الخميس، سبتمبر 09، 2010

نص ينتمي للمسرح الإيجابي قراءة / مصطفى عطية... يكشف سلبية بعض المثقفين وانتهازيتهم في «أمطار رمادية»


|كتب شحاتة إبراهيم|

استعان المخرج... «أحد شخوص مسرحية أمطار رمادية» بالمرأة لكى توقع يوسف بطل المسرحية في غرامها، وبذلك يدفعه الحب إلى التخلي عن التطرف... واستعان رجال أمن الدولة بامرأة جميلة مثقفة لاختراق يوسف وإيقاعه في حبائلها، وبذلك تتشوه صورته عند مريديه فينبذونه وينبذهم، وبذلك يتخلى عن التطرف... وهو ما يثير الجدل حول رؤية الكاتب الدكتور مصطفى عطيه للمرأة... هل هي فقط مجرد «أداة» للمتعة أو لاختراق الآخرين أمنيا... الإجابة ربما تكون لا... نظراً لحيوية دور المرأة في هذه المسرحية، وعدم الوقوف بها عند نمط معين، بل يمكن القول ان المرأة تجسدت في العديد من الأدوار المتباينة: فهي الفنانة دلال الباحثة دوما عن الشهرة والمال، وهي والدة فوزي الارستقراطية العتيدة، وهي «منى» المرأة غريبة الأطوار، وهي أم زكي المنغمسة مع فوزي في لياليه وسهراته... فهي إذا نماذج كثيرة استطاع المؤلف الإمساك بخيوطها بإحكام ولم يقف فيها عند نمط واحد للمرأة.
وتظل شخصية فوزي أبو طالب بطل المسرحية، والذي اجتهد المؤلف كثيرا في رسم ملامح شخصيته نفسيا وثقافيا واجتماعيا، تظل شخصية اشكالية على أكثر من صعيد، فبرغم انتمائه إلى عائلة اقطاعية ارستقراطية إلا أنه ناصري الهوى مساند للثورة، ورغم أن الثورة أخذت الكثير من أملاكهم ووزعتها على الفلاحين إلا أنه لا يزال محبا لعبد الناصر والناصرية، ويرى فيها تحريرا للإنسان وتجديدا للفن بربطه بالواقع الناهض، ثم وفي تطورات أخرى يكفر بالثورة وبهؤلاء الثوار المستبدين، بل ويكفر بالوطن كله وبالعمل السياسي والجماعي وينحاز لذاته فقط.
فمن الواضح أننا أمام مؤلف جريء، لا يقف أمام تطور أفكار ومشاعر شخصيات مسرحيته، ولا يحد من جموحها بل يترك لهم العنان كاملا دون أي خوف من هروب الخيوط الأساسية للمسرحية من يديه، وهي جرأة لافتة لمؤلف يكتب عمله المسرحي الأول.
وأعترف أنني لم أتحمس كثيرا لخوض مصطفى عطية لتجربة كتابة المسرحية... وعندما كتب عمله الأول «أمطار رمادية»، وأعطاني نسخة منه كنت أخمن- ولي كل الحق- بأنه سيكون عملا فاشلا... لذا فقد استقبلته بقدر غير قليل من اللامبالاة، لسبب بسيط جدا وهو أنني عرفت مصطفى عطية ناقدا متمكنا وعرفته روائيا وقاصا له العديد من الأعمال، واعتبرت اندفاعه إلى فن أدبي جديد عليه، يعتبر مغامرة بكل معاني الكلمة تشتت الجهد ولاتحقق أي إنجاز منتظر، ولكن رغم كل ذلك تظل الأحكام المسبقة - من وجهة نظري- خطأ يصل إلى حد الخطيئة وقسوة غير مبررة في كثير من الأحيان، لذا كان الطبيعي أن أقرأ المسرحية وأتعرف عليها.
... لكن للحقيقة أيضا فقد فاجأتني المسرحية كثيرا عندما قرأتها، وربما أدهشني مستواها الذي يشير إلى كاتب مسرحي مجتهد، ومؤهل لإنجاز أعمال مسرحية أخرى مقبلة أكثر نضجا وأعمق رؤية.
وفي نظري يظل الحوار هو البطل الأول لهذا العمل فهو يتميز بالحيوية والعمق أيضا... وهو هنا ليس مجرد جمل تقال على لسان الشخوص لملء القالب الحواري، ولكن كل جملة في الحوار صيغت بعناية واستطاع الحوار أن يكون بطلا هنا بطزاجته وبقدرته على تحمل هذا الكم من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، التي سرت في نسيجه، ولكنه لم يترهل تحتها ولم يفقد إيقاعه ولا حيويته، بل ظل طوال المسرحية علامة بادية على تمكن الكاتب في إدارة حواره وعلى حماسه الشديد للقضايا المطروحة، لذا جاء مستوى حواره بمستوى حماس المؤلف لأفكاره، ورغبته في عرضها والدفاع عنها فبدا الحوار دائما في حالة توهج ولمعان.
المسرحية تعبر- في وجه من وجوه تميزها- عن الانتماء للمسرح الإيجابي، وتبتعد إلى حد كبير عن مسرح الإسفاف أو المسرح الاستهلاكي، ففكرتها الأساسية تقوم على انتقاد الكثير من الممارسات الخاطئة لبعض مؤسسات الدولة المهمة كالثقافة وأمن الدولة، وكذلك تضع ضوءا عميقا على فساد مجموعة كبيرة من المثقفين وانتهازيتهم واحتيالهم كل الوسائل للوصول إلى الشهرة أو الأضواء... فهم يقبلون أحيانا المهانة... كما حدث مع أحد أبطال المسرحية وهو الزنكلوني «مؤلف»، الذي كان يعمل خادما عند المخرج المشهور السيد رائف، طمعا في أن يسند إليه يوما كتابة عمل ما... وفوزي «مخرج»، يوافق على إخراج مسرحية هابطة داخل أحد الأحزاب طلبا للمال لا غير... وهي مسرحية فاقدة للقيمة الفنية والأخلاقية، كونها ممولة وموجهة من طائفة من الشعب لتشويه طائفة أخرى من أبناء الشعب، وهو ما لا يليق بالفنان الملتزم أن يقبله... وكذلك منيرة «المثقفة»، التي اختارها الأمن للإيقاع بيوسف وقبلت هي ذلك واستطاعت تنفيذ هذا المخطط وتحقيق الهدف المرجو منه... والممثلة المشهورة دلال قبلت العمل بمسرحية في الأقاليم بسبب المال فقط، رغم أنها تعرف أنه ليس عملا فنيا يضيف إليها أي شيء بل على العكس تماما، ونجدها تقول فى موقف آخر: «وأنا قبلت دفع الثمن من سعادتي وراحتي وسمعتي، وكان المقابل هو المال والشهرة»، وكأن الكاتب حريص طوال الوقت على إلقاء ضوء عريض وقاس على سلبية بعض المثقفين وانتهازيتهم الواضحة، وحصدهم لثمار انبطاحهم وتنازلهم، ألا وهو تحقيق قدر من الانتشار والذيوع، ما كان يتحقق لو كانت شخصياتهم مستقلة وسوية.
لكن تبقى بعض الملاحظات العابرة، التي لا تقلل بحال من تميز هذا العمل الجيد... فقد حدثت سقطة فنية ملموسة من الواجب الإشارة اليها، ففكرة مسرحية داخل المسرحية أو مشهد مسرحي داخل المشهد المسرحي أداة فنية راقية ومفيدة في نجاح العمل الفني، بشرط وجود الوعي بالفروق الجوهرية بين المشهدين عند الكاتب، وهو ما أظنه أن الكاتب هنا لم ينتبه له جيدا... فأحد الأحزاب التي تدعي المعارضة، والذي هو صنيعة الحزب الحاكم تلقى دعما من الحزب لانتاج مسرحية تقدم دعاية مغرضة ضد الجماعات الدينية... وطبعا سنتخيل أن المسرحية الموعودة هذه ستبث سموما وتغرس أفكارا عند المتفرجين، هدفها تشويه هذه الفئات المعارضة، ولكن إذا بالمسرحية- في غياب اليقظة الفنية من المؤلف الأصلي مصطفى عطية- إذا بها تحتوي أحد المشاهد يجتمع فيه ضباط الأمن ويتحدثون عن خططهم ونجاحاتهم في تشويه هذه الجماعات، وحيلهم الناجحة لبث الاكاذيب عنهم... هنا الخطأ الفني إذ من غير المعقول أن تنتج الدولة مسرحية تتحدث فيها عن مكرها وتلفيقها التهم ومحاولتها تشويه البعض... فإحساس الكاتب بالظلم الذي يتعرض له البعض على يد رجال الأمن، دفعه لتعرية هذا في مشهد مسرحي ليدين به هذه الممارسات... لكن توظيف ذلك داخل المسرحية كان من دون وعي كاف... وليس في سياقه الفني الصحيح.
والملاحظة الثانية هي ان البطل الاساسي للمسرحية فوزي أبو طالب، يتشابه في كثير من ملامحه ومواقفه وأفكاره مع احدى الشخصيات الشهيرة هنا... وهذا وارد إذا كانت الحنكة الفنية ناضجة، بحيث يكون هذا التماس مع تلك الشخصية الحقيقية، مبررا فنيا وغير فج أو مفضوح، خصوصا لو اعتمد على المزج بين الخيالي والواقعي فيحمي بطله من أن يصبح ظلا أو صورة من أحد، لكن الذي حدث هنا أن العمل المسرحي استغرق كثيرا في الاقتراب من هذه الشخصية، لدرجة أنه ما أسهل أن نقول انه يقصد فلانا تحديدا، ولا أظن أن الفن يقبل أن يبدو وكأنه صورة فوتوغرافية من الواقع لأن ذلك فنيا خطأ... وهنا تحديدا سيكون أخلاقيا خطأ أيضا، صحيح أن حسن النية موجود ومتوافر بكل تأكيد والحماس لدى الكاتب هو دافعه الأساس، ولكن يظل علينا أيضا أن نشير أو ننبه إلى ما خفي بعض الشيء على الكاتب!
إننا أمام عمل فني راق به الكثير من الإيجابيات، والنذر اليسير من السلبيات، ربما يبررها له كونها التجربة الأولى له في المسرح، وكونه تعامل مع المسرحية بحس روائي مألوف عنده.
* شاعر مصري
نقلا عن جريدة الراي الثقافية

ليست هناك تعليقات: