الكونُ مـا زال يَرفــلُ فـي ثـوب السكـون والكسـل، وهـو يعدُو مسرعًا بجوار الساحل، تغرِزُ أقدامهُ الملهوفة في باطن الرمل تاركةً خلفها آثارًا غائرة، وبرغم لطافة الطقس في ذاك الصباح كان يتصببُّ عرقًا فيتقاطر من جبهته متناثرًا فوق الرمال .. بعد دقائق كان واقفًا في ساحة الوحدة الصحية يلهثُ ويلتقط الأنفاس بمشقِّة كبيرة، يتلهَّفُ للحديثِ كأنَّه قادمٌ يبحث عن حلم مدفون في جوف الزمن، فوجئ الطبيب بمن يقترب وراح يدقِّق النظر من خلف نظَّارته، يرنو بين ضلفتي النافــذة المواربة فاكتشفَ أنه هو، اندهشَ قليلًا ثم أقبلَ عليه يسأله عن سبب مجيئه في هذه الساعة وهل يشكو من مرض أو وجع مفاجئ، أمهله لحظات كي يستطيع التنفس بهدوء ثم أجلسَهُ فوق سرير الكشف فابتسم وبدأ يهدأ تدريجيًّا ويتنفس بشكل طبيعى :
ــ لستُ مريضًا ... ابتسم الطبيب وسأله سرَّ اضطرابه فأجاب :
ــ جئتُ إليك لأطلب شيئًا ضروريًّا يلزمني .
ــ اطلب ما شئت، لن أتأخر أبدًا .
ــ أرغب في بعض الأوراق البيضاء ...
انفجر الطبيب في الضحك الممزوج بالدهشة :
ــ تركتَ المقهى وقطعتَ تلك المسافة إلى هنا ركضًا من أجل أن تطلب فــي النهايـة بعض الأوراق البيضاء !! فلمـاذا لـم ترســل أحد صبيـانك ولمـاذا لـم تخبـرنى بالأمـس حين كنت أشرب عندك القهوة ؟
ــ المقهى مزدحم جدًّا بالزبائن والصبيُّ الصغير أكثر منِّى قُدرة على الحركة وتلبية طلبات الزبائن ...
ــ هل عــاد إليــك الحنيــن القديــم لأيام المدرســة وتريد استعادة ذاكرة الكتابة والقراءة من جديد ؟
ــ ليس الأمــر هكذا تمامًــا ولكنني سوف أخبرك في الأيام القادمة عما أنوي فعله .
ــ صراحة ليس لديَّ هنا أوراق بيضاء كالتي بالمنزل، ليس سوى دفتر"الروشتّات"الأبيض، فأمسَــكَ بــه وأخَذَ يُقلِّبهُ بيــن كفَّيه وهو يَمطُّ شفتيه للأمام ثم دسَّه في جيبه :
ــ سوف أحاول الاستفادة به، ولكن لــي عِندكَ طلبًا أرجــو ألا ترُدَّني فيه خائبًا .
ــ لو في استطاعتي لفعلتُ بالطبع .
ــ عندما تذهب في زيارة للقاهرة لا تنسَ أن تشتري لي أوراقًا بيضاء بكميات كبيرة .
ــ وماذا ستصنع بكل هذا الورق الكثير .
ــ ستعرف في حينه واترك الأمر للمفاجأة.
ابتسم الطبيب ولم يُعقِّب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق