الجمعة، أبريل 18، 2014

القطار . قصة للأديبة كريمان رشاد

القطار
الليل ينسحب ببطء وتخاذل .... مطأطأ الرأس وظهره منحني والنهار ينزلق من جوفه ممزقا نسيجه المعتم بنصل حاد ... فتصدر عنه أنات ضعيفة متقطعة وهو يتوارى تاركا الأشعة الصفراء الشاحبة تغزو الأشياء بلا استئذان .... تخلع عنها القشرة الرقيقة التي صنعها الظلام حولها لتتركها عارية بلا ساتر ..... لفحت حرارة الشمس وجهى ... ففتحت عن عينين حمراوين منتفختين إنطفأ بريقهما ... كنت لا أزال جالسا على المقعد الخشبي فى المحطة انتظر القطار الذى تأخر عن موعده ساعتين كاملتين ولم يصل للآن .... الهدوء يلف الرصيف والمسافرون ينتقلون فى استسلام بين نوافذ بيع التذاكر والمقهى ومقاعد الإنتظار.... بدأ الباعه فى ممارسة أعمالهم وبقى ( منصور ) بائع الصحف الصبي فى موضعه يفترش الأرض مستندا إلى جدار المحطة ينظم الصحف فى مجموعات كل مجموعة يربطها بحبل صغير ... يرسل بين الحين والآخر نظرة سريعة إلى القضبان الخالية - ماذا يا (منصور) ألم تذهب لتوزيع الصحف بعد ؟!...... نظر إلى بأعين نصف مغلقة وأطلق زفرة حارة - أنا لا أنتقل من موضعى أبيع الصحف على الرصيف فقط .... – لماذا ؟!..... لكنك لو تنقلت بين القطارات والمقهى ستجنى أمولا أكثر ... – هذا ما فكر فيه هو الآخر .... – من؟!...... – كان أخى .... مات من بضع سنوات ... هاتان العينان الصغيرتان اللامعتان تحت الحواجب الكثيفه دمعتا حينها .... وبدأ الحوار.... حوار طليق حزين لم أقاطعه خلاله سوي مرات قليلة .... مدد ساقيه النحيلتين المعروقتين أمامه وغطاهما ببنطاله القذر المشمر حتى الكعبين ...عقد رباط أخر مجموعة من الصحف ووضعها عن يمينه وبدأ يحكى .... كنا ثلاثة اخوة ذكور واثنتين من الإناث ... ( خليل ) أكبرنا وأنا التالي ... نحيا مع امى فى إحدى التجمعات البشرية المكدسه القريبه من المحطه بين أربعة جدران كالحه وأرضيه نتنه طوال الوقت بعدما هجرنا أبى وسافر ولم يعد من حينها ... عندها تحولنا إلى بائعى صحف .. ايقظنى ( خليل ) صبيحة إحدى الأيام واصطحبنى معه بدون إفطار وبأعين لم تزل مغلقه .. وصلنا إلى كشك جارنا بائع الصحف أجلسنى (خليل) على الرصيف فى الشارع بينما أختلى بالجار الطيب داخل الكشك بضع دقائق .. دار بينهما حديث قصير خرج بعدها يحمل بين يديه حزمتين من الصحف المربوطه .... دفع إلى بإحداها فحملتها فى يدي اليسري بينما ابقى (خليل) راحة يدي اليمنى فى قبضته وهو يسحبنى خلفه فى خطوات واسعه ... وقفت بجواره أمام القطار وجها لوجه لأول مرة ... انتفض كيانى فور رؤيته ... أودعنى (خليل) إحدى أركان المحطه ووضع ربطتى الصحف إلى جواري اشار بأنه يمكننى الجلوس فوقها إن شئت لكنى آثرت الوقوف بينما أتجه هو إلى البائع الكهل الذى يفترش مساحه واسعه نسبيا من الرصيف يبيع فوقها أشياءه العديدة التى لا تربطها أى صلة سوى انها تباع فى مكان واحد .... تبادل (خليل) معه بضعة كلمات وقف الكهل على إثرها وإصطحبه إلى عجوز أخر يجلس على مقعد خشبي فى صدر المقهى التى تنتشر سحب الدخان فى سمائها .... طال الحديث هذه المرة حتى خيل إلى أنه بلا نهاية ... تغيرت ملامح (خليل) خلاله أكثر من مرة ... وأخيرا رجع بصحبة الصبى الذى يعمل فى المقهى . حمل إحدى ربطتى الصحف واشار إلى أن أحمل الأخرى واتبعه ... أوصلنا الصبي إلى إحدى أركان المحطه حيث وضعنا الصحف وبدأنا العمل ... كنا نذهب إلى العمل كل يوم ... نرتدى ملابس مهلهله وتصدر أحذيتنا الثقيلة الجافة أصوات مزعجة على الأرض ... نبدأ المهمه فى النداء على الصحف ... يلقننى (خليل ) كل يوم الهتافات التى سنلقيها طوال النهار ... ((لا تترك الصحف فى أيدي الزبائن فترة طويلة )) هكذا كان يهتف بى دوما ... كان يعلمنى ويدربنى .. لطالما تساءلت متى تعلم (خليل) كل هذا لم أشغل بالى فى الإستفسار منه وقتها فقد استغرقت فى حياتى الجديدة حتى النخاع .... إلى أن جاء يوم لم تستطع أمى الحركة من الفراش ... امتص السل روحها فأضحت صفراء ذابلة لا تكف عن السعال لدقائق حتى تدخل فى نوبة أخرى أكثر شدة يرتجف معها جسدها كله ...لابد من شراء الدواء وهناك أفواه كثيرة جائعه تحتاج إلى الطعام ... استيقظنا يومها مبكرا عن كل مرة ... كان اليوم جميلا شمسه من ذهب ونسماته رقيقة ... ضاعف خليل كمية الصحف التى نأخذها يوميا من جارنا الطيب ... ذهبنا المحطه مبكرا ... خلع (خليل) سترته .. ألقاها إلى جواري .. وطلب منى ألا اغادر موضعى ثم حمل مجموعة من الصحف المختلفة وانطلق ليوزعها بين القطارات التى تمر على المحطه تقف لدقائق على القضبان قبل أن تواصل رحلتها ... إنتصف النهار و(خليل) على حالته يقفز من قطار لأخر يوزع الصحف .... أنهى توزيع الصحف فى قطار المغرب وهم بمغادرته حينما ناداه عجوز ليحضر له إحدى الصحف فهرول إليه ودفع له بالصحيفه وانتظر امامه بينما أخذ الرجل يبحث عن النقود فى جيوب سترته العديدة ... اطلق القطار صفارته العالية لينذر ببدأ تحركه لمغادرة الرصيف ... الرجل لازال يقلب جيوبه ... القطار بدا فى التحرك و(خليل ) يتعجل الرجل ... اخيرا أخرج الكهل النقود ودفع بها إليه مع بقشيش سخى كتعويضا عن تأخيره ....أودع (خليل) المال فى جيب بنطاله بعدما شكر الرجل وهرول مسرعا لمغادرة القطار الذى كان قد تحرك بالفعل وغادر الرصيف وبدأ فى زيادة سرعته رويدا ... قفز من القطار مسرعا .. كان معتادا على مثل تلك الأمور إلا انه فى تلك المرة حدثت الكارثه وعلق بنطاله المهترئ فى باب القطار ... حاول أن يخلص نفسه بإستماته بين صرخات الركاب إلا أن القطار كان قد زاد من سرعته أكثر وسحبه تحته ليصطدم رأسه فى عجلاته المتحركة قبل أن يتمزق البنطال ويسقط (خليل) جثه هامدة بجوار القطار القاتل وهو يحتضن الصحف التى تبقت معه .... في ذلك اليوم لم يكن هناك دواء لأمي ولا خبز للصغار فقط (خليل) محطم يغرق في بركة من الدماء ومغطى بالصحف التى ظل يحتضنها حتى بعد موته ... ودعت (منصور) بائع الصحف الصبى وغادرت الرصيف متخذا الطريق إلى القطار الذى وصل أخيرا ومفلسفا الأمور بكل ما اعتاد عليه الكاتب فيما كانت تهب نسمة باردة قادمه من فوق القضبان لتخفف من الحرارة المرتفعة كثيرا هذا الصباح ...

ليست هناك تعليقات: