الاثنين، ديسمبر 06، 2010

نجم والي يكتب :- غارسيا ماركيز الثمانيني يعود إلى الخطابة ثانية



نجم والي

كان غابريل غارسيا ماركيز في السابعة عشرة حين ألقى خطبته الأولى، أما خطبته الأخيرة فكانت قبل فترة قريبة، عندما أكمل للتو 80 عاماً. الخطاب الأول الذي كان موضوعه الصداقة ألقاه عام 1944 في ثانوية البنين في مدينة زيباكيرا الكولومبية، حيث أنهى للتو دراسة البكالوريا، أما الخطاب الأخير الذي ألقاه ففي الحفل الخاص في قصر المؤتمرات بكولومبيا وذلك في إطار المؤتمر الرابع للغة القشتالتية (الكاستيانية) الذي كان مناسبة أيضاً لإطلاق طبعة خاصة من رواية ماركيز «مائة عام من العزلة» بمليون نسخة. في الخطاب الأول كان حاضراً نفر من زملائه الطلاب الذين سيصبح بعضهم مشهوراً (وإن ليس بشهرة ماركيز)، أما في الثاني فحضر 1500 مدعو من الشخصيات المهمة في العالم، حرسهم في خارج القاعة 2300 شرطي. من بين الحاضرين كان ملك اسبانيا خوان كارلوس وزوجته، بيل كلينتون ورئيس كولومبيا السابق ألفرو أوريبه.
« لم آت لكي ألقي عليكم خطبة«، قال ماركيز لزملائه في مناسبة خطابه الأول في تلك السنة التي أصبحت غابرة الآن، بنبرة ساخرة لم تخلُ من نزق المراهق الذي كانه، الجملة هذه وليس غيرها هي التي اختارها صاحب النوبل لكي تكون عنوان كتاب يحوي اثنين وعشرين خطبة ومحاضرات نزلت للأسواق في مدريد قبل ثلاثة أسابيع.
من كلمته المشهورة بمناسبة تسلمه جائزة نوبل عام 1982 في استوكهولم إلى الإشكالية التي دعا فيها إلى تقاعد اللغة القشتالتية في زاكاتيساس في المكسيك عام 1997، يحوي الكتاب على مختارات متنوعة لشغف صاحب «الحب في زمن الكوليرا» في مختلف المجالات التي كتب عنها، وهي عديدة، تبدأ بالسينما وتمر بالسياسة والصداقة، وتنتهي بأميركا اللاتينية وطبعاً بالأدب. أغلب مداخلاته الأولى، كما هي في مداخلة له عام 1972 في فينزويلا بمناسبة تسلمه جائزة رومولو غايغوس، تبدأ بالاعتراف بشيء غير قابل للتعويض، وإن ظن البعض العكس، وهو يعني «تسلم جائزة وإلقاء خطبة«.
«وظيفة الكاتب هي الوظيفة الوحيدة التي تبدأ صعوبتها عند ممارستها»، هذا ما قاله ماركيز في كاراكاس عام 1970، عندما كان «سعيداً وغير مشهور«، في مؤتمر عقد تحت عنوان «كيف بدأت الكتابة». في تلك المناسبة تحدث ماركيز عن قصته الأولى، كيف أنه كتبها وكان هدفه أن تكون في النهاية رداً على صحافي كولومبي صرح بأن القصاصين الشباب في كولومبيا ليس عندهم ما يقولونه. الكلمة تلك، كما صرح للصحافيين يوري كريستوف بيرا، المسؤول عن تحرير كتاب ماركيز الجديد، أنقذتها مارغريتا ماركيز ابنة عم الكاتب من النسيان، من «أرشيف» العائلة: «عندما قرأ غابو النص، قال هذا ما كتبته أنا بالضبط، أنا متأكد».
بعد أربعين عاماً من ذلك التاريخ، وأمام جمع من الشخصيات المهمة في مدينة قرطاجة الهنديات، ألقى غارسيا ماركيز أمام الحضور بتلك الفرضية التي لا تخلو من الطرافة: «إذا عاش 50 مليوناً من قراء «مائة عام من العزلة« سوية، فإنهم سيشكلون تعداد أحد بلدان العالم الكثيفة السكان«، وذلك «ليس له علاقة بالتفاخر» بقدر ما له علاقة بالإحصائيات.
في خطابه بمناسبة تسلمه للنوبل لم ينس غارسيا ماركيز التذكير بأستاذه الذي تعلم الكتابة منه، الأميركي وليم فوكنر، بابلو نيرودا وتوماس مان. ثلاثتهم حصلوا على النوبل مثله، لكن كلماتهم كانت سياسية بالقدر نفسه كانت فيه أدبية، «لأن الأصالة التي تستسلم لنا في الأدب، ومن دون تحفظ، تمتنع عنا وبكل أنواع سوء الظن في محاولتنا الصعبة للتحول الاجتماعي؟».
أما الجملة التي قرأناها مرة على لسان سيمون بوليفار في رواية ماركيز «الجنرال في متاهته»والتي تقول «نحن جنس بشري صغير»، فنعثر عليها هذه المرة في جميع خطابات ومداخلات غارسيا ماركيز عند الحديث عن أميركا اللاتينية، رغم إنه غالباً ما يلحق بها جملة أخرى تقول، بأن الجنس البشري الصغير هذا هو «أول إنتاج عالمي للمخيلة الإنسانية المبدعة»، و«لاندماج السينما والأدب» أيضاً. قلقه المتعلق بقارته مبثوث في كل سطر من مداخلاته تلك، سواء في حديثه عن الديكتاتوريات أو عن تجارة المخدرات، بل إننا نعثر عليه حتى في حديثه عن البيئة. أما التربية العامة فهي بالنسبة له سلاح فعال ضد التهميش الاجتماعي: «الفقر والظلم لم يتركا لنا وقتاً طويلاً لنتعلم دروس الماضي ولا التفكير بالمستقبل».
في جواب قديم للصحافة على سؤال «لماذا تكتب»، قال ماركيز أنه يكتب «لكي يفرح الأصدقاء». أحد هؤلاء الأصدقاء الحميمين لماركيز هو الكاتب الكولومبي المشهور (وإن ليس بشهرة ماركيز) الفارو ماتيس والذي يكتب عنه ماركيز في الكتاب أيضاً: «الفارو ماتيس وأنا عقدنا معاهدة ألا نتحدث للرأي العام أحدنا عن الآخر، لا بالمديح ولا بالذم. كان ذلك القرار مثل تطعيم طبي ضد المديح المبالغ عندنا نحن الاثنين«. في عام 1993 ، وفي عيد ميلاده السبعين، كسر الفارو ماتيس وصديقه المعاهدة تلك. حسب ماركيز كسر صاحب «ماركول» المعاهدة قبله، لماذا؟ الجواب لا يخلو من طرافة، لأنه» لم يعجبه الحلاق الذي اقترحته عليه». ثم يروي ماركيز رحلة ماتيس معه للسويد وحضوره حفل تسلمه الجائزة، وبنفس الروح الساخرة التي دمغت علاقاته مع الأصدقاء، يكتب ماركيز عن الفارو الذي صحيح إنه «لم يجد رقصة البوليرو» في ليلة حفل النوبل في استوكهولم، إلا أنّ ماركيز مدين له، لأنه أعاره كتاب «بيدرو بارامو» الذي علمه الكتابة عن عالم مختلف.
في رثاء لاحق للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار تحدث صاحب «العيش من أجل الروي»، كيف أن «الإنسان الأكثر إثارة للانطباع« الذي تعرف عليه في حياته هو خوليو كورتازار، وحسب ما قال كريستوبيل بيرا، إن النص هذا هو أحد النصوص المفضلة عند ماركيز، «كل مرة عندما يقرأه من جديد تنتابه مشاعر جياشة».
خطاب آخر مفضل عند الكاتب هو «من أجل ما يلزم أن يكون عابراً»، خطاب في الحقيقة لم يخلُ من الاستفزاز ألقاه ماركيز في زاكاتيكاس أمام حشد كبير من الأكاديميين المختصين باللغة القشتالتية: «لنحيل الأبجدية اللغوية للتقاعد، رعب الجنس البشري منذ المهد... «. خوزيه أنتونيو باسكوال نائب مدير الأكاديمية الملكية الأسبانية ما يزال يضحك كلما تذكر الكلمة الاستفزازية تلك التي هدر بها صوت ماركيز وهو يشنع بالنحو والقواعد. بالنسبة له الموضوع يدخل في باب الطرافة أكثر من النظر إليه بصفته خطاباً مضاداً لكل ما هو أكاديمي، «في الحقيقة كان ذلك بياناً أكاديمياً للدفاع»، كما يقول باسكوال،»لم يثر عندي الفضيحة». بالنسبة له حصل ذلك في تاريخ اللغة القشتالتية أكثر من مرة،»منذ روبين داريو على الأقل، إنه تقليد قديم«. باسكوال الذي عمل أيضاً على تنقيح وتصحيح النسخة الجديدة من مائة عام من العزلة يؤكد كيف أن غارسيا ماركيز مر على بروفات الرواية وعلى عكس ما ادعاه في خطابه، «كان حريصاً على خلوها من الأخطاء كما هي القواعد».
المهم أن المسؤول عن كتابه الجديد، «لم آت لإلقاء خطاب» الأسباني كريستوبيل بيسكوا يؤكد بأن ماركيز ترك خطاباته ومحاضراته كما هي، كما كانت عليه في وقت كتابتها. حتى كلمته التي كتبها وعمره 17 عاماً لم يغيرها، بل حتى الفواصل والنقاط بقيت على حالها.
والآن ماذا بعد؟ ماذا يعمل الكاتب؟ يُقال إنه يعمل على رواية اسمها «سنرى بعضنا في شهر آب»، والتي لا يُعرف موعد صدورها، وحسب ما قاله ماركيز نفسه للأصدقاء، بأن هناك شخصية في الرواية ما تزال غير مقنعة، وهذا ما يجعله يتردد في نشر الرواية. لا نعرف إذا كانت تلك هي طرفة أخرى لماركيز

موقع / الف ليلة وليلة

ليست هناك تعليقات: