الأحد، أكتوبر 03، 2010

قراءة في ديوان " السما يتمطّر أرواح " للشاعر محمد حسني إبراهيم : الرومانسية تتعطر بالكونية د. مصطفى عطية جمعة




الشاعر / محمد حسني ابراهيم
الناقد الدكتور / مصطفي عطية جمعة


عندما نطوف بقصائد ديوان " السما يتمطّر أرواح "( ) لمحمد حسني إبراهيم( ) يثور تساؤل :هل هناك عودة أخرى إلى الرومانسية ؟ يطرح هذا الاستفهام مع انشغاله انشغالا كثيرا بقضايا المجتمع ، وهموم الأمة ، وعناء الوطن ، وفاضت بها الكثير من قصائده . ولكن هذا الديوان يشكل حالة جديدة من الرومانسية ، وهي ليست جديدة على الشاعر ، فهي منبثة في ثنايا نصوصه منذ تجاربه الأولى ، ولكنها هنا تأخذ طابعا جديدا ؛ يكتسي بأريج النضج العمري ، وينضح بالحكمة التي تشربت بها نصوصه ، وهي حكمة من الحياة وتراكم التجارب ، وكأنه بعدما تخطى مرحلة الشباب – سنيا – يعيد قراءة العشق بروح جديدة . يقول :
وأنت ماشي فارد دراعاتك على الآخر
وتسيب كل تفاصيلك
وتتأمل الحيطان والشبابيك وكل رسمه مرسومة بالظبط
" فارد دراعاتك " تعبير يعبر عن عشق الحياة ، والرغبة في المزيد منها، والعبّ من لحظاتها . ومن ثم ينقلنا الشاعر إلى حالة الصورة التي سنجدها في أساسا في بنية الديوان الجمالية ، ولكنها ليست صورة تقف عند حبس الظل، ويبدو البشر فيها ثابتين متجمدين ؛ إنها صورة الحياة بكل ما فيها من لحم ودم ومشاعر، وبدأ رسم الصورة من الذات الشاعرة " تسيب كل تفاصيلك " ، ثم يتأمل الجمادات والأشياء من حوله " الحيطان والشبابيك "، وما حوته من رسم ، والذي في الواقع شواهد على تجارب سابقة ، اختزنتها أعماق الذات . يقول :
ف صفحة من كشكولك القديم
اللي عدى عليه عمرك كله
تطير معاها بكل هدوووووء
وتحاول تكلمها ... تقرب منها ... هي روحك
وأنت بكل بساطة مش بتحلم ولا ماشي ف
معرض صور
أنت بتبص جوه روحك بس بجد ( )
" الكشكول القديم " هو الوجه الآخر من رسوم الحيطان والشبابيك ، وكأن الذات الشاعرة تستند على رصيدين وهي تلج هذه التجربة الجديدة ، تجربة العشق في مرحلة النضج ، وقراءة الذات والأنثى بروح كونية كبرى .
بناء الديوان :
هذا الديوان تجربة جديدة في مسيرة محمد حسني ، فقد كان ديدنه - مثل جلّ الشعراء - في إنجاز دواوينه السابقة ؛ انتخاب أفضل قصائده وتجميعها وتنسيقها في ديوان ، ولكننا هنا ومنذ النظرة الأولى على فهرس النصوص نلاحظ أنها تعبر عن حالة شعورية وشعرية واحدة ، وكأنها كتبت بنفس واحد ، في زمن متقارب ، وبنفس شعري جمالي واحد ، وبتعبير أدق " إنه ديوان النفس الواحد " . وهذه تجربة تضاف إلى رصيد الشاعر جماليا ، وتعبر عن منجز شعري فريد ، في شعر العامية الآني، فمنذ زمن بعيد لا نجد الديوان /القصيدة ، وندر من يكتب هذه التجارب لأنها تتطلب حالة من الوجد والمعايشة المستمرة التي يصعب على الشاعر أن يعيشها في خضم حياة تأخذ منه أكثر مما تعطي .
ومن هنا ، يفهم الديوان بمدخل رأسي ورؤية كلية ، يبدأ من عنوانه " السما بتمطّر أرواح " وهو عنوان يعطي دلالة متعاكسة عما هو دارج في معتقداتنا، لأن الروح تعلو للسماء / الرب عندما تفارق الأجساد ، ولكنها هنا تعود إلى الأرض والأحياء . ولفظة السماء تحيلنا إلى مدخل رؤيوي أساسي وهو حالة الكونية في معالجة الخطاب الرومانسي ، وهي جديدة في تناول هذا الخطاب ، حيث تعطي أبعادا إنسانية تتجاوز الفردية والنرجسية إلى كونية كبرى، تخرج من الأرض والجسد وتحلق في السماء . يقول مخاطبا المحبوبة :
" عصافيرك اللي ملهاش غير مكان واحد بره الكون " ( ) ويقول:
" البنت حدودها السما والأرض وكل الكون
ملكوت مجنون يسبح ف حلم بعيد
يديها مني وغنى وحواديت " ( )
ومن هنا ، فإن تجربة العشق تتجاوز حالة التغني بالمحبوبة إلى عالم أكبر، يسبح منا في الملكوت ، فهي ذات سمات سرمدية وحدودها الأرض وكل الكون .
لقد أمطرت السماء أرواحا ، وباستثناء القصيدة الأولى في الديوان التي حملت اسمه ، فإن لفظة " روح " جاءت مضافة إلى كل الأشياء والجمادات والمشاعر ولو أعدنا تقسيم هذا الفهرس لوجدنا أن النصوص موزعة على محاور عدة ، الأول : محور الأحاسيس ، فنقرأ : " روح الحب ، روح الخوف ، روح الروح ، الحبيب ، روح الفراق ، روح الوصال ، روح الوهم " ، ومحور النباتات والمشمومات فنقرأ" روح التوت ، روح العبير ، روح الورد ، روح الصبار ، روح النخل " ، ومحور الميتافيزيقا وغير المعقول : " روح الشيطان ، روح الحلم ، روح الموت، روح الوهم ، روح الصدفة ، روح الخيال " ومحور الأشياء : " روح الأزاز ، روح المانيكان ، روح الكاتشب " ومحور الإنسان : " روح البنت ، روح الحبيب، روح الشفايف ، روح الولد " .
إن المنظور الإسلامي للروح يرى أن الروح ممتزجة بالجسد ، لا تفارقه إلا عند الموت ، وهي كلٌ واحد ، يحوي مختلف الأضداد : الحب والكره ، الخوف والشجاعة ، الرحمة والقسوة ... ، أما هنا فإن الشاعر يستخدم لفظة الروح مضافة إلى أحاسيس أو أشياء بشكل متعمد ، وهذا يعطي دلالة على رغبته في التخصيص وكأنه باحث علمي ، يفصل عنصرا ما في التجربة ، ليفحص آثاره فيما حوله، ويدرسه بشكل كلي . وأيضا فإن الشاعر يتناص مع المعتقدات الفرعونية التي تعاملت بمنظور متعدد ، فقد جعلت لكل تصور أقنوما أو ما أطلق عليه مؤرخو الغربيون " ربا " ، فهناك رب الخصوبة ورب الموت ، ورب الحياة ، ورب الميلاد ، ورب الرزق ، ورب النيل ... ، وهو منظور واضح في عباداتهم ، وهذا لا يتنافى مع توحيدهم للذات الإلهية ، فهي رموز لكل ما هو أساسي في حياتهم من رزق وحياة وموت وعلاقات .
الرومانسية تسبح في الفضاء الإلكتروني :
تمثل هذه التجربة - في بعض جوانبها- تعاطي الشاعر مع عالم الفضاء الإلكتروني ، وقد بات هما وشاغلا للملايين ، هؤلاء الذين وجدوا فيه ملاذا من هموم الحياة ، ووسيلة للتغيير والتعبير والمشاغبة بشكل سري غالبا ، وعلني قليلا . ويبدو أن شاعرنا شغل بهذا العالم ، واستغرقته جوانبه ، فجاءت هذه التجربة معبرة عما فيه ، وهو تعبير يتجاوز العلاقة الشكلانية التي تقف عند حدود الوصف ، إلى علاقة اشتباك يتأرجح بين العراك والحب .
هتاخذ حروفك كلها وترميها على كل
صفحات الفيس بوك وتستنى تعليقات الناس
وتفضل مراقب كل حركاتها مع التعليقات
وهي عاملة انها محايدة تمام لكل حرف بيتكتب
وكمان بتفكر تكتب تعليق وانت شاغل دماغك بس
بكل حروفها ولا يشغل بالك حرف من هنا
ولا هنا ( ) .
هذا توصيف لحال الشعراء خاصة والأدباء عامة ، الغارقين في الإنترنت والعلاقات المستمرة – ليلا ونهارا – التي يتيحها عالمه الواسع ، وهي علاقات تسمح للذات أن تتمدد وتتعملق مادامت التعليقات مادحة مجاملة ، ومادامت هناك أصوات نسائية تطل من خلف صورهن ، تعبر عن إعجاب ؛ بكلمات قد يفهم منها ما يفيد رومانسية بشكل ما . شاعرنا هنا ينثر حروفه / أشعاره في الفيس بوك، لا يشغله من كل التعليقات سوى تعليق لإحداهن ، كان يتلهف على التعليق، وفي الوقت ذاته يرد ببرود ( مصطنع ) على دهشتها من كم شعره المبعثر في الصفحات والمنتديات . إننا نجد لغة شعرية بسيطة ، فيها روح مباشرة واضحة، أقرب إلى الوصف النثري من الإيحاء الشعري ، ولكن المقطع كله دال على حالة من الوجد ، من تعلق الذات الشاعرة وهي تنتظر تعليق هذه الفتاة .
وفي نص " روح الشفايف " ، نقرأ :
تبص بحذر وحنان وتحاول تلزق أول بوسة
على صورة ورق وقعت منك
وأنت بتقلب في دولاب ذكرياتك
وتخاف لا حد يشوفك
...
المهم بجد إنك بتلاقي من جوه دولابك
سحرك .. حواديتك .. وكلامك
ينزل في حروف
يعمل سبحة
تبتدي في غيابها تسبح شوق ( )
في منتصف العمر ، تعيش الذات الشاعرة – مثلها مثل الآخرين – أزمة الذكريات ، وهي ذكريات رومانسية ، تلاشت من الحياة أسبابها ، وتناءى أشخاصها ، ولكن ظلت الذكرى في زوايا النفس ، تخرج من آن لآخر ، حاملة لحظات عبق ورجاء وأمل ، حين كانت الذات في أوج عاطفتها ، وتطلعاتها في الحياة ، وهذا لا يعني خيانة لشريك الحياة ، وإنما تذكّر لأيام مضت في عبير الحياة . وهنا تفتح الذات دولابها : الصور ، الخطابات ... ، وتلصق قبلة خائفة من الشريك الحالي ، ومن ثم تتجمع الذكرى والصورة ، وتتجمع في النفس حتى تكوّن سبحة من العشق ، علّها تعيد ما كان في صدر الشباب .
الصور الزجاجية :
وهذا ملمح جمالي واضح في تشكيلات الديوان المختلفة ، وهو طبيعي ونحن نعيش في عالم الصورة بكل ما فيها ؛ صور زجاجية جامدة في شاشات الحاسوب والتلفاز والمحمول ، وصور فوتوغرافية تزخر بها المطبوعات ونحتفظ بها في ألبومات خاصة ، وصور متحركة في السينما والتلفاز المحمول ، ناهيك عما تختزنه أعماقنا من صور : طبيعية من الحياة ، صناعية من الأفلام القديمة والجديدة التي تفتحت عيوننا عليها . فلا عجب أن نجد شاعرنا يقول :
" يعني إيه حتة مرايا تجرحك وتشر صور "
فعند الجرح لن ينزف الجسد دما ، بل صورا ، كناية عن تضخم الذات / الجسد بكل ما هو مرئي متحرك ، وفي إشارة عكسية إلى سيطرة الصورة لا الفكرة والرؤية على حياتنا . المقولة السابقة ، جاءت مطلعا لقصيدة عنوانها " روح الإزاز " ، وهي تتوحد مع العالم الزجاجي الذي يكبلنا ، نعم فنحن مكبلون خلف زجاج : السيارات ، شاشات التلفاز ، المحمول .. ، وهذا لا ينقل الواقع كما هو وإنما كما يريد مقدموه ومنتجوه ، وتناءت المسافات بيننا وبين الواقع الحقيقي .
عشان كل الصور قدامها بتتقلب تصورت
نفسها بتعرف تصور صح
وكمان تنقل احساس الحياة جوه الصورة
اللي انت ما خدتش بالك منها
وهي كانت بتكوّن شعاع جامد وتبعته
جواك من غير ما تحس ....
خليتك تحس بإن الدنيا بتتلون بلون فرايحي
خليه بمبي
واقعد احسب كان مره تحط ايديك على الصورة
وتحس بانها ساقعة تلج وناعمة
لحد ما تكتشف انها ازاز ( )
وهكذا الرومانسية في زمن الإنترنت : ناعمة باردة ، لأن مصدرها زجاجي، والتواصل يتم عبر الزجاج ، فلا تطمع الذات الشاعرة أن تجد إحساسا حقيقيا من هذه الشاشات الصانعة للرومانسية . فإذا حلّقت الذات بسبب مفردات الوجد والهيام والحب المتبادلة كتابيا أو صوتيا ، فإنها تسقط وتتبعثر أجزاؤها في الواقع . لقد أصبحت الذات فارغة ؛ ضاعت منها الرومانسية القديمة عندما كانت تتلاقى الأرواح وتتقابل النفوس والأجساد ، ويكون التواصل الصوتي مسموعا مرئيا، تشعر فيه النفس بحرارة الأنفاس ، وتوهج القلوب . أما في الفضاء الإلكتروني فإن الصورة متخيلة ، فاسدة ، ضائعة ، فتصرخ :
إمسك الإزاز بقوة
وعلى طول دراعك كسّر الكومبيوتر
واطلع من كل العالم ده
يا ترى لو كسرت إزاز روحك
تعرف تخرج م الشرخ ازاي ... ؟؟( )
فتحطيم جهاز الحاسوب ، وكسر زجاج الروح لن يحل المشكلة ، لأن المشكلة في أعماقنا ، التي استسلمت لهذا الغول الإلكتروني ، الذي أبعدنا عن أحبابنا حولنا وشغلنا بحب وهمي مصطنع ، ولا فائدة من التكسير ، لأننا سنشتاق دون شك إلى هذا الزجاج ثانية ، لأنه المتحكم في الذات .
قرري كل التفاصيل دي وكأنك بتشوفيها
ف مقطع فيديو
وابعتي منها إشارة لكل خلايا الجسم
هتلاقي عياطك فدادين مروية بدمع حنين .. صافي ( )
يوقفنا هنا تعبير " مقطع فيديو " ، فقد جاء تشبيها للتفاصيل في الحياة، ويتحول هذا المقطع تحفيزا لخلايا الجسد ، ويصبح البكاء منثالا يروي فدادين بموع صافية. هذه صورة ممتدة ، تكونت من جزءين متحركين : مقطع فيديو ، والفدادين المروية ، في الجزء الأول حركة ناتجة عن طبيعة لقطات الفيديو المتحركة ، وفي الجزء الثاني حركة سقي الفدادين بالدموع . هذه الصورة الممتدة بشقيها ، تعبر عن بدء سيطرة صور الحركة على الصور الروحانية والصور الجامدة في الأخيلة الشعرية ، وهذا طبيعي في زمن العولمة والحاسوب .
* * * *
لاشك أن هذا الديوان علامة مميزة في مسيرة محمد حسني ، هذا الشاعر الذي يتوحد مع ذاته ، يكتب كل ما يعنّ له ، يفرغ وجدانه دوما ، وقد أبدع في هذا الديوان بناء كليا جديدا ، ساعيا إلى نقل الأحاسيس الرومانسية في الفضاء الإلكتروني ، مجتهدا في تقديم جماليات جديدة مستقاة من المرئي والمسموع في خضم الصور والأفلام التي تغرقنا في حياتنا ، وإن كان هناك إسهاب يحتاج إلى مزيد من التكثيف ، وتكرار لبعض التجارب تحتاج إلى إعادة رؤية ، ولكنها تجربة جديدة دون شك .

ليست هناك تعليقات: