الأربعاء، يناير 01، 2014

قصة " عوسجة " للأديب /فتحى محمود اسماعيل الفائز بالمركز الثالث في مسابقة المدونة " مستوي أول


عوسجة 
للقاص / فتحى محمود اسماعيل                    سوهاج

تماماً في سرة السماء.. تعبس بوجهها الملتهب ،تنفخ من جوفها حمما قائظة تلسع الجباه ، تحرق انسجة الملابس البترولية ،تكوى اللحم الذى اوهم أن للملابس دورا آخر غير "الستر" ، تتفصد مسام الجسد ملحا مبللاً بالماء ، أو هكذا خالته أمينه ، تسير محتمية بالبنايات التى تحجب عنها الشمس ولا تقيها حرها ... تشوى جلدها ، مناطق ما فى جسدها خالتها علامة تفرد خاصية تخول لها تيها ودلالاً تكاد الآن تلعنهما ، تتوقف أمانيها و أسمى طموحاتها عند حمام شقتهم... تحت الدش الصدئ تحديداً.
تزداد ضيقا بالإيشارب ، يحجز العرق الذي يطوق الرقبة فيصبح حسكا ينغز منابت الشعر تتمنى لو خففت قليلا من ملابسها هذه الأيام ، آلتي لم تكن أبدا كباقي أيامها ، ناراً أُبدلت من قلق شهورا تعانيه ، 
خالته سينتهي ، فإذا به يتحول آتونا مشتعلا ، ينهش صدرها ببخة تنين متعملق يحمل في أحشائه كل من عرفتهم إلا ماجدة
أينك الآن ؟
وحدها فكرت و...و حدها حاولت أن تطفئ النار .
- لكن ... بالنار يا ماجدة ؟
كنا نعتقد أن بالحقيبة أدوات الماكياج
- أو ساندوتشات
- أو رسائل الغزل
- فإذا بها مسدسات
- كيدهن عظيم "
لو كانت معها الآن لردت للمتحذلقين الصاع صيعان ، غصة تخنق بداخلها الريق المزدرد.
- لستم بأقل منه استحقاقا ًللردع .
تهمس بخاطرها...
يجيبها صوت ماجدة من قاع رأسها المترع بالذكريات :
" كائنات ضارة , أشبه بالذباب الذي لا يفرق بين العسل والدم المتخثر "
هكذا بصقتها ماجدة كرة من القرف ... حينها كان يقف أمامهما محتميا بفرع مائل ظلل الرصيف تاركا الأم فى مدخل أحد البنايات الحكومية ، يبتسم البلل على شفتيه ، يهش الذبابة من على الأنف الأفطس ، يتسامق طوله بحدبه تقى شعرًا حالكا لامعا مصفوفا للوراء بعناية وقد شوش بضعه الأمامى وتدلى حتى الحاجبين المزججيين ، يلقى بظله على ايهن ، لا تردعه تأففات الإزدراء ، لا يعنيه كره يطفح على العينين... نار، لا تشعره بذرة ارق ... لا تقلقل ثبات خطواته ، تصطك ركبتا أمينه ، تلتصق بصاحبتها التى ترمقها بعتاب غاضب ، تحدجه بنظرتين يشتعل التقزز فيهما ، تسحب رفيقتها ، تفضل نار الشمس على زمهريره اللزج ؛
تنفخ أمينة في ضيق توجعها الذكرى ، تهتف :
- ليتها ما جرأت .
تسير وكأنها لا تنقل قدميها ، تمل الرنو إلى معلم ، تحفظه ... الزحام يخنقها ، يعرقل خطواتها
الشمس لا تتركها بدون أن تدعس قوامها بيد ملتهبة ، تنحني ، تغرق في عرقها ، خجلها المميت ، تصل موقف السيارات ،
أخيراً ... تزفر في ارتياح سرعان ما يتحول إلى ألم يعتصر قلبها .
هنا كانت تصافح " ماجدة " تتباعدان واليدان متشبثتان ، تتراجعان والأصابع متكالبة ، والأنامل بعد هنيهات الملامسة الأخيرة ... تفترق على وعد باللقاء بعد يوم دراسى لم يتركا للهواء منفذا يحتله أو يعيره بينهما ،
هنا رأتها للمرة الأخيرة ، محاطة بعشرات الأيدي ... تخبط كفا بكف ، تشوّح ، ترتفع للسماء تشير إلى بقعة ما في الأرض ، بمئات الأعين... يندفع منها سائل لزج نحوها ، يعترى جسدها المحطوط في البؤرة ، يأكل أمينة سؤال ، يضعضع حواسها مبهم ، خوف خفي يظلل محيطها ، هلع حقيقي يزلزل كيانها ... يرعش فرائصها يترك فقط في الحلق غصة ، يبسان يحجر فمها ، ترفع يدها ، وصوت متحشرج ، مخنوق :
- " ماجدة "
على عينيها ثبات عجيب ، في وجهها إصرار قوى ، لا ترى صاحبتها آلتي تسأل من حولها بينما تأتيها الإجابة كلمات متناثرة تخرج من أفواه عدة :
- قتيل
- البنت قتلته ... مسكين
- كانت تحمل مسدسا في حقيبة يدها
- معركة انتهت بإطلاق الرصاص
- الشرطة تعاملت مع الموقف
تساءلت و.." مستحيل " تلون كل حروف سؤالها برفض رمادي:
- هكذا تنتهي ماجدة ... ؟؟
- " هكذا ابدأ "
قالتها" ماجدة " للمذيع التليفزيوني ، نصب من نفسه وضيوفه قضاة ، كانت تراها من خلف سرسوب دمع يحرق مآقيها ،
قال أخوها :
- لم يتركن شئ لنا ، حتى الحياة يسلبنها منا ، يقضين علينا بالفتنة وبالموت .
رمقته " أمينة " بغضب مرير منكسر وهرولت إلى غرفتها وتركت للوسادة احتضان ما تبقى لديها من دموع ، في نفس الليلة جاءتها في مدرج خالي من سواهما ، هبطت من أعلى أم انشقت عنها الأرض ؟ لا تدرى
بيدها مسدس تضعه على كفها وتبتسم نفس ابتسامتها العذبة ، في عينيها سؤال سمعته
" أمينة " ولم تفه به " ماجدة ":
- أترينني قاتلة ؟
- لا...
- لماذا تخليت عنى ؟
- ناديت عليك ولم تسمعينني
- سمعتك..
- لم تردى
- كانوا يقيدونني ...سلاسل بعدد عيونهم وقوة رفضهم ، طوقتني ، تخللت جسدي ، فكوا ايشاربي ، سلسلوا خصلات شعرى
- رأيتهم
- لم تمنعيهم
- خجلت
- هكذا أرادوني
- أنت افضل منى
- تريدين علاقتنا تستمر ؟
- نعم ..
- ألا تخجلين منى ؟
- انا ...ا ....ا...
تتعثر الحروف على لسانها بينما تتباعد ماجدة ، تتراجع وكأن شيئا ما يدفعها للخلف حتى تختفي، تصرخ " ماجدة " ..." ماجدة "... , و ...
- "أمينة" ... " أمينة"
يصلها صوت هامس حاني ، يسحبها خلال ممر رمادي تفتح عينيها لتجد أمها تضع يدا على صدرها والأخرى تمسح على شعرها
- حلمت ؟
- ماجدة يا أمي
- لها الله
- لم تذنب
- القتل جرم بشع
تعتدل في سرعة خاطفة ، تراه فوق الدولاب يخرج لسانه لها
- كان يستحق
- ليس لنا الحكم ، وإن كان ...فلا نملك الفعل ، لا يأخذ الروح إلا من خلقها
- لم يكن آدميا
- لايجوز عليه الآن إلا الرحمة
- لن يرحمه الله
- استغفرى الله
- انه شيطان ، شيطان يا أمي
تلقى بنفسها تحت الدش ، تحتضن حلمها بالماء البارد ، تسبل جفنيها ، تثق في الجدران تترك لجسد ها حريته ، يبوح ويتنفس ، ولكن اللحظة تأبى تركها والحلم يهنئان بلا ذكرى يجفل لها قلبها وتتأجج في الجسد نار تؤرقه ، تجرحه ...ولا تفلح المياه في تبريد الجراح فتبقى لترى فيها دموع " ماجدة " التي تبلل خمارها
-" لم اعد أطيق لقد وصلت إلى هنا بصعوبة ، يطاردني أينما ذهبت ، لم يدع لي منفذا ، رنين الهاتف لا ينقطع ، لا يترك أبى وأخي لحالهما ، يطاردهما أيضا ، بات رواد المقهى يعرفونني ، صوري يتناقلها الطائشون ."
- منها لله " مديحة " أسلمتك للشيطان
- بعد أن أسلمت نفسها
- يفرد شباكه القذرة أينما راح
- ولا يعدم وسيله
- فرصة لا تضيعها الساقطات
- على أشكالها تقع الطيور
- خنازير
- أنتِ الصيد الذي تمرد
- يهدد آبي بنشر صوري ولا يترك أمي لحالها ، يطلب مالا ليسكت
- أعطوه إذا ما يريد
- يقول أبي أن في ذلك اعتراف بثمة علاقة
- والعمل ؟
- سأصبر...
و.... تنظر للسماء بعين دامعة وقلب مكلوم ، تشاركها " أمينة " الصلاة صمتاً.....،
لا تدرى أن أرقها جثم على قلب صاحبتها ، بات همها ولما فعلتها انشطرت أمينه نصفين ،
نصف مستريح ونصف يقتله الألم ، نصف يبكى صاحبتها ونصف ينشد فيها الأغانى ، نصف قلق على مستقبلها ، ونصف قرير بنجاتها
- اهو حب ؟
قالتها امينه من داخل أحد المدرجات وهى تنظر من نافذته إلى فناء الكلية ، تتابع الثنائيات المتناثرة تحت ظلال الأشجار والمظلات الخشبية و... همس محيط
نظرت ماجدة نظرة سريعة ثم تراجعت قائلة :
- مودة ... كهذا الحذاء ...
تشير إلى قدميها وتكمل :
- ... أليس مستورداً ؟
تنظر" أمينة " في عينيها لحظات ... ثم تنفرج الشفاه عن ابتسامتين ضالتين ، أكسبتا وجهيهما ملاحة غبرها الحزن .
من شق ضيق في النافذة ينساب شعاع الشمس ، عمود مائل بتراقص الغبار في محيطه الضيق ، يضئ العتمة ، يمنع انكساره عند المرآة أمينه أن ترى وجهها ... لا تهتم ... تتأمل الأسطوانة المفعمة بالغبار ، تمتلئ حجرتها به إذن ، بل الشارع ، الدنيا ، لا يتضح إلا بمفارقة كهذه ، فى قلب العتمة ، يروح شهيقا ، ولا يجئ مع الزفير ، يحط على الأثاث ، الملابس ، العيون ، لا نبالى ..........ونعيش
تقلقنا الحقيقة ، نكره من يكشف عرانا ، والعرى ذاته اختيار ،
كانت تبحث في" شنطة يدها" عن منديل ورقى حينما رأته ، جفلت ....
- ما هذا ؟
ابتسمت " ماجد ة" في ارتباك و أغلقت " شنطتها "
- مسدس ؟ ماذا ستفعلين به ؟
- أدافع عن نفسي
- أخشى عليك منه
- المسدس أم هو
- الاثنان و... مستقبلك
- الذئب لم يترك في الحاضر فرجة أتطلع منها إلى الغد ، أخرج من جرابه اللعبة الجديدة ، حيلة شياطين ... وثيقة زواج عرفي ، طالب بالمال وإلا سيفضح أمري ، لم ينتظر الرد ، نشر الوثيقة بين المعارف ،
بات الكل يرونها لوحته التى تمردت أعلنت أنها لم تزل ورقة بيضاء ، عبثت أصابعه على أوتار السكون فأجج فى محيطها ناراً عبثا ً حاولت إطفائها و...
ليلة حمراء لو قضاها معها سيستريح ، ويستكين الشيطان داخله .
الشرطة لا تقنعها الاتهامات المرسلة ، والشرف لا يستحق الحراسة ،أغلقت بابها وأسلمت نفسها للحبس الاختياري ، عيون الزملاء والجيران والأقارب تهتك رجولة أبيها وأخيها ،تعرى الستائر الكثيفة بينما يستلقي أصحابها على الأرائك يتفرجون ، يتندرون ، يمصمصون الشفاه وهم يرشفون المثلجات في ارتياح وسكينه إلا هي ، وحدها تشعر بصديقتها ، تعانى معاناتها ، تخشى عليها منه وعلى نفسها ، لا تدرى ما يخبئه الغد ، لا تأمن هجمة الذئاب المفاجئة ،تكتظ الصحف بأخبار الاغتصاب ، والطوفان لا يبقى على أحد تعتصرها المخاوف ، تشلها الهواجس الكئيبة ، يلدغها خاطر ... لو صادفها في إحدى الطرق ، لو تخيرها صيدا ، تتوخى السلامة...!! ؟ وتبدل الوداعة بثوب الحيات مثل من توخينها ؟
وتحلق ... فوق هيكل الأب المنكسر والأخ الملتاث ، والأم حين تقرأ الفاتحة فى ساعة لا تكاد تعى ما تنطقه ؟ لا تردع شقيقتها حين تنفلت ... تقطف بين يدى الإثم ورودها الحمراء وتقدمها قرباناً لأمنها ؟

تقرأ في الجرائد...(اصبحت ترى أخبارها بين المغتصبين والقتلة ).........تفرج عنها النيابة بكفالة.
يراودها سؤال ، هل تزورها ؟ تحتضنها كما الأيام الخوالى ؟... ترتعد ، يخفق قلبها بشدة ، تعييها الإجابة ، تلقى رأسها على الوسادة وتروح في إ إغفاءة ...لا تسقطها فى هوة كرى مستقر

ليست هناك تعليقات: