الخميس، يوليو 03، 2014

ملك الحميرقصـــة قصــــيرة للاديب عبدالجواد خفاجي



قصـــة قصــــيرة

            
ملك الحمير                 
                           عبدالجواد خفاجي

ــــــــــــــــــ
كل ما فعله أهل القرية أن جمعوا أشلاءه وعظامه، وكـفَّنوه، كأي ميت ، ودفنوه، وفي الصباح كتبوا على قبره "ملك الحمير".
وللرجل حكاية بعيدة لا زال يسردها الرواة:
وحده كان يعرف ما يريد عندما بدأ يبني قلعة كبيرة عند مدخل القرية ويعبئها بالحمير.. بطبيعة الحال كان الناس يتساءلون: لماذا يبدد الرجل أمواله ، وما حاجتة بالحمير التي يجمعها من الأسواق والبلدان .. يحشدها في القلعة حتى امتلأت ساحاتها وردهاتها وغرفها بالحمير.
زاد عُجب أهل القرية عندما بدأ الرجل يجلب العبيد والعلاَّفين والأطباء للحمير ، وخصص قسماً من قلعته لبيطرة الحمير، وقسماً آخر لهندمة الحمير، وقسماً ثالثاً لرفاه الحمير، وقسماً رابعاً لعلف الحمير، وشاهد أهل القرية لأول مرة حميراً عفيَّة مهندمة عليها برادع وثيرة بألوان زاهية، تخرج قطعانها آخر النهار يحرسها العبيد بالبنادق .. تتجول في ساحات القرية ودروبها الرطبة ، وهي تهز ذيولها وأردافها وتتنسم الهوء العليل .
احتار أهل القرية في أمر الرجل، وأطلقوا أسئلتهم، وهم يرونه جالساً أمام قلعته يحوطه الخدم والحمير، مستلقياً على ظهره فوق دكة عريضة أمام باب القلعة، وبندقيته بجواره، واضعاً ساقا فوق أخرى.
ازداد عجب الناس عندما شاهدوا من بعيد لافتة عريضة تعتلي بوابة القلعة ، وقرأوا كلماتها: " مملكة الحمير .. اخرجوا منها بسلام آمنين" ، ورغم تعجبهم إلا أنهم فهموا شيئاً باتجاه نوايا الرجل ، ومع ذلك تساءلوا: كيف ارتضى أن يكون ملكاً للحمير؟!
الذي حدث بعد ذلك كان مفاجأة للناس .. لقد بدأت قطعان الحمير ترفس كل من يقابلها من أهالي القرية .. متى تدربت الحمير على الرفس الجماعي .. كيف اتخذت من أهال القرية عدواً لها؟! .. استشعر الناس الخطر وبدأوا يجتمعون في دواوينهم وساحاتم ومساجدهم ، وانهمكوا يفكرون .. وانبرى كبراؤهم وخطباؤهم ووجهاؤهم يقترحون، وانقسمت الآراء حول الحمير.
اقترح البعض مقاومة الحمير بالسلاح، خاصة أن رفساتها طالت الكثيرين منهم، وتسببت في موت أطفال كثر، وخلفت إصابات لم يسلم منها النساء والوِلدان. بينما رأي فريق ثانٍ أن الذنب ليس ذنب الحمير، واتجهت إدانتهم نحو الرجل صاحب الحمير. ورأي فريق ثالث أن مقاومة صاحب الحمير فيها إراقة للدماء خاصة أن الرجل مسلح ولديه ما يحميه من العبيد المسلحين. ورأي فريق رابع أن يهجر هذه القرية التي امتلأت بالأخطار والحمير.
الذي أزعج أهل القرية وجعلهم يرجحون رأي الفريق الأخير، أنهم شاهدو الحمير تتدلي من رقابها وذيولها أجراساً يصدر عنها رنيناً متواصلا مزعجاً مُنَـفِّراً بدأ يعبئ أجواء القرية ويصم آذان الناس، كلما تحركت الحمير أو هزت ذيولها ورقابها.
ولما كانت أعداد الحمير غفيرة وقطعانها منتشرة في كل الأطراف والجهات بدأ الناس يفكرون في الرحيل عن القرية ، خاصة أن ملك الحمير بدأ يطلق حميره ليلاً والناس نيام ليحرمهم النوم، كما يطلقها نهاراً ليعطل حركتهم ومعائشهم.
ماذا يفعل الناس غير الرحيل، وقد تأبَّت عليهم طباعهم قتل الحمير أو إراقة الدماء؟ .. جمعوا أمتعتهم ورحلوا زمراً عن القرية وتركوها لملك الحمير وما يبتغيه.
عندما تأكد ملك الحمير من رحيل آخر رجل عن القرية.. جمع عبيده وذهب بهم إلى أسواق العبيد ، وقبض ثمنهم ونفض يده من مؤنتهم.
بقيت الحمير لا تجد من يضع لها العلف، أو يعتني برفاهها وهندمتها، وبيطرتها حتى انتشر الجرب في جلودها، حتى أن ملك الحمير فكر في بيعها، ولكن: من يشترى حميرا ينتشر فيها الجرب؟ وبأي مسوغ يبقى ملك الحمير بغير الحمير؟
وذات نهار قائظ استبد الجوع والجرب بالحمير؛ فهاجت، وخرجت من قلعتها قطعانا متزاحمة تثير غبار الأرض، تنفر نفارها، وتنهق نهيقها، وهي ترفس الهواء بشدة، في يوم أسماه الرواة "ثورة الحمير" .. لم تجد غير ملك الحمير ممدداً على دكته متوسداً بندقيته، واضعاً ساقاً فوق ساق، يتأمل اللافتة فوق بوابة قلعته؛ فاعتلته.
اعتلت الحمير الدكة، ورفستها من جميع جوانبها، وراح ملك الحمير تحت حوافر الحمير .. وعندما عاد أهل القرية إلى قريتهم، وجدوا أشلاء جسدٍ ممروسٍ، وبعض عظام مكسرة ، ورأس مهشم تبرق منه عينان باتجاه اللافتة.
هنالك صعد بعض شبابهم إلى أعلى بوابة القلعة ، ووضعوا لا فتتهم الجديدة: "ادخلوها بسلام آمنين".

ليست هناك تعليقات: