الأربعاء، سبتمبر 22، 2010

آرثر رامبو في 'نعيمه' الافريقي!





آرثر رامبو في 'نعيمه' الافريقي!
كان يحلم بنسيان جحيم أوروبا التي فقدت روحها ولم تفهمها:
ارثر رامبو
كلود جان كولا
نرحل في هذا المقال مع آرثر رامبو وقد طلق الشعر لصالح الإغواء الافريقي الذي سكنه صغيرا وهو على طاولات المدرسة رفقة صديقيه بول بورد وجيل ماري.
كما سنكتشف السحر ـ لا الشعر!! - الذي مارسه رامبو على الأفارقة الذين عايشوه وتعاملوا مع صمته باجلال استثنائي وكأنه واحد منهم.
فهل ودع رامبو الشعر ومعه (فصل في الجحيم) الباريسي كي يفتح في افريقيا (ه) فصلا في النعيم؟
فإلى تلك الوجهة القصية التي احتضنت عملاق الشعر الفرنسي سيبحر بنا كلود جون كولا متقفيا أثر العابر في مجاهل الصحراء ..! (المترجم)
على طاولات المدرسة، تظهر افريقيا لأول مرة وآرثر رامبو يبلغ من العمر أحد عشر عاما، كان بول بورد وجيل ماري أفضل أصدقائه. وهم يحضرون رحلة استكشافية لسبر أغوار منابع النيل كانوا يتقاسمون اللغات الأساسية، بالنسبة لبورد كلف بالعربية لعبور مصر وبالنسبة لماري بالبرتغالية لغة كبار المستكشفين وفيما يخص رامبو - هل كان ذلك هاجسا؟- خصّوه بالأمهرية لغة الحبشة. كانت افريقيا تمنحهم حلما بالشساعة والمجهول، بالمغامرة والمجد، بيد أن المشروع تبدد عندما غادر بورد المدرسة.
تراءت له افريقيا، من جديد، خلال الأعوام الشعرية أكثر مثالية من ذي قبل. كان آرثر مشدودا الى عذريتها المتوحشة، الى البراءة التي يسمح بها جهلها في الكشف. عندما كان مضطرا للبحث عن السلام وهو المعمد المطلع على معرفة الخير والشر، آه ..كم هو سعيد ذاك الذي يعيش في الجهل، لأنه لا يستطيع أن يتعرض للادانة! بلا ممنوعات، بلا واجبات، وحده يستطيع معرفة (السلام داخل الحرية) الذي يلح عليه رامبو بالنسبة لكرامة الانسان. ان سارد (فصل في الجحيم) يحلم بأن يلتحق ببلاد أبناء (حام) التي تقول لنا التوراة انها الحبشة، وهنالك يحلم السارد بقدرته على نسيان رفاق الجحيم و كذا جحيمه الشخصي الذي هو هذه الـ (أوروبا) التي فقدت روحها ولم تفهمها!!!
كان على رامبو أن ينتظر عام 1876 ليدرك ضفاف افريقيا .لقد التزم بشكل تطوعي في الجيش الكولونيالي الهولندي على متن الباخرة ...Prins van oranje
بعد ذلك بأربع سنوات، هرب من قبرص ليلاقي البحر الأحمر، بحث يائسا عن عمل فوجده في عدن موظفا في دار التجارة. كان يحس بالضجر، بسرعة، خصوصا وأن افريقيا التي أمامه تجذبه اليها كما لو كانت مغناطيسا قويا.
إذا، ما الذي حدث؟ الشهادات قليلة وتقول ان الرجل كان جديا وشجاعا وصارما، ورسائل التجارة لا تتحدث الا عن القهوة وريش النعام، عن سنور الزباد أو العاج، عن المشحون المجاني للغرب الذي يسمح بالحصول على عملة التبادل، وعن حقوق الجمارك وتأخيرات الدفع والأرصدة واعتبارات سياسية نادرة وبعض الملاحظات الجغرافية. أما عن حياته الحميمية، فوحدها رسائله الى أمه هي التي تنبئنا عنها، هذه الرسائل التي تحظى لديها (الأم) بشعور من الاجلال والحب، والحال أن هذه الرسائل هي شكاوى من دون نهاية: الحياة قاسية والطقس صعب الاحتمال، والأفارقة لا يحتملون والحافز الأوحد هنا هو جمع الثروة ...و(يخبر أمه / المترجم) أنه سينطلق قريبا الى زنجبار أو الى باناما أو الى آسيا ..
من خلال هذه الشكاوى، نستنتج أنه كره فجأة افريقيا لكن لو كان ذلك صحيحا لماذا لم يرحل - وهو القادر على التنقل - في اتجاه آخر، في اتجاه مجهول ما؟؟! لو كان ذلك صحيحا، لماذا وهو على مشارف الموت فوق سريره حيث كل الأكاذيب أو المخاوف لا معنى لها، لم يكن يحلم الا باللقاء بافريقيا(ه)؟؟؟!
حتى نفهم علينا أن نعيد قراءة الحكاية من منظار مزاجه..!
كانت حياته الافريقية صعبة، كان وحيدا بالمرة وكان يحتمي من كل تطفل على ماضيه الشعري، بأن يقول: 'كل ذلك لم يكن سوى ماء آسن!' كي يحسم الأمر باختصار.الدليل هو هاتان الرسالتان اللتان تخبرانه بشهرته التي ولدت في باريس، واللتان نحتفظ بهما سليمتين مما يعني أنه لم يرمهما بل أخذهما ملفوفتين جيدا ضمن متاعه البسيط عقب هذا الهبوط التراجيدي على متن نقالة بسبب المطر وسط الوحل..
ليس الأمر سهلا، فقد هوجمت القوافل والأمطار كانت تمنع العمل بالتجارة خلال أشهر طويلة كما أن التعقيدات الادارية زادت الطين بلة. اللحظات الوحيدة للانتشاء هي توقعات الرحيل، فيتحمس ليطلب من أمه أن تبعث اليه بكل أنواع الكتب التقنية أو العلمية، وكأنه سيبني عالما جديدا. بالنسبة لرسائله الى أمه فقد كتبها عندما كان يجد الوقت لذلك وفي أويقات الجمود التي هي بالنسبة اليه أزمنة الضجر. ثم انه الابن المفوض برفع الكلفة ازاء أمه، الوحيد الذي حلمت (أمه) بأنه سيعود ليقضي معها ما تبقى من عمر، فاشترت له قطعة أرض مباشرة أمام ضيعة العائلة.
كانت كلها آذانا صاغية وكان يريد إرضاءها وجعلها تحس بالأمومة والحب بشكل عام. لقد اعترف ذات مرة بأن هذه الشكاوى كانت طريقة في الغناء. لقد كان بين البيض لكنه كان أكثر اندماجا وسط المجموعة السوداء. دليل من بين دلائل متعددة هو هذه الرحلة لسنة 1886 لبيع الأسلحة لـمينيليك (حاكم هرر/ المترجم)، حيث كل القوافل تم نهبها والسطو عليها، وتم قتل التجار وهو الابيض الوحيد في هذه البعثة الذي خرج ومعه 2000 بندقية و7500 خرطوشة والبضائع كانت جد مغرية!! فلماذا لم يتم قتله؟ من هو، اذا، هذا الرجل الشيطان؟ وما الفرق بينه وبين الآخرين؟؟!
يقول الشاعر الصومالي ادريس يوسف علمي: 'كان يعرف كيف يعطي، من هنا صار يحظى بالاحترام. البدو الرحل - كيفما كانوا عفاريين أو صوماليين - لديهم هذا المعنى بالعطاء، يعطون الكلمة، يعطون ما يملكون حتى لو كان لديهم القليل فانهم يقتسمونه (مع الآخر ـ المترجم)، وذكاء رامبو كان اكتساب ثقتهم باكتساب بعض قيمهم، ومنذ تلك اللحظة صارت لديه السلطة عليهم'.
(شهام وطا) شاعر هو الآخر عفري يؤكد الرؤية ويقول: 'كان لديهم الوقت الكافي لملاحظته في تاجورا (بلدة في جيبوتي / المترجم)، تصور يرونه يوميا قرابة عام!.. لقد وزنوه وجربوه، ماذا يريد هذا الأجنبي؟ من يكون..؟ كيف يتصرف ..؟ ماذا يساوي ..؟ لقد رأوا شجاعته كما رأوا غضبه، والبدو الرحل يفضلون القوي جسديا وشفاهيا، أيضا أسعفته حالات غضبه، كان يقول لهم ما يعتقده فيهم وهذا لم يكن ليصدمهم، لأنهم هم الآخرون لديهم هذه العادة، هذه الشجاعة في عدم الكتمان. فبعد أن انطلقت القافلة، استطاعوا التأكد من تقييمهم: تحمله المشي ومقاومته للجوع والعطش ..الخ. مظهر آخر لرامبو أغرى العفاريين وهو صمته. ففي القافلة لا يقال الا الضروري. نستطيع البقاء عشر ساعات دون أن نتحدث الشيء الذي لا يعني أننا لا نتواصل. فمن خلال الصمت يمر حوار وتشارك دونما حاجة الى الكلمات. كان رامبو يتحدث قليلا وكان يحترم صمت العفاريين، لقد صار واحدا منهم'.
لقد كان رامبو يعيش حياة زاهدة، يلبس القطن العادي ويعتمر طربوشا صغيرا على رأسه، ولا وجود أبدا لملمح العجرفة الكولونيالية التي للبيض الاخرين عليه.
زاهد وصموت، متحفظ وذو كبرياء، غضوب ومتطوع صبور، مزاجه كان قريبا في الحقيقة من مزاج العفاريين بل كان مثلهم!
ان آرثر رامبو مدين باعادة بنائه الذهني لافريقيا ونذر لها اعترافه وحبه. وفي اشارة أخيرة طلب أن يحول جزء من أمواله الى خادمه (جامي). ولكي تحقق أمنية أخيها شرعت (ايزابيل) في البحوث ولما وصلت تلك الأموال الى هرر (بلدة في أقصى شرق اثيوبيا / المترجم) كان جامي قد مات فتسلم أبناؤه هبة رامبو...!!!
ترجمة: مصطفى بدوي
المصدر: ماغازين ليتيرير- أيلول / سبتمبر2009 - العدد:489 - ص 84 /85.**
نقلا عم موقع / الف ليلة وليلة

ليست هناك تعليقات: