الثلاثاء، أبريل 12، 2011

الأديب قاسم مسعد عليوة يكتب :- برميل الزيت الذى قدمه مبارك لمشعلى نيران الفتنة







استمعت إلى كلمة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك التى أذاعتها الأحد 10 أبريل 2011م. قناة (العربية) التليفزيونية الفضائية، تلك الكلمة التى أبدى فيها استياءه من حملات التشكيك فى ذمته المالية وذمم أفراد أسرته، ثم نفى بجمل وعبارات حاول أن توحى بالحسم ملكيته هو و زوجته وأى من ابنيه علاء وجمال لأية عقارات أو أى أصول عقارية بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كانت تجارية أو شخصية، فى الخارج منذ اشتغل بالعمل العام عسكرياً وسياسياً وحتى تاريخه؛ وأعلن فيها عن استعداده بأن يقدم أية مكاتبات أو توقيعات تمكن النائب العام من أن يطلب من وزارة الخارجية المصرية الاتصال بوزارات الخارجية فى كل دول العالم لتؤكد لهم موافقته وزوجته على الكشف عن أية أرصدة لهم فى الخارج؛ وبعد دفاعه عن عناصر ومصادر أرصدة وممتلكات علاء وجمال وقوله إنها بعيدة عن شبهة استغلال النفوذ أو التربح بصورة غير مشروعة ختم كلمته بأنه يحتفظ بكافة حقوقه القانونية تجاه كل من تعمد النيل منه ومن سمعته ومن سمعة أسرته بالداخل وبالخارج.

هذا ملخص ما قاله ، أما أداؤه الصوتى فقد اتسم بالمهارة العالية، المقرونة بإتقان نبرات الصوت وتموجاته وبحَّته لتحقيق ذات الأثر الذى عمد إلى إحداثه فى نفوس سامعيه فى خطبه الأخيرة، خطب ما بعد الثورة، فقد استهدف استدرار الشفقة والتعاطف؛ لكن المحتوى ظل استعلائياً، ولهجة الحاكم الذى استمر يحكم لثلاثة عقود متصلة ظلت مسيطرة على هذا الأداء. أداء هابط من أعلى إلى أسفل، من شخص اعتاد السيطرة وهو فى سُدة الحكم إلى مواطنين هم الأقل فى المرتبة والأدنى فى المكانة، مواطنين ما عليهم إلا أن يسمعوا ويقبلوا مهطعين رءوسهم، فالشعب هو الذى أخطأ فى حقه بينما هو لم يخطئ فى حق الشعب.

على قصر الكلمة تضمنت انتقالات صياغية وأدائية من شأنها أن تثير فى أذهان سامعيها، إذا ما أرادوا تصنيفها فى إطار ما يعرف بالأدب السياسى، قدراً من الحيرة غير يسير، فبدايتها أوهمت بأنها خطاب رئاسى مما اعتاد الشعب على سماعه منه طوال فترة حكمه، ثم ما لبثت أن تحولت إلى بيان بما احتوته من بعض معلومات عن تقديمه لإقرار الذمة المالية وعدم وجود حسابات وأرصدة وممتلكات له ولأفراد أسرته بالخارج، ثم تحول إلى رسالة موجهة إلى النائب العام يملى عليه كيف يتصرف، وفى نفس الوقت كانت الكلمة ـ مع تصنيفاتها السابقة ـ مرافعة دفاع علنى، خرق بها القاعدة التى تحظر مخاطبة الرأى العام فى الأمور التى تنظر أمام القضاء.

إن الأسئلة لتتزاحم على رأس المرء وهو بستمع إلى هذه الكلمة؛ لماذا لم يقدم محمد حسنى مبارك وأفراد أسرته إقرارات ذممهم المالية ومبارك فى سدة الحكم؟..ولماذا هذه الكلمة بالتحديد فى هذا الوقت بالذات؟.. هل يمكن التعامل معها باعتبارها فصلاً من فصول خطة مدروسة تستهدف توسيع الهوة بين الشعب والجيش، خصوصاً بعد أحداث فجر السبت التى أعقبت جمعة المحاكمة والتطهير وأسفرت عن قتيل وسبعين مصابا واعتقال مثلهم؟.. وهل لموعد البث صلة بخطط رجل الأعمال إبراهيم كامل ومن يشايعه من فلول الحزب الوطنى وبعض رجال الأعمال؟.. وهل تقف مسئولية مبارك بعد ثلاثين عاماً من الحكم الفردى عند حدود الذمة المالية والتحريض ـ مجرد التحريض ـ على قتل المتظاهرين فى ثورة 25 يناير؟.. وأين هى المسئولية السياسية؟.. أين مسئوليته عن تفريغ الديموقراطية من محتواها وقيامه هو وأفراد أسرته ومعاونوه بتحويلها إلى شكل بلا محتوى؟.. أين مسئوليته عن ممارساته وممارسات أعوانه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى شوهت صور الحياة فى المجتمع المصرى وطحنت أفراد الشعب بكل طوائفه وفئاته؟.. أين مسئوليته ومسئولية أفراد أسرته عن تعديل الدستور لضمان بقاء الأسرة فى سدة الحكم؟.. وأين مسئوليته ومسئولية نظامه عن التزوير المتتالى ليس للانتخابات النيابية فحسب وإنما أيضاً للاستفتاءات ، سواء كانت على الدستور الذى عدله بما يوائم ابنه جمال، أو كانت على تجديد فترات رئاسته هو؟.. وهل ينسى الشعب التعذيب الذى نال الكثيرين من أفراده وفصائله ممن ينتمون إلى مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية إبان فترة حكمه؟.. أليس هو المسئول الأول عنه؟.. ثم ماذا عن شهداء الثورة، أولئك الأبرار الذين أريقت دماؤهم فى ميدان التحرير بالقاهرة وفى كل شوارع وميادين مصر، هل تكفى مياه العالم كله ـ عذبة كانت أو مالحة ـ لغسيل يديه منها؟.. وإن اكتفينا بتهمة التحريض، فهل تحريض رئيس الجمهورية، ونجله الموعود بالرئاسة، يعادل تحريض أى مواطن آخر؟.. والتغول الرأسمالى الفاتك بثروات المصريين من الذى رعاه؟.. أليس هو وأفراد أسرته وحاشيته؟.. والانفلات الأمنى الذى أصاب كل صور الحياة بعد الثورة، أليس هو ورجالات نظامه المسئولين عنه؟.. والخسائر المالية التى منيت بها مصر وتضخمت ومازالت تتضخم، أليس هو المتسبب فيها بتعنته وتشبثه بأوهام البقاء فوق كرسى السلطة وعرش الحكم؟..

لقد استمعتُ إلى تحليلات عدد من المعلقين، ولحظتُ وقوفاً متكرراً لبعضهم أمام توقيت بث مبارك لكلمته، مثلما لحظتُ استنكاراً من بعض ثان لبثها عبر قناة تليفزيونية غير مصرية (قناة العربية)، ولحظتُ يضاً تأكيداً من بعض ثالث على أهمية محاكمته أمام القاضى الطبيعى.

فأما التوقيت فمعروفه أسبابه، فلم يخرج بصوته المُدَرَّب فى أول كلمة يلقيها بعد اضطراره إلى التخلى عن الحكم إلا بعدما تشدد الشعب الغاضب فى المطالبة بمحاكمته، وخصص جمعة فوق مليونية لهذا المطلب وأجرى أثناءها (الجمعة 8 أبريل 2011م.) محاكمة شعبية له. لم يخرج عن صمته إلا لما تزايدت ضغوط الشعب على حكومة شرف والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وارتفعت هتافاته المنددة بهذا المجلس وبرئيسه المشير حسين طنطاوى والنائب العام عبد المجيد محمود، ليس فى ميدان التحرير فقط، وإنما فى أرجاء مصر كلها. لم يخرج عن صمته إلا بعدما هدد متظاهرو التحرير بالزحف إلى شرم الشيخ حيث يقيم هو وأسرته. تحت هذه الضغوط الهائلة اضطر القضاء الرسمى ـ وفرق كبير بين الاضطرار والمبادرة ـ إلى اتخاذ خطوات يمكن وصفها بالإيجابية. فى هذا الوقت، الذى يمكن وصفه بالوقت الحرج، خرج مبارك بصوته ليوسع الفتق فى النسيج الذى يجمع بين الشعب والجيش، فتق كلما رُتق عادت أصابع الثورة المضادة ففتقته. بسبب من كل هذا خرج مبارك عن صمته وبث كلمته فى هذا التوقيت بالذات.

إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو عدم الحصافة إزاء اختياره لقناة (العربية) غير المصرية قناة يبث عبرها كلمته هذه، وغير معروف حتى الآن ما إذا كان قد طلب بث هذه الكلمة عن طريق منابر إعلامية مصرية عامة أو خاصة أم لا، وما من شك أنه إذا كان قد طلب هذا ولم يُمكَّن منه فإن وصف عدم الحصافة ينتقل إلى هذه المنابر، اللهم إلا إذا كانوا قد طلبوا تصريحاً قضائياً ولم يقدمه، وكون البث صوتياً فهذا يستدعى التأمل فى الدوافع التى حدت به إلى الاستغناء عن كاميرات التصوير، وأظنها متاحة له فى محل إقامته الجبرية. المسألة مقصودة فى اعتقادى، فمع الصوت وحده وعبر تلوناته تتاح الفرص للتلاعب بأخيلة وعواطف المستمعين، فملامحه لن تُرى، ونظرات عينيه ستختفى، وحركة بدنه لن تظهر، من هنا يمكن لحالته الصحية أن تكون بؤرة للاستقطاب العاطفى، وهذا ما أظنه قد دفع به إلى الاكتفاء بالصوت والاستغناء عن الصورة؛ ولنتذكر أنه تحت إقامة جبرية فى مكان قصى منعزل، فى الفيللا رقم 212 بشرم الشيخ ـ وما هى بفيللا وإنما هى قصر منيف ـ ولنتساءل عن جدوى الإقامة الجبرية ما دام التسريب منها وإليها أمراً ممكناً. الإقامة الجبرية قريبة الشبه بالحبس الاحتياطى، وتعنى ضمناً أن الرقابة مفروضة ليس على من أجبر على هذه الإقامة فقط، وإنما على الداخلين إليه والخارجين من عنده. والرقابة تشمل كل الاتصالات السلكية واللاسلكية، العادية والإلكترونية، فكيف تسربت هذه الكلمة؟.. بالوسائل العادية أم بالوسائل الإلكترونية؟.. عن طريق قرص مدمج نقله شخص خرج به من الفيللا وركب وسيلة نقل، طائرة أو سيارة، أوصلته إلى القاهرة وسار به فى شوارع القاهرة حتى مقر قناة (العربية) فسلمه للمسئول ثم أعطى تماماً بالتسليم، أم دفع بما فيه عبر رسالة إلكترونية بثها بنفسه أو بواسطة أحد من أفراد أسرته أو العاملين لديه عبر جهاز كمبيوتر شخصى ضمن أجهزة اتصال غير قليلة متوفرة ـ بالمنطق ـ فى محل إقامته القصى الباذخ؟.. من أغرب ما سمعناه بهذا الصدد ما صرح به اللواء ممدوح شاهين، عضو المجلس الأعلى لقوات المسلحة مساعد وزير الدفاع للشئون القانونية، لقناة "أون .تى. فى" التليفزيونية الفضائية وبثتها مساء اليوم (الاثنين 11 أبريل 2011م.)، تعليقا على كلمة مبارك لقناة (العربية) يوم أمس، إذ قال إن منع الاتصال والمراسلات عن مبارك يستلزم قرارا قضائيا. رحم الله رئيس مصر الأسبق اللواء "محمد نجيب" الذى حرم بما يتمتع به مبارك الآن حين فرضت الإقامة الجبرية عليه فى منزله.

وقد يكون مقبولاً أن يَمْثُل مبارك هو وأفراد أسرته وأركان نظامه أمام قضاتهم الطبيعيين فيما يتعلق بالفساد المالى والاقتصادى، لأنه ـ كما قيل ـ لا يمكن استرداد أية أموال مهربة إلى الخارج إلا عبر أحكام نهائية يصدرها القضاء العادى وليس الاستثنائى. ربما يكون هذا مقبولاً مع قضايا من هذا النوع، لكن ذمة الحاكم ليست هى الذمة المالية فقط، إذ تمتد هذه الذمة لتشمل ذمماً أخرى أبرزها الذمة السياسية؛ وغنى عن البيان أن الفساد السياسى إنما يبدأ من الرأس، التى هى فى الحالة المصرية الراهنة رأس مبارك. إن فساداً من هذه النوعية يستوجب ـ كما طالب فريق كبير من الشعب الثاثرـ اللجوء إلى القضاء الاستثنائى، فمن غير المعقول أن يقوم عدد قليل من الضباط (لا يزيد عن عدد أصابع الكفين) بتشكيل محكمة للثورة، عقب تحول حركتهم إلى ثورة (ثورة 23 يوليو)، لمحاكمة من أفسدوا الحياة السياسية قبل قيامها، ولا تشكل ثورة الملايين المصرية (ثورة 25 يناير) محكمة تحاسب مبارك ومن أفسد الحياة السياسيه معه طوال ثلاثين سنة مضين.

إن استدعاء مبارك وولديه علاء وجمال للتحقيق أمام القضاء العادى أمر محمود، لكن غير المحمود هو التأخر فى هذا الاستدعاء، فقد ترتب على هذا البطء تصرفات كثيرة، من قِبل مبارك وأفراد أسرته، تداولت الصحف المحلية والأجنبية ـ والأجنبية بالأساس ـ أخباراً غير قليلة عنها، ولنتذكر هنا رفض مبارك وأفراد اسرته استلام أول إعلان من المحكمة الذى توجه به مُحضر محكمة جنوب سيناء إلى الفيللا رقم 212 وأبلغ، ورهط الشرطة المصاحب له، وكان هذا الإعلان متعلقاً بالدعوى المقامة ضد مبارك لحل الحزب الوطني ومصادرة ممتلكات ومقرات الحزب بصفته رئيسا لهذا الحزب، كما رفض جمال مبارك المثول أمام الكسب غير المشروع، لنتذكر هذان الموقفان لنعلم موقف هذه الأسرة من القضاء.

ربما كان من الممكن أن يتخذ هذا التحليل منحى آخر لو أن مبارك اعتذر لشعبه عما ارتكبه بحقه وما سببه له من آلام، لكنه استعلى ولم يفعل. لذا بدا جلياً لكل من له عين ترى وأذن تسمع أن مبارك إنما كان يخاطب بكلمته هذه أشياعه من مؤججى الثورة المضادة، أولئك الذين دأبوا على بث الفوضى وإثارة البلبلة منذ أول يوم قامت فيه الثورة، وقدمها لهم برميل زيت جاهز لإشعال نيران الفتنة .. وقى الله مصر من شرورها.

قاسم مسعد عليوة

الاثنين 11 أبريل 2011م.

ليست هناك تعليقات: