الثلاثاء، نوفمبر 16، 2010

وفؤاد قنديل يكتب : جمالات.. كاتبة من الصعيد



لا يحتاج صعيد مصر إلى المشروعات التنموية والعمرانية فقط، وليس بحاجة إلى الخدمات التعليمية والصحية والإنسانية فحسب، وإنما هو بحاجة أيضا إلى سبل عملية لاكتشاف وصقل ودعم المواهب وإلقاء الضوء على إبداعها المتميز والذى يتجلى عبر عشرات الأصوات الأدبية والفنية اللافتة.. مواهب عفية ومتفجرة كعيون المياه الطبيعية الفوارة رغم بعدها الجغرافى والإعلامى والاحتفالى عن المركز (القاهرة) التى يستأثر المقيمون فيها بالكثير، ولا يبقى لهؤلاء فى الأغلب إلا الصمت والتجاهل وبعض الفتات.

من الصعيد وفى الصعيد وعلى مدى سنوات تسطر جمالات عبد اللطيف بصبر وإخلاص معالم تجربتها الأدبية وتجود كل يوم ملامح وأدوات قدراتها الإبداعية ككاتبة للقصة والرواية.. جمالات التى ولدت فى أبوتيج بأسيوط وتقيم فى طهطا بسوهاج أصدرت مجموعتين من القصص.. الصبار فوق شفاه وردية.. وخطوط سوداء فوق وجه القمر، وروايتين.. هما. يا عزيز عينى، ويا حبة الروح.

لفتنى إنتاجها منذ البداية وتابعت إصداراتها بفرح غامر، ولكنى اليوم أكثر فرحا بروايتها الأخيرة التى تبدأ بليلة زفاف البطلة إلى عريسها الذى سبق له الزواج والطلاق.. القلق يقضم روحها.. تخشى أن يكون مصيرها مثل سابقتها. على عتبات الغد يقف القلب مرتعدا.. كلما ضحكت النسوة وهللوا، انقبض قلبها.. لكن الليلة لاشك فرصة للكاتبة كى تصور فرحة أهل الصعيد بالعرس.. الطقوس والعادات والأغانى وإطلاق الرصاص، وتجمع البلد كلها للمشاركة فى بهجة تشتمل الجميع، فالفرح فى القرية الصعيدية فرح الكل، لكن الجدة غير راضية عن اختيار هذا الزوج وتستدعى فى كل لحظة المثل الشعبى الصعيدى: من قلة الخيل شدينا على الكلاب سروج.

تصر البطلة على أن تتحدى الظروف مهما كانت معاناتها، وأول غيث المعاناة جفاء العريس وتحجر قلبه، وكبحه لكل كلمة طيبة حتى وهو يمضى بها إلى بيت العرس المتواضع والذى يقف على مضض وحيدا وبعيدا عن القرية ووسط صحراء قاحلة تهيم على رمالها رياح الوحشة والصمت والظلام.

"لم يقل لى كلاما حلوا فلم تثمر فاكهة الجسد ولم ينضح شهدا، بل حبات عرق باردة.. كانت ثمة أشياء تتحطم داخل صدرى، ليس بيننا غير اللقاء الحاد الذى يشبه لقاء السكين برقبة الحمامة.. بقيت مفتوحة العينين حتى وارب الصباح بابه".

بعد يومين ودون كلمة غادر إلى بلدة بعيدة اعتاد التجارة فيها.. هبت من نومها وطافت بالدار العجفاء ذات الملامح الفظة، وقررت أن تحيلها إلى حديقة تتألق حولها النباتات وترتع فى أنحائها الطيور، وتزغرد فى جنباتها أغانى الحياة.. ساعدها صديق لزوجها وامرأته حتى تحقق لها الكثير مما تمنت.

لما عاد الزوج وتأمل المشهد.. بدت عليه الدهشة، لكن الفرح لم يشرق فى قلبه الذى اعتاد العتمة، ولما علم بعد شهرين أنها حامل، ظل على شروده غير عابئ، كأنه أرغم على الزواج بها.

تتوالى الأحداث بين عطائها وجفائه.. بين تدفقها بالحنان والعمل وتحفظه وغيابه.. اختلفا مرة فقسا عليها ونزفت الدماء حتى فقدت جنينها الأول، وسقط الجنين الثانى عندما كانت تدفع عن مزارعها أخاه وأولاده الذين كانوا يعيثون فسادا فى الأرض ويهرسون كل نبت ويتبجحون بحجة أنها أرض أخيهم فهى أرضهم وليست أرض الغريبة.

تأثرت علاقتهما بتدخل أخيه وأولاده الذين يزعجهم أن يحوز الولد، ولثالث مرة تخلو البطن الممتلئة مما بها وتسقط فى هوة مرعبة بين الموت والحياة، والزوج لا يكاد يتخذ موقفا حاسما مع أبناء العم ويكتفى بالصمت أو السفر أو ردها هى عن مواجهتهم، متعللا بأن لهم مثل ما له.

ليست الرواية ما ذكرنا فقط، بل الرواية هى ما تبوح به البطلة كل لحظة وبعد كل موقف.. هناك تتسلل كعروق الذهب داخل الصخر تباريح المرأة ذات الإرادة وأشجان الأنثى التى يمور بصدرها المنسوج بخيوط الأحلام والأمانى.. تعبر البطلة باللغة البليغة والشفافة التى تنزف أحيانا وجعا وألما عن عشقها لبناء بيت مهما كان فقيرا وبسيطا، لكنه قادر على صناعة البهجة والحب وإنبات الأطفال، اللغة قادرة على التصوير واستنطاق المشاعر المحتقنة من فرط ضراوة الصراع القابض على الروح.

هذا هو المستوى الأول للتلقى.. مستوى الحكاية والشخصيات والصراع بينها والبطلة واقعة بين المطرقة والسندان وتستحق أن نأسى لها، لكن المستوى الثانى والأعمق هو الدلالة التى تعلو على التشكيل الجمالى وإن كانت مشاركة فى تشييده.. هى الدلالة النابعة من الدور المقيت الذى يقدم عليه بثقة وإصرار العم وأبناؤه ضد أصحاب الأرض، دور يتواصل ليحول دون أن ينمو للبطلة زرع أو يبقى ولد، والزوج الحالم الشارد متخاذل ومستهين، ومن ثم ليس ثمة أمل فى مستقبل أو حياة هانئة يوما ما.

تحدث البطلة وليدها المتأهب للرحيل مغادرا بطنها فى سيل من دماء:

"لا تتركنى يا ولدى.. ابق معى وإلا ستحدث الكارثة.. غدا سيجيئون ويحتلون البيت والحديقة والحقل.. لن يرحم المحتل نبتة مستحمة بندى الفجر.. انتظر يا ولدى واحتضن أرضك.. ها هو قمحك وعنبك وبلحك وكل ثمار حديقتك.. فلمن يكون كل ذلك؟.. هل ستتخلى عنه ليكون لمبغضيك.. لا يا ولدى لا".

تحية للصعيد منتج المواهب وتحية للكاتبة الموهوبة التى تواصل إبداعها القصصى رغم كل الظروف الاجتماعية والثقافية، وتمنياتنا لها ولكل أقرانها بالتوفيق. 
المصدر / اليوم السابع

ليست هناك تعليقات: