الأربعاء، يناير 01، 2014

قصة " لاعزاء للبحر " للقاص / أحمد مصطفي الغر الفائز بالمركز الثالث في فرع القصة " المستوي الثاني "



قصة " لا عزاء للبحر"
                                  للقاص  / أحمد مصطفي الغر                 الغربية 

لا أحد فى بلدتنا لا يعرف البحر ، وربما لا يعرف البحر بشراً سوانا ، تتراص منازل بلدتنا كشواهد متلاصقة بغير نظام فى مقبرة جماعية أُنشٍئت على عجل بمحازاة شاطئه ، منازل قد سقط عن حوائطها طبقة البياض فظهر طوبها الآخذ فى التحلل والتآكل ، تلاصق المنازل يجعلها تتساند حتى لا يسقط أحدها غفوة، و نتج شكلاً مشوهاً يزيد من عشوائية المكان ، بينما ترقد القوارب الصغيرة أمام المنازل لتستريح بعض الوقت قبل رحلتها التالية فى صباح الغد .

وقت غروب الشمس على الشاطئ ، تقف النساء لإستقبال أزواجهن الصيادين القادمين بالرزق ، ينظرن إلى البحر بتوجس يخامره القلق ، تتنفس كل واحدة منهن الصعداء عند مشاهدة الزوج أو الابن عائداً ، ترنو إليه بعينيها مستأنسة ومطمئنة ، تسعد بالصيد ولو كان قليلاً ، لكن يسعدها أكثر العودة السالمة للصياد ، فبحر بلدتنا غدّار ، كم سرق من راكبيه من قبل !

كانت ترعبنا قصص الأجداد عن البحر الغدّار الخاطف للأرواح ، فعند عتباته يتربص الموت ، وتسحرنا قصصهم عن الأبطال الذين نجوا من أهواله ، وفى مخيلاتنا الطفولية ننسج قصص أخرى مشابهه .. لكن نحن أبطالها ، سرعان ما يقطعها إنطفاء النار إعلاناً بذهاب القوم إلى النوم !

كنا اطفالاً ، وليس لنا مرتع للهو سوى البحر ، كنا نلعب على شاطئه فى الصباح وحتى غروب الشمس حين تعود القوارب بالرزق ، وكانت الليلة هى موعد عرس إبنة الريس"حمدان" شيخ الصيادين ، وبمجرد العودة .. أسرع الجميع إلى منازلهم كى يستعدوا لسهرة حافلة بالغناء والرقص تبدأ عندما تغرق الشمس الحمراء تماماً فى البحر وتكتسى بلدتنا بستائر الظلمة.

لكننا لم نكن قد إنتهينا من لهونا الذى لا ينقطع على الشاطئ ، إقترح أحدنا أن نلعب "الاستغماية" ، وستوفر المنازل المرصوصة عشوائياً على الشاطئ أماكن ملائمة للاختباء ، لكن "منصور" ــ وهو أكبرنا ــ أصرّ على أن ننزل البحر لنقيم سباقاً فى السباحة ، كان "منصور" يجيد السباحة ويتباهى بذلك كثيراً ، فقد علمّه أبوه ركوب البحر والسباحة فيه منذ صغره ، ليس التباهى وحده هو ما أنتجه حُسن السباحة فى "منصور" .. بل حنقه على البحر الذى غيّب أباه منذ عامين ، فكان "منصور" يرقب البحر دائما بعينين ناقمتين ، كما المقتول يرقب قاتله وهو يحشو مسدسه بالرصاص قبل تصويبه ناحيته ! ، ألم يكن من الأحرى أن يكون "منصور" أكثرنا خوفاً من البحر ؟! ، لكن ( المايه ما تسير على العاف) . 

السباق هو الوصول إلى نهاية اللسان ثم العودة ، والشمس قد أوشكت على الغرق التام وثمة أشعة قليلة تخضب بعضاً من الأفق الذى بدأت بوادر الظلمة تغشاه ، السباق بسيط لمن على الشاطئ .. لكن الأمور تختلف فى المياه ، بحرنا غدّار .. أنسيت ؟! 
إختفت الشمس تماما .. وظهر القمر بدراً وكان المد عالياً ، موج البحر يتهاوى على صخور اللسان يريد أن يحطمها إلى فتات ، كانت السباحة بالقرب من صخور اللسان أمراً مستحيلاً وبالتالى على كل متسابق أن يبتعد قليلاً ليسبح بموازاة اللسان .. لكن دون الاقتراب منه ، دبّ الخوف فى نفوس البعض من هذا الهائج الغدار فإنسحبوا إلى الشاطئ ، ومن قَبِلَ المنافسة منهم لم يكمل منتصف المسافة وعاد بقواه الخائرة مصارعاً الموج ، لكن "منصور" أكمل مساره ، كان هزيز رياح البحر عالياً و الظلمة قد حلت تماما .. ثم إختفى "منصور" !

إعترى الجميع حالة غريبة من الفزع ، لقد تلاشى الضوء وظهر مشهد البحر مرعباً بعد ان كسته الظلمة ، فجرينا عبر اللسان لنبحث عن "منصور" ، و أسرع أحدنا لطلب العون من أهل البلدة الذين قد بدأوا فى الخروج إلى مكان العُرس ، ما هى إلا لحظات وصار كل سكان البلدة على شاطئ بحرها ولسانه ، حاملين القناديل الزيتية والمشاعل ، كان القمر يصارع الغيم فى السماء فتبدد ضوؤه وصَعُبَ عليه النفاذ إلى البحر ، وفى الضوء الشحيح للمشاعل بحثت كل أم عن صغيرها وتفحصته بهلع مع بعض التوبيخ على بقائه حتى هذا الوقت على الشاطئ ، وسرى بين الجميع أن الغائب هو "منصور" وحده ، صاح أحد الرجال :

ــ هؤلاء الشياطين ! ، لماذا ظلوا يلعبون على الشاطئ حتى هذا الوقت ؟ ، ألم يكفيهم طول النهار ؟!

مقولة الرجل أشعلت غيظ بعض الامهات، فتحول التوبيخ إلى بعض اللطمات لصغارهن عقاباً لهم على البقاء حتى هذا الوقت على الشاطئ ، فمن الممكن أن يكون أياً منهم مكان "منصور" ألان أو معه ، زادت تمتمة الرجال الممزوجة بنحيب الصغار و زجر الأمهات ، ولم يقطع كل هذه الجَلَبَة سوى صوت صارم مختصر للريس "حمدان" الذى دعا الجميع إلى البحث عن "منصور" ألان بدلاً من الكلام الذى بلا طائل .

وحدها كانت لا تزجر أحداً ، لا تتمتم ، فقط تنظر إلى البحر بفزع شديد ، عيناها تتحركان كالبندول ، صامتة لم تنبس ببنت شفة .. يصبغ الصمت وجنتيها الشاحبتين بملامح الموت ، ذكرى قديمة قد إستيقظت فى داخلها فجأة .. كان قد طواها الزمن فذكّرها بها البحر ألان ، ذكرى زوجها الذى خطفه البحر قبل عامين ، البحر الخاطف هو هو .. والمخطوف هو كل ما تبقى لها من الدنيا .. إبنها "منصور" ، كلمات الريس "حمدان" زادت من إنخلاع قلبها الفاتر ،و زادت من أنفاسها المضطربة التى تحمل فى طياتها أنين و إستغاثات لا تقوى على الصراخ بها ، فزاغ بصرها .. ثم هوت!

قرر البعض النزول بقارب للتفتيش عنه عند رأس اللسان ، لكن بمجرد تحرك القارب فى المياه بدا كأنه دميه فى مسرح العرائس ، الأمواج عاتية والقارب صغير ، فكرة النزول بالقارب غير سديدة .. فقد يتحطم بهم على الصخور تحت وطأة هذا الموج الهائج .
الوقت يمر بسرعة ومع مروره تتناقص فرص عودة "منصور" ، نتقاسم الذعر والارتباك .. لكن لم نفقد الأمل بعد ، أمل ضعيف صحيح .. لكنه يسمى أملاً ! ، تتزايد نبرات الدعاء والتوسلات كى يعود سالماً ، لا نريد أن نصدق الحقيقة التى صارت ماثلة أمامنا ، حقيقة نألفها فى مثل هذه المواقف ، حقيقة تجوب كل الأدمغة .. لكن لا يجرؤ أى لسان على النطق بها.

سرق البحر "منصور" .. وبَخِلَ علينا بجثته كى ندفنها .. فتركنا رهينة حتى بوادر شمس الصباح كى نسبر أغواره بحثاً عن الجثة ، سرق البحر فرحة أهل القرية بعرس إبنة شيخهم ، وسرق منهم أى أمل باقى فى أن مياهه الحُبلى بأجساد ذويهم قد تتوقف عن إلتهام المزيد منهم ، ألا يشبع البحر ؟!

إنقلب العرس إلى مآتم ، والناس القادمة لتفرح صارت تبكى ، والوقت المسرع صار بطيئاً فجأة كأن الوهن قد أصابه فتمهل فى جريانه الجارف و أبطأ خطاه علّه يدعنا نستوعب مصيبتنا ، الليلة قد فاز البحر.. على عكس حكايات الأجداد ، الليلة أيضا لم يكن "منصور" من أولئك الأبطال الذين قهروا البحر ، فإستسلم لأنفاس الموت. 

فى اليوم التالى وبعد أن إستنفذنا أى أمل فى العثور على جثة "منصور" .. وقف أعمامه لتلقى العزاء بعد صلاة الجنازة ، عزاء غير مرحبٍ بالبحر فيه !

ليست هناك تعليقات: