدبر في معاني الآيات، وبخطورة نتائج التدبر نفسه، وبخطورة نتائج إعمال العقل بعامة، مما قد يؤدي بهم إلى التورط في الانحياز في غمار اختلاف دموي شامل استمر لقرون، ولم ينتهي إلى يومنا، وأراد معظم الناس بلا شك اجتنابه.
غير أن السبب المباشر من خارج السياق التاريخي أو الظرف الموضوعي الذي يمكن أن يكون قد أدى إلى ذلك، والذي أثق بديهيا من أهميته، تعود المسئولية فيه إلى الفقهاء السلطويين، وأقصد بهم هؤلاء الذين امتلكوا قراءة سلطوية سياسية منحازة للقرآن، سواء ممن اقتربوا من سلطة الخلفاء أو ممن عارضوهم سياسيا، فهؤلاء وهؤلاء معا لم يريدوا من الناس إلا تبعية عمياء وطاعة مطلقة في شئون سياسية يجوز دائما للناس أن يختلفوا فيها، وليصل الفقهاء لهذه النتيجة ويقع هذا الخلط المرعب بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وبين ما هو أرضي وما هو مقدس، كان لابد من حجب إعمال العقل وتضعيف سلطته عند معظم الناس، وفي هذه الحالة لابد أن تميل الكفة ميلا نهائيا لصالح حفظ القرآن دون فهم. طبعا مع ترويج الاعتقاد بأن عقول الناس ليست قادرة على الاستيعاب والفهم بعيدا عن إملاءات – وليس مساعدات - اللاهوت الفقهي.

ليست هناك تعليقات: