د. عبد الغفار مكاوي .. مترجمًا
ربيع مفتاح
يقول درايدن : يبدو لي أن السبب الحقيقي في أننا لا نحصل إلا على مترجمات قليلة هو قلة الذين لهم جميع الكفايات المتطلبة للترجمة وضألة الثناء والتشجيع على مثل هذه الناحية المهمة من الثقافة، ومع ذلك فقد ظهر خلال العصور مترجمون بارعون رفعوا مقام هذا الفن ومنحوه شيئًا من الإجلال والحركة يأتي اسم المبدع والمترجم والكاتب والباحث الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي ليحتل مكانًا متميزًا وسط هذه الكوكبة في هذا الحقل الأدبي والثقافي الهام جدًا وحيث إن المترجم فنان فهو إلى جانب اطلاعه اللغوي ينبغي أن يكون متحليًا بروح الفن ومطلعًا على الموضوع الذي يقوم بترجمته، وتتضمن الترجمة إلى جنب ترجمة الألفاظ والمعاني ترجمة أسلوب الكاتب وروحه فقد توفرت كل هذه الخصائص لدى مترجمنا القدير وسوف نقف عند بعض المحطات في حياة د. عبد الغفار مكاوي لنتبين تلك البذور الفكرية والإبداعية والتي جعلت شجرة الترجمة عنده تثمر بالكثير من إبداعاته فالترجمة إبداع من إبداع أو إبداع على إبداع لأن الإلهام فيها ضروري وبدونه تغدو ميتة لا روح فيها والفرق بين الترجمة الملهمة والاعتيادية كالفرق مابين الشعر والنظم.
وفي عام 1937 دخل عبد الغفار مكاوي المدرسة وبدأ وعيه يتفتح على حب اللغات والاهتمام بالفنون وفي عام 1947 عندما قرأ (آلام فيرتر) لشاعر الألمان الأكبر (جوته) راوده إحساس غامض –كما يقول – بأن مصيره سوف يرتبط بهذا الشاعر الفيلسوف لم يعلم في ذلك الحين أنه سوف يرتبط كذلك بالأدب والفكر الألماني.
كما أقدم على تعلم اللغة الإيطالية في معهد (داني الليجيري) بالقاهرة والحصول على منحة لمدة ثلاثة أشهر عام 1953 للدراسة بجامعة (بيروجيا للأجانب) ثم التركيز من عام 1954 إلى عام 1957 على دراسة اللغة الألمانية مع الالتحاق (بمدرسة الألسن كما أنه حصل في عام 1957 على منحة لمدة عشرة شهور للدراسة في ألمانيا – وهكذا نرى أن حب اللغات ودراستها وعشق الفنون قد تجذر وتأصل في وجدان وفكر مترجمنا القدير الذي درس الإنجليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية. لكن اللغة الألمانية تأتي في المرتبة الأولى من حيث الإتقان والإجادة والتجويد بل استأثرت بنصيب الاسد في مترجماته التي نقلها إلى العربية عشقه الأول والتي أمتزجت بروحه منذ الصغر وأيام النشأة الأولى، ومنذ البدايات عشق د. عبد الغفار مكاوي الشعر والمسرح وكتب الشعر ومازال يكتب المسرح وارتبط عنده المسرح بالشعر منذ البداية واعتقد أن فن المسرحية الشعرية هو المعدل لوجدانه وفكره إبداعيًا وقد نحى الإبداع جانبًا لأسباب سوف نوردها بعد ذلك أما المسرح فقد ألقى فيه بنصيب لا بأس به وهذا يفسر اتجاه د. عبد الغفار مكاوي إلى ترجمة الشعر والمسرح فقد استأثرا الاثنان بالنصيب الأكبر في مترجماته فهل كان التركيز عليهما ترجمة نوعًا من التعويض الإبداعي؟ أو بمعنى آخر أفرغ طاقته الإبداعية في ترجمة الشعر والمسرح وكان هذا العشق سببًا رئيسيًا في تميز مترجماته فهو لم يترجم أعمالاً قد فرضت عليه أو تم تكليفه بها دون رغبة منه وإنما العكس هو الذي حدث فقد أحب وأختار وترجم فتفرد وهذه أول خصيصة من خصائصه كمترجم وقد نطلق عليها (العاطفة) هذه العلاقة الخاصة جدًا بينه وبين العمل المترجم بل ومؤلفه والتي تجعله يتعايش معه ويتشرب روحه حتى أن د. عبد الغفار مكاوي يصف هذه العملية بأنها أشبه ما تكون بتناسخ الأرواح وهنا يكمن الإبداع وتصبح الترجمة – بالفعل – إبداعًا على إبداع لأن المترجم لا ينقل إلينا ألفاظًا وعبارات وإنما ينشىء لنا روح العمل في لغتنا العربية.
ورغم هذا الإبداع الذي يتحقق – أحيانًا في عملية الترجمة فإن عملية التطابق بين النص الأصلي والترجمة صعبة التحقيق فدائمًا يوجد مايسمى بفائض الترجمة وهذا الفائض يكون لصالح النص الأصلي وأحيانًا يكون لصالح الترجمة لأنه يجوز للمترجم أن يضيف إلى المعنى الأصلي شيئًا من عنده لتقويته وهو مايعرف بالمعنى المضاف إضافة تركيبية أو يحذف معنى ثانويًا لا رئيسيًا إذا وجد أن ذلك يضعف من قوة النص الأصلي وهذه الحكمة في الزيادة أو الحذف من خلال توخي الدقة هي مايميز منهد د. عبد الغفار مكاوي في الترجمة فإذا كانت بعض الألفاظ أو التراكيب تعود إلى أصول لاتينية أو يونانية فإنه يقوم بعملية التحقق والتحقيق وسوف نعرض لذلك بشىء من التفصيل في تناولنا لإسهاماته في ترجمة الشعر والمسرح ولن نتعرض لإسهامه في مجال ترجمة الفلسفة والفكر ولعل ذلك يكون موضوعًا آخر للبحث في مرة قادمة.
ترجمة الشعر :
أصعب مايمكن ترجمته هو الشعر لأنه يحتاج إلى ملكة خاصة ويؤكد هذا المعنى د.عبد الغفار مكاوي نفسه فيقول: (أجل! إن ترجمة الشعر أشبه بالمخاطرة في أرض حرام في منطقة غامضة تقع على الحدود الغامضة أيضًا بين الإنشاء أو الإبداع الخالص، وبين النقل الحرفي الدقيق والأمين والسبب بسيط فهي تحاول إعادة إبداع عمل سبق إبداعه ولكن إذا أخذنا في الاعتبار الإمكانات الخاصة جدًا بمترجمنا القدير ومنها عشقه لكل من العربية والألمانية وتمكنه فيهما فضلاً عن عشقه الخاص لترجمة الشعر والذي بدأت رحلته معه منذ البدايات وهذا ماعبر عنه د. عبد الغفار مكاوي فيقول (توقفت عن الشعر تمامًا بعد تعرفي إلى صديق العمر المرحوم صلاح عبد الصبور واقتناعي بعدم أصالة موهبتي فيه وإن لم يمنع هذا من مواصلة قراءتي له واهتمامي الدائم بعد ذلك بترجمته ودراسته ونثر بعض مقطوعاته خلال مسرحياتي المتواضعة).
ويمكن القول أن ترجمة الشعر بوجه خاص لا يجوز أن يقترب منها إلا شارع كبير في لغته أو على الأقل إنسان سكنته حساسية الشعر وأعتقد أن مترجمنا القدير يمثل الحالة الثانية فهو مسكون بالشعر منذ النشأة الأولى.
بدأت رحلة د. عبد الغفار مكاوي مع ترجمة الشعر بترجمة بعض قصائد الشاعر والكاتب المسرحي الشهير برتولد برشت وقد نشرت في مجالة المجلة عام 1958 ثم توالى اهتمام المترجم وانشغاله ببيرشت بعد رجوعه إلى الوطن في أواخر سنة 1962 فترجم عددًا كبيرًا من مسرحياته وأشعاره التي ظهرت في سنة 1967 تحن عنوان (قصائد من برشت) وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب عام 1999 بعنوان (هذا هو كل شىء) قصائد من برشت عن دار شرقيات بمقدمة ثانية للمترجم ومعها مقدمة الطبعة الأولى أيضًا وإذا اردنا أن نستكشف بعضًا من جماليات هذه الترجمة فقد تساعدنا قصيدة (عن الرجال العظام) في ذلك.
عن الرجال العظام (1926)
-1-
الرجال العظام يقولون أشياء كثيرة غبية
يتصورون أن جميع الناس أغبياء
والناس لا تقول شيئًا وتتركهم يعملون
بهذا يدور الزمن دورته
-2-
لكن الرجال العظام يأكلون ويشربون
ويملأون البطون
وبقية الناس تسمع عن أعمالهم
ويأكلون كذلك ويشربون
احتاج الإسكندر الأكبر لكي يعيش
إلى مدينة بابل العظيمة
ولقد وجد أناس آخرون
لم يشعروا بأنهم في حاجة إليها – أنت واحد منهم
-5-
الرجال العظام يتصروفن كأنهم حكماء
يتصرفون كأنهم حكماء
ويتكلمون بأصوات مرتفعة – مثل الحمام
والرجال العظام ينبغي تكريمهم
لكن لا ينبغي تصديق (مايصدر عنهم من كلام)
وتوالت الترجمات بعد برشت فقد قرأ المترجم بعض أغنيات سافو أول شاعرة غنائية في تاريخ الأدب الغربي والتي قال عنها (انجذبت إليها عن غير وعي متأثرًا بحبي القديم لعلي محمود طه وأشعاره وأغنياته إلى شاعرة الحب والجمال وظهرت ترجمة الشذرات الكاملة عن دار المعارف سنة 1966 (لكن المشروع الأكبر كان كتاب (ثورة الشعر الحديث) والذي استغرق حوالي ست سنوات من العمل الضمني ولم يقم د. عبد الغفار مكاوي بالترجمة الحرفية في هذا المشروع وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعنوان (ثورة الشعر الحديث) من (بودلير إلى العصر الحاضر) عام 1998 عن دار أبوللو ومن خلال مقدمة الطبعة الثانية نستطيع أن نتعرف على الدوافع والأهداف المرتبطة بهذا السفر الضخم الذي جاوزت عدد صفحاته الستمائة . رحمة الله على الكاتب والمبدع والناقد والمترجم د عبدالغفار مكاوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق