الأحد، ديسمبر 12، 2010

حوار نجيب محفوظ مع ذي باريس ريفيو

نجيب محفوظ: قصة سعيد مهران هي قصتي أنا


أرفض أي طريق يرفض الحياة
أليس في كل رجل بعضا من سي السيد
في شبابي فعلت كل شيء
أنا كمال عبد الجواد وسي السيد معا
جيلي لا يعرف الأبطال ولا يكتب عنهم
لا أملك إلا أن أحب الصوفية
على من يتكلم أن يكون مستعدا لدفع الثمن

حوار: تشارلوت الشبراوي Charlotte El Shabrawy




ترجمة / احمد الشافعي

يعتبر نجيب محفوظ أن حافظ نجيب ـ اللص الشهير والسجين الذي دوخ الشرطة cop baiter وألّف اثنتين وعشرين رواية بوليسية ـ هو صاحب أول تأثير أدبي عليه. كان نجيب محفوظ ابن عشر سنوات فقط حينما قرأ رواية "بن جونسن" لحافظ نجيب بتوصية من أحد زملائه في المدرسة الابتدائية، فكانت تلك ـ فيما يعترف نجيب محفوظ ـ تجربة غيرت حياته كلها.


وتباينت من بعد ذلك التأثيرات التي تعرض لها محفوظ وتكاثرت. ففي فترة الدراسة الثانوية، وقع محفوظ في غواية طه حسين الذي أثار كتابه النقدي المثير "في الشعر الجاهلي" ردود فعل هستيرية بين علماء الشريعة المحافظين بمجرد صدوره سنة 1926. قرأ محفوظ في الجامعة سلامة موسى الذي نشر فيما بعد في مجلته "المجلة الجديدة" أول رواية لمحفوظ، والذي يقول محفوظ إنه تعلم منه "أن يؤمن بالعلم، والاشتراكية، والتسامح".


في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، تخلى محفوظ عن أفكاره الاشتراكية بتأثير من تشاؤم عميق. وبات يقضي الكثير من وقته في نقاشات حول الحياة ولاجدوى الأدب، وكان أصدقاؤه من الكتاب من أمثال "عادل كامل وأحمد زكي محفوظ" يشاركونه تلك النقاشات التي كانت تجري في منطق الحدائق المتاخمة لكوبري الجلاء التي كانوا يسمونها "الدائرة المشئومة". في الخمسينيات مر محفوظ بتجربة الصوفية باحثا فيها عن إجابات للأسئلة التي لا ينشغل بها العلم. واليوم يبدو محفوظ وقد استقر على فلسفة تجمع بين الاشتراكية العلمية والاهتمام بالروحية ، وهو مزيج سبقه تعريف للقص توصل إليه سنة 1945: القص هو فن العصر الصناعي. وذلك يمثل المركب الذي يتألف من شغف محفوظ بالواقع وغرامه طول عمره بالخيال.


ولد محفوظ في القاهرة سنة 1911، وبدأ الكتابة وهو في السابعة عشرة من عمره ومنذ ذلك الحين كتب أكثر من ثلاثين رواية. كان ـ حتى تقاعده من الوظيفة ـ يكتب بالليل، في وقت فراغه، نظرا لعجزه ـ بالرغم من نجاحه النقدي ـ عن الاعتماد على الكتابة في كسب لقمة عيشه. نشر أول عمل له ـ "عبث الأقدار" ـ في عام 1939، فكان الأول في سلسلة من ثلاثة أعمال تاريخية تدور أحداثها في زمن الفراعنة. وكان محفوظ في الأصل يعتزم أن يمد هذه السلسلة لتتألف من ثلاثين أو أربعين رواية تتناول تاريخ مصر على غرار أعمال السير وولتر سكوت Walter Scott ولكنه نبذ المشروع ليعمل على روايات من مصر المعاصرة، فكانت أولاها "خان الخليلي" التي نشرت سنة 1945.


لم يحقق نجيب محفوظ شهرة ملموسة في مصر إلا بصدور الثلاثية في عام 1957، برغم تحقيقه النجاح في أجزاء أخرى من العالم العربي. تلك الملحمة المؤلفة من ثلاثة آلاف صفحة تصور حياة الطبقة الوسطى في القاهرة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد اعتبرت بمجرد صدورها رواية عصرها. أصبح نجيب محفوظ معروفا في الخارج في أواخر الستينيات، حين ترجمت أعمال له إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية. وفي عام 1988، حاز نجيب محفوظ اعترافا عالميا حينما فاز بجائزة نوبل في الأدب.


هو الآن في الثمانين، يعيش في حي العجوزة في القاهرة مع زوجته وابنتيه. يتجنب الظهور، ويتجنب بصفة خاصة الأسئلة التي تتناول حياته الشخصية، فذلك قد يصبح ـ على حد قوله ـ "موضوعا سخيف في الصحف والبرامج الإذاعية". أجريت لقاءات هذا الحوار في عدد من أيام الخميس، في السابعة تماما من كل يوم منها. كانت المحاورة تجلس كل مرة على مقعد إلى يسار محفوظ، على مقربة من أذنه السليمة.


محفوظ على المستوى الشخصي متحفظ إلى حد ما، ولكنه دائما صريح ومباشر. يضحك كثيرا ويرتدي بذلة زرقاء عتيقة الطراز، يغلق جميع أزرارها. يدخن، ويحب القهوة مُرة.


المحاورة:


متى بدأت الكتابة؟


نجيب محفوظ:


سنة 1929. رُفضت جميع قصصي. كان سلامة موسى ـ رئيس تحرير المجلة الجديدة ـ يقول لي: أنت موهوب، ولكنك لم تصل بعد. وأذكر جيدا سبتمبر من عام 1939، فقد كانت بداية الحرب العالمية الثانية بهجوم هتلر على بولندا. نشرت قصتي "عبث الأقدار"، فكانت تلك هدية ومفاجأة من ناشري المجلة الجديدة. كان ذلك حدثا ذا أهمية هائلة في حياتي.


المحاورة:


وبعدها أصبحت الكتابة والنشر أمورا سهلة؟


محفوظ:


لا ... وإن جاءني بعد هذا النشر الأول صديق لي، كاتب، وأخبرني أن شقيقه يمتلك مطبعة. قام بتشكيل لجنة نشر مكونة من بعض الزملاء الذين كانوا قد حققوا أقدارا ضئيلة من النجاح. بدأنا النشر سنة 1943 بقدر من الانتظام. وكنا ننشر قصة لي كل سنة.


المحاورة:


ولكنك لم تعتمد قط على الكتابة كمصدر للدخل؟


محفوظ:


لا. كنت دائما موظفا حكوميا. بل إنني، على العكس، كنت أنفق على الأدب ـ على الكتب والورق. لم أحقق مالا من الكتابة إلا بعد وقت كبير. نشرت حوالي ثمانين قصة بلا مقابل. حتى رواياتي الأولى نشرتها بلا أي مقابل، بل دعما للجنة.


المحاورة:


متى بدأت تجني مالا من كتابتك؟


محفوظ:


حينما ترجمت قصصي إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية. "زعبلاوي" بالذات نجحت نجاحا هائلا وجنيت بسبها مالا أكثر من أي قصة أخرى.


أول رواية ترجمت لي هي "زقاق المدق". نشرت الترجمة أول مرة من خلال ناشر لبناني اسمه خياط. ولم أحصل أنا أو المترجم على أي أجر لأن خياط خدعنا. ثم أعادت هيننمان Heinemann نشرها نحو عام 1970. وبعدها ترجمت إلى الفرنسية، وسرعان ما بدأت ترجمات أخرى لأعمالي.


المحاورة:


هل يمكن أن تكلمنا عن "شلة الحرافيش" الشهيرة؟ من أعضاؤها، وكيف تكونت؟


محفوظ:


تعرفنا لأول مرة سنة 1943، مصطفى محمود، وأحمد بهاء الدين، وصلاح جاهين، ومحمد عفيفي. كنا نتناقش في الفن والشئون السياسية الجارية. "الحرافيش" تعني "النهابين" الذين يجدهم المرء على أطراف المظاهرات مستعدين للنهب عندما تسنح أول فرصة، هؤلاء هم الحرافيش. [الممثل السينمائي] أحمد مظهر هو الذي أطلق علينا هذا الاسم. في البداية كنا نتقابل في بيت محمد عفيفي. أحيانا كنا نذهب إلى مكان اسمه "صحارى سيتي" قرب الأهرام. والآن نذهب إلى بيت المخرج السينمائي توفيق صالح لأن لديه شرفة في الطابق العاشر مطلة على النيل. الباقون منا أربعة أو خمسة.


المحاورة:


هل أنت على صلة بالكتاب المصريين الأصغر سنا؟


محفوظ:


أذهب كل جمعة إلى جلسة في كازينو قصر النيل يدعى إليها الكتاب الجدد. يأتي الكثيرون: شعراء، وكتاب، وشخصيات أدبية ... منذ أن تقاعدت من العمل للحكومة سنة 1971 أصبح لدي وقت أكبر للأصدقاء.


المحاورة:


ما الدور الذي لعبه في حياتك الوضع السياسي فيما قبل 1952؟


محفوظ:


كنت في حوالي السابعة عندما قامت ثورة 1919. تأثرت بها، وازددت تأثرا بها وتحمسا لقضيتها. كل الذين كنت أعرفهم كانوا يناصرون حزب الوفد والتحرر من الاستعمار. ثم أصبحت في وقت لاحق أكثر انخراطا في الحياة السياسية وتابعا صريحا لسعد باشا زغلول [زغلول باشا سعد في الأصل]. ولا أزال أعتبر ذلك الانخراط من أهم الأشياء التي فعلتها في حياتي. ولكنني لم أعمل مطلقا في السياسة، ولم أنضم بصفة رسمية لأية لجنة أو حزب سياسي. وبرغم أنني كنت وفديا، لم أشأ قط أن أكون عضوا حزبيا، فقد كنت أريد لنفسي ككاتب حرية مطلقة لا يمكن لعضو في حزب أن يتمتع بها.


المحاورة:


و1952؟


محفوظ:


فرحت بها. ولكنها لسوء الحظ لم تأت بالديمقراطية.


المحاورة:


هل ترى أن تقدما نحو الديمقراطية والحرية قد تحقق منذ زمن ناصر والسادات؟


محفوظ:


طبعا، ما من شك في ذلك. في زمن ناصر كان المرء يخاف من الحوائط. كان الكل خائفين. كنا نجلس في المقاهي، والخوف يمنعنا من الكلام. كنا نخشى الكلام حتى في بيوتنا. كنت أخاف أن أكلم ابنتي عن شيء حدث قبل الثورة فتذهبا بعد ذلك إلى المدرسة لتقولا ما يساء تفسيره. السادات جعلنا نشعر بمزيد من الأمن. حسني مبارك؟ دستوره غير ديمقراطي، ولكن هو ديمقراطي. نستطيع الآن أن نقول رأينا. الصحافة حرة. نستطيع أن نجلس في بيوتنا ونرفع أصواتنا كما لو كنا في إنجلترا. ولكن الدستور بحاجة ماسة إلى تعديل.


المحاورة:


هل تعتقد أن الشعب المصري جاهز الآن لديمقراطية كاملة؟ هل يفهم فعلا كيف تعمل الديمقراطية؟


محفوظ:


أغلب الناس في مصر اليوم مشغولون بلقمة العيش. بعض المتعلمين فقط هم الذين يفهمون كيف تعمل الديمقراطية. ما من شخص يعول أسرة لديه ولو لحظة ليتناقش في الديمقراطية.


المحاورة:


هل عانيت كثيرا من الرقابة؟ هل اضطررت إلى إعادة كتابة أي من مخطوطات أعمالك؟


محفوظ:


ليس مؤخرا. لكن أثناء الحرب العالمية الثانية تعرضت روايتا "القاهرة الجديدة" و"رادوبيس" للرقابة. اعتبروني يساريا. الرقباء اعتبروا "رادوبيس" عملا مهيجا لأن الشعب فيها يقتل ملكا، وكان ملكنا لا يزال حيا. أوضحت لهم أنها مجرد حكاية تاريخية، ولكنهم زعموا أنها تاريخ مزور، وأن الملك المقصود لم يتعرض للقتل على يد شعبه، وإنما مات "في ظروف غامضة".


المحاورة:


ألم يعترض الرقباء أيضا على "أولاد حارتنا"؟


محفوظ:


اعترضوا، وبرغم أني كنت في ذلك الوقت مسئولا عن جميع أنواع الرقابة، نصحني رئيس الرقابة الأدبية ألا أنشر الكتاب في مصر تجنبا للصراع مع الأزهر، معقل الإسلام الرئيسي في القاهرة. صدرت في بيروت ولم يسمح لها بدخول مصر. كان ذلك سنة 1959، في عهد ناصر. وحتى الآن لا يمكن شراء الكتاب هنا. لكن الناس يهربونه.


المحاورة:


ماذا كنت تقصد من "أولاد حارتنا"؟ هل كنت تريدها مثيرة للجدل؟


محفوظ:


أردت من الكتاب أن يبين أن للعلم مكانا في المجتمع، تماما مثل الدين الجديد، وأن العلم ليس بالضرورة في صراع مع القيم الدينية. أردت أن أقنع القراء أننا لو نبذنا العلم لنبذنا معه الإنسان العادي. غير أنه أسيء فهمها لسوء الحظ، أساء فهمها أولئك الذين لا يعرفون كيف يقرأون قصة. وبرغم أن الكتاب عن الحارات ومن يديرون الحارات [ الجيتوهات ghettos في الأصل] أسيء تأويله واعتبر كتابا عن الأنبياء أنفسهم. وبسبب هذا التأويل، لا تزال القصة تعد صادمة، وهذا طبيعي، إذ هي وفقا لهذا القراءة تصور الأنبياء حفاة، قساة ... ولكنها بالطبع أليجوريا allegory. وليست الأليجوريا مجهولة في تراثنا. ففي قصة "كليلة ودمنة" على سبيل المثال هناك أسد يمثل السلطان. ومع ذلك لم يقل أحد إن المؤلف جعل من السلطان حيوانا. هناك ما ترمي إليه القصة. والأليجوريا لا ينبغي أن تقرأ حرفيا. ولكن هناك جانبا من القراء لا يملكون هذا الفهم.


المحاورة:


ما رأيك في قضية سلمان رشدي Salman Rushdie ؟ هل تعتقد أن الكاتب ينبغي أن يحظى بحرية مطلقة؟


محفوظ:


سأقول لك بالضبط ما أعتقد به: لكل مجتمع تقاليده، وقوانينه، ومعتقداته الدينية، وهذه جميعا تحاول وضع الحدود. وبين الحين والحين يأتي أشخاص يطالبون بالتغيير. أعتقد أن من حق المجتمع أن يحمي نفسه، كما أن للفرد الحق في مهاجمة ما يختلف معه. فإن رأى كاتب أن قوانين مجتمعه أو معتقداته لم تعد صالحة أو حتى ضارة، فمن واجبه أن يتكلم. ولكن عليه أن يكون مستعدا لدفع ثمن الجهر برأيه. ولو لم يكن جاهزا لدفع هذا الثمن، فبوسع أن يختار الصمت. والتاريخ زاخر بمن سجنوا أو أحرقوا لجهرهم بأفكارهم. ذلك أن المجتمع دائما يدافع عن نفسه. وهو اليوم يفعل هذا من خلال الشرطة والقانون. وأنا أدافع عن حرية التعبير وعن حق المجتمع في مناهضتها. عليَّ أن أدفع ثمن الاختلاف. تلك طبائع الأمور.


المحاورة:


هل قرآت "الآيات الشيطانية"؟


محفوظ:


لم أقرأها. ففي الوقت الذي ظهرت فيه، كنت لم أعد قادرا على القراءة بصورة جيدة، نظري تدهور كثيرا في الفترة الأخيرة. لكن الملحق الثقافي الأمريكي في الإسكندرية شرح لي الكتاب فصلا فصلا. ووجدت الإهانات فيه غير مقبولة. رشدي يهين حتى زوجات النبي! طيب، بوسعي أن أناقش الأفكار، ولكن ماذا أفعل في الإهانات؟ الإهانات أمر يخص القضاء. في الوقت نفسه، أعتبر موقف الخوميني خطرا بنفس الدرجة. فليس له الحق في أن يصدر حكما، هذا ليس من الإسلام في شيء. فحينما يتم اتهام شخص بالهرطقة فإنه ـ بحسب مبادئ الإسلام ـ يُخيَّر بين التوبة والعقاب. ورشدي لم يحصل على هذا الخيار. لقد دافعت ولا أزال أدافع عن حق رشدي في كتابة وقول ما يشاء في حدود الأفكار. ولكن ليس له الحق في أن يهين أي شيء، لا سيما إن كان نبيا أو شيئا يعد مقدسا. ألا تتفقين معي؟


المحاورة:


أتفهم رأيك ... هل القرآن يناقش مسألة الإهانات أو التجديف؟


محفوظ:


بالطبع. القرآن وقوانين الدول المتقدمة تجرم تشويه الأديان.


المحاورة:


هل كنت متدينا في طفولتك؟ هل كنت تذهب مع أبيك إلى المسجد كل جمعة؟


محفوظ:


كنت متدينا بصورة خاصة وأنا صغير. ولكن أبي لم يكن يضغط عليَّ للذهاب لصلاة الجمعة، برغم أنه كان يذهب كل أسبوع. فيما بعد بدأت أشعر بشدة بأن الدين ينبغي أن يكون منفتحا، وأن الدين منغلق العقل لعنة. يبدو لي الانشغال المفرط بالدين ملاذا أخيرا يلوذ به الناس حينما تنهكهم الحياة. إنني أعتبر الدين بالغ الأهمية ولكنه قد يكون خطرا أيضا. فلو أردت التأثير في الناس وتحريكهم، فإنك تبحثين عن نقطة حساسة، وليس في مصر شيء يؤثر في الناس ويحركهم أكثر من الدين. ما الذي يجعل الفلاح يعمل؟ الدين. ولهذا السبب، ينبغي تفسير الدين بطريقة منفتحة. ينبغي أن يتكلم في الحب والإنسانية. الدين مرتبط بالتقدم والحضارة، لا بالعواطف وحسب. ولكن تفسيرات الدين اليوم للأسف غالبا ما تكون متخلفة ومناقضة لاحتياجات الحضارة.


المحاورة:


ماذا عن النساء اللاتي تغطين رءوسهن، بل ووجوههن وأيديهن؟ هل هذا مثال على الدين إذ يناقض احتياجات الحضارة؟


محفوظ:


تغطية الرأس باتت موضة. وهي لا تعني أكثر من هذا في الغالب. ولكن ما أخشاه بحق هو التعصب الديني ... ذلك تطور هدام، معارض تماما للإنسانية.


المحاورة:


هل تصلي حاليا؟


محفوظ:


أحيانا. ولكن السن يمنعني في الوقت الراهن. بيني وبينك، أنا أعتبر الدين سلوكا إنسانيا جوهريا. ولكن معاملة الناس بطريقة جيدة أهم من قضاء المرء كل وقته في صلاة وصيام وسجود. فالله لم يرد من الدين أن يكون ناديا للتدريبات الرياضية.


المحاورة:


هل ذهبت إلى مكة؟


محفوظ:


لا.


المحاور:


هل تريد الذهاب؟


محفوظ:


لا. فأنا أكره الزحام.


المحاورة:


كم كان عمرك حينما تزوجت؟


محفوظ:


سبعة وثلاثون أو ثمانية وثلاثون.


المحاورة:


ولم كل هذا التأخر؟


محفوظ:


كنت مشغولا بوظيفتي وكتابتي. كنت موظفا حكوميا في الصباح وكاتبا في المساء. كان وقتي ممتلئا تماما. كنت خائفا من الزواج ... خاصة حينما رأيت قدر انشغال أشقائي وشقيقاتي بارتباطات اجتماعية سببها الزواج. فهذا يزور، وذلك يزار. كان لدي انطباع بأن الحياة الزوجية سوف تستهلك وقتي. كنت أراني غارقا في الزيارات والحفلات. بلا حرية.


المحاورة:


حتى الآن، ألست ترفض حضور حفلات العشاء والاستقبال؟


محفوظ:


لا أحضر أبدا مثل هذه الفعاليات. بل إنني لا أزور أصدقائي. ألتقي بهم إما في كازينو قصر النيل أو في إحدى مقهى أو اثنتين.


المحاورة:


ألهذا السبب لم تذهب إلى السويد لاستلام جائزة نوبل؟ هربا من كل تلك الزيارات، ودعوات العشاء، والحفلات ....؟


محفوظ:


لا، ليس بالضبط. بقدر ما أود لو كنت سافرت حينما كنت شابا، بقدر ما فقدت هذه الرغبة حاليا. مجرد رحلة لمدة أسبوعين يمكن أن تهدد نمط حياتي.


المحاورة:


لا بد أنك سئلت مرارا عن رد فعلك على فوزك بنوبل. هل وصلتك تلميحات مسبقة إلى أنك قد تفوز؟


محفوظ:


إطلاقا. كانت زوجتي ترى أنني أستحقها، ولكنني كنت دائما أشك أن نوبل جائزة غربية، وكنت أظن أنهم لن يختاروا أبدا كاتبا شرقيا. ومع ذلك، كانت هناك شائعات، وكان الكاتبان العربيان المرشحان هما يوسف إدريس وأدونيس.


المحاورة:


هل كنت تعلم أن هناك تفكيرا فيك؟


محفوظ:


لا. كنت في [جريدة] الأهرام في ذلك الصباح. ولو كنت بقيت هناك نصف ساعة إضافيا لا أكثر لكنت عرفت على الفور. ولكنني ذهبت إلى البيت وتناولت الغداء. وجاء الخبر إلى الأهرام من خلال وكالات الأنباء واتصلوا بي في البيت. أيقظتني زوجتي لتخبرني، ولكنني ظننت أنها تمزح وأردت أن أكمل نومي. ثم قالت لي إن الأهرام على التليفون. تناولت السماعة لأجد شخصا يقول لي مبروك. ذلك الشخص كان الأستاذ [محمد] باشا [مدير تحرير الأهرام آنذاك]. وكان باشا يمازحني أحيانا، فلم أتعامل مع كلامه بجدية. خرجت إلى صالة البيت بالبجامة فلم أكد أجلس حتى رن جرس الباب. ودخل شخص تصورت أنه صحفي، ثم تبين أنه السفير السويدي! فاستأذنت منه لكي أبدل ملابسي ... وهذا ما حصل.


المحاورة:


نرجع مرة أخرى إلى كتابتك، هل تعمل وفق جدول محدد؟


محفوظ:


طالما اضطررت إلى هذا. فمنذ الثامنة إلى الثانية كنت أعمل في الوظيفة. ومنذ الرابعة إلى السابعة أكتب. ثم أقرأ من السابعة إلى العاشرة. كان ذلك جدولي كل يوم باستثناء الجمعة. لم يكن عندي قط الوقت لأفعل ما أشاء. ولكنني توقفت عن الكتابة منذ ثلاث سنوات.


المحاورة:


كيف تأتيك شخصيات قصصك وأفكارها؟


محفوظ:


دعيني أطرح الأمر على النحو التالي. حينما تقضين وقتا مع أصحابك، فيم تتكلمون؟ عن الأشياء التي تترك لديك انطباعا في يوم ما أو في أسبوع ما ... أنا أكتب القصص بهذه الطريقة بالضبط. ما يحدث في البيت، في المدرسة، في العمل، في الشارع، ذلك أساس لقصة. من التجارب ما يترك انطباعا عميقا يجعلني بدلا من أن أتكلم عنه في النادي، أكتب عنه رواية.


خذي مثالا، قضية المجرم الذي قتل مؤخرا ثلاثة أشخاص. منطلقا من تلك القصة كقاعدة، أتخذ مجموعة القرارات الخاصة بكيفية كتابتي لها. فأختار مثلا إن كنت أكتب القصة من وجهة نظر الزوج، أم الزوجة، أم الخادم، أم المجرم. ربما أتعاطف مع المجرم. تلك نوعية الخيارات التي تجعل القصص تختلف إحداها عن الأخريات.


المحاورة:


حينما تبدأ الكتابة، هل تدع الكلمات تتدفق أم تدون ملاحظات مسبقة؟ هل تبدأ وفي ذهنك ثيمة محددة؟


محفوظ:


قصصي القصيرة تأتي من قلبي مباشرة. أما الأعمال الأخرى فأقوم ببحث مسبق. فقبل أن ابدأ "الثلاثية" مثلا قمت ببحث موسع. أعددت ملفا لكل شخصية. ولو لم أفعل ذلك لتهت ولنسيت أشياء. أحيانا تنبثق ثيمة من الأحداث في قصة، وأحيانا تكون في ذهني ثيمة قبل أن أبدأ. لو كنت أعرف مسبقا أنني أريد أن أصور مقدرة الإنسان على قهر كل ما يقع له من شرور، فإنني أبتكر بطلا قادرا على إظهار هذه الفكرة. ولكنني أيضا أبدأ القصص بالكتابة بحرية عن سلوك شخصية، متيحا للثيمة أن تتخلق لاحقا.


المحاورة:


ما حجم المراجعة التي تقوم بها قبل أن تعتبر قصة ما مكتملة؟


محفوظ:


أراجع كثيرا، وأحذف كثيرا، أكتب على الصفحة كلها، بل وعلى الوجهين. غالبا ما تكون مراجعاتي أساسية. وبعد أن اراجع، أعيد كتابة القصة وأرسلها إلى الناشر. ثم أمزق كل المسودات وأرميها.


المحاورة:


لا تحتفظ بمطلقا بأي من ملاحظاتك؟ كثير من الكتاب يحتفظون بكل كلمة كتبوها! ألا ترى أن دراسة عملية الكتابة عند كاتب ما من خلال مسوداته قد تكون أمرا شائقا؟


محفوظ:


قد تكون كذلك فعلا، ولكن المسألة ببساطة أن الاحتفاظ بالمسودات والملاحظات ليس جزءا من ثقافتي. بل إني لم أسمع بكاتب يحتفظ بمسوداته الأولى. ثم إنني مرغم على التخلص من مسوداتي، وإلا امتلأ بيتي بورق لا نفع له! علاوة على أن خطي رديء بصورة لا تحتمل.


المحاورة:


القصة القصيرة والرواية ليستا جزءا من التراث الأدبي العربي. كيف تفسر نجاحك في هذين الشكلين الجديدين؟


محفوظ:


الكتاب العرب استعاروا مفهومي القصة القصيرة والرواية الحديثين من الغرب، ولكنهما الآن مندمجان في أدبنا. وكثير من المترجمين عملوا في الأربعينيات والخمسينيات، فاعتبرنا أن أسلوبهم هو ببساطة أسلوب كتابة القصة. استخدمنا الأسلوب الغربي للتعبير عن ثيماتنا وقصصنا. ولكن لا تنسي أن في تراثنا أعمالا مثل "أيام العرب" التي تضم قصصا كثيرة مثل "عنترة" و"قيس وليلى" و"ألف ليلة وليلة" بالطبع.


المحاورة:


هل بين شخصياتك شخصية تتطابق مع شخصيتك؟


محفوظ:


"كمال" في الثلاثية يمثل جيلي ـ أفكارنا واختياراتنا ومشكلاتنا وأزماتنا النفسية ـ فشخصيته من ثم شخصية سيرذاتية. ولكنها في الوقت نفسه شخصية إنسانية عامة. أشعر أيضا أنني قريب من عبد الجواد، الأب، المنفتح على الحياة بجميع جوانبها، المحب لأصدقائه، الذي لم يؤذ أحدا قط وهو متعمد. كلتا الشخصيتين تمثلان نصفي شخصيتي أنا. عبد الجواد الاجتماعي للغاية، المحب للفن والموسيقى، وكمال الخجول، الجاد، المثالي، المنطوي.


المحاورة:


لنتناول نموذجا من كتاباتك، "اللص والكلاب". كيف بدأت؟


محفوظ:


استوحيت القصة من لص روَّع القاهرة لفترة. كان اسمه محمود سليمان. حينما خرج من السجن حاول أن يقتل زوجته ومحاميه اللذين نجحا في الهروب من القتل، لكنه هو تعرض للقتل في ثنايا ذلك.


المحاورة:


هل خانته زوجته، كما في الرواية؟


محفوظ:


لا ... أنا ابتكرت القصة من شخصيته. كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد، وكنت على قناعة بأن حياتنا في ظل النظام البوليسي في تلك المرحلة كانت بلا معنى. وهكذا حينما كتبت القصة، كتبت معها قصتي أنا. وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملا فلسفيا! فقد حمَّلت شخصية الرواية الرئيسية "سعيد مهران" كل حيرتي، وهواجسي. جعلته يمر بتجربة البحث عن إجابات لدى الشيخ، ولدى "الساقطة"، ولدى المثالي الذي خان أفكاره من أجل المال والشهرة. وهكذا ترين أن الكاتب ليس مجرد صحفي. فهو يضفر مع القصة شكوكه، وأسئلته، وقيمه. هذا هو الفن.


المحاورة:


ماذا عن دور الدين في القصة؟ هل الإيمان بالله طريق السعادة الحقة كما يقول الشيخ؟ هل الصوفية هي الجواب الذي يبحث عنه المجرم؟


محفوظ:


الشيخ يرفض الحياة التي نعرفها. في المقابل يحاول المجرم أن يحل مشكلاته المباشرة. إنهما في عالمين مختلفين. أنا أحب الصوفية مثلما أحب الشعر الجميل، ولكنها ليست الإجابة. الصوفية مثل السراب في الصحراء، يناديك، أن تعال، فاجلس، واسترح قليلا. إنني أرفض أي طريق يرفض الحياة، ولكنني لا أملك إلا أن أحب الصوفية لجمالها الشديد ... إنها لحظة راحة في خضم معركة ...


المحاورة:


لي أصدقاء مصريون كثيرون يستشيرون شيوخ الصوفية باحثين عن حلول ...


محفوظ:


ربنا يوفقهم. الحل الحقيقي لمشكلاتهم في البنك الوطني.


المحاورة:


ماذا عن "نور"، المرأة في الرواية؟ ونساء مثل "نفيسة" في "بداية ونهاية" و"زهرة" في "ميرامار"؟ إنهن، وإن كن "ساقطات" ذوات قلوب طيبة، ويجسدن فيما يبدو الأمل في المستقبل.


محفوظ:


هذا صحيح، وإن كنت أردت من "نفيسة" أن تبين أيضا عواقب السلوك المشين في أسرة مصرية نمطية.


المحاورة:


هل ترضى بعقابها؟


محفوظ:


أنا ـ كأغلب المصريين ـ أشعر أن العقاب على هذا المستوى كان بالغ القسوة. من ناحية أخرى، فإن الرجل المصري الذي لا يتخذ رد فعل كالذي اتخذه شقيق نفيسة لا يستطيع أن يواصل الحياة في المجتمع. لقد كان مرغما، شاء أم أبى، على قتل الفتاة المكللة بالعار. لا يملك الفرار من ذلك. وسيمر وقت طويل للغاية قبل أن يتغير هذا التقليد، وإن تكن قوته قد وهنت قليلا في الآونة الأخيرة، لا سيما في المدن.


المحاورة:


عبد الجواد في الثلاثية يجسد شخصية الرجل المصري النمطية في زمنه. هل لا يزال هذا النمط شائعا اليوم؟


محفوظ:


نعم. لا سيما في صعيد مصر، في الريف ... برغم أن عبد الجواد اليوم قد يكون أقل تطرفا. أليس في كل رجل أصلا ظلا منه؟


المحاورة:


كل رجل مصري أم كل رجل؟


محفوظ:


لا أستطيع أن أتكلم عن بلاد أخرى، لكن يقينا هذا حال الرجل المصري.


المحاورة:


ومع ذلك يبدو أن ثمة تغيرات، ما رأيك؟


محفوظ:


الأمور بدأت في التغير. وضع المرأة في البيت بأت أقوى كثيرا، وذلك بسبب التعليم في المقام الأول، وإن تكن هناك عوامل أخرى؟


المحاورة:


في رأيك، لمن ينبغي أن تكون اليد العليا في البيت؟ من الذي ينبغي أن يتخذ القرار؟


محفوظ:


الزواج أشبه بشركة يتساوى فيها الشريكان. لا أحد منهما يحكم. وإن حدث خلاف، تكون الغلبة للأكثر ذكاء بين الاثنين. ولكن كل أسرة حالة مختلفة. أحيانا تعتمد السلطة على المال، فمن له نصيب أكبر منه تكن له القوة الكبرى. لا توجد قواعد ثابتة.


المحاورة:


في جميع المجتمعات التقليدية المحافظة كالمجتمع المصري، ألا تكون للنساء غالبا سلطة على الرجال؟


محفوظ:


يقينا، والتاريخ الحديث يثبت هذا. فهناك رجال يعدون ذوي سلطان سياسي وعسكري وقعوا في أيدي نساء قويات أثرن على قراراتهم. أولئك النسوة تحكمن من خلف الستار، من خلف الحجاب.


المحاورة:


لماذا تأتي أغلبية بطلاتك من الطبقة الدنيا من المجتمع؟ هل تريد منهن أن يرمزن لشيء أكبر؟ مصر على سبيل المثال؟


محفوظ:


لا. أردت من خلال الكتابة عن نساء الطبقة الدنيا أن أبين أن النساء في الفترات التي تجري فيها أحداث تلك الروايات كن بغير حقوق على الإطلاق. فلو لم تجد امرأة زوجا صالحا أو إذا لم تحصل على الطلاق من زوج سيئ، لا يكون لها اي أمل. وقد لا يكون أمامها لسوء الحظ من ملاذ سوى الوقوع في المحظور. وحتى وقت قريب كانت النساء محرومات من كثير من الحقوق الأساسية، حتى حق اختيار الزوج، والطلاق، والتعليم. الآن مع تعليم المرأة، فإن هذا الوضع يتغير، إذ إن المرأة المتعلمة يكون لديها سلاح. ولكن من النقاد من رأى أن حميدة في "زقاق المدق" ترمز إلى مصر، ولكنني لم أقصد مطلقا شيئا من ذلك النوع.


المحاورة:


كيف ترى هؤلاء النقاد الذين يفسرون أعمالك في ضوء الرموز؟


محفوظ:


حينما سمعت للمرة الأولى أن حميدة ترمز لمصر، أخذتني المفاجأة، بل وشيء من الصدمة. شككت أن النقاد قرروا ببساطة أن يحولوا كل شيء وكل شخص إلى رموز. ولكنني بدأت أرى تماثلات بين جوانب في سلوك حميدة وجوانب في الوضع السياسي. ولم أكد أنتهي من قراءة المقالة، حتى أدركت أن الناقد محق ـ وأنني فيما كنت أكتب عن حميدة كنت بلا وعي أكتب عن مصر. أعتقد أن تلك التوازيات الرمزية تأتي دائما من اللاوعي. وبرغم أنني قد لا أقصد من القصة المعنى المحدد الذي يراه فيها قارئ، قد يبقى ذلك المعنى جزءا شرعيا من القصة. فالكاتب يكتب بوعيه وبلاوعيه.


المحاورة:


ما أقرب المواضيع إلى قلبك؟ الموضوع الذي تحب أن تكتب عنه أكثر من سواه؟


محفوظ:


الحرية. الحرية من الاستعمار، الحرية من الحكم الملكي المطلق، والحرية الإنسانية الأساسية في سياق المجتمع والأسرة. هذه الحريات تتتابع واحدة تلو الأخرى. في الثلاثية على سبيل المثال، بعد أن تأتي الثورة بالإصلاح السياسي، تطالب أسرة عبد الجواد بمزيد من الحرية منه.


المحاورة:


ما أصعب موقف قابلته في حياتك؟


محفوظ:


إنه يقينا قراري بتكريس حياتي للكتابة، والقبول تبعا لذلك بأقل مستوى معيشي لنفسي ولأسرتي. وازداد الأمر صعوبة حينما لاح أمام عيني طريق المال ... قرابة سنة 1947 حينما سنحت لي فرصة أن أصبح كاتب سيناريو مع أفضل مخرج في المجال. بدأت العمل مع المخرج السينمائي صلاح أبوسيف، ولكنني توقفت. رفضت الاستمرار. ولم أعد للعمل معه مرة أخرى إلا بعد الحرب حينما أصبح كل شيء باهظ الثمن. قبل ذلك، ما كنت لأفكر في الأمر. وأسرتي رضيت بتلك التضحيات.


المحاورة:


كثير من الكتاب البارزين لا سيما في الغرب مشهورون بحياتهم الشخصية المتدنية ـ الإفراط في الشراب، الإدمان على المخدرات، العادات الجنسية غير المعتادة، النزعات الانتحارية. أما أنت فتبدو مثاليا!


محفوظ:


يعني ...


المحاورة:


وربما ذلك أكبر عيوبك؟


محفوظ:


طبعا هذا عيب. ولكنك تحكمين عليَّ في شيخوختي. في شبابي فعلت كل شيء، شربت، وجريت وراء الجنس الناعم، وما إلى ذلك.


المحاورة:


هل أنت متفائل إزاء مستقبل الشرق الأوسط، خصوصا في ضوء حرب الخليج والعنف المستمر؟


محفوظ:


في سني هذه يكون التشاؤم غير لائق. حينما يكون المرء شابا يكون بوسعه أن يعلن أنه لا أمل أمام البشرية، أما حينما يكبر المرء، فإنه يتعلم ضرورة ألا يشجع الناس على كراهية الدنيا.


المحاورة:


وماذا عن فكرة البطل؟ لا يبدو أن للأبطال وجودا في قصصك، بل ولا في قصص أي كاتب مصري معاصر.


محفوظ:


صحيح أن أغلب رواياتي ليس فيها أبطال، بل شخصيات وحسب. لماذا؟ لأنني أنظر إلى المجتمع بعين ناقدة فلا أجد شيئا استثنائيا فيمن تقع عليهم عيناي. أما الجيل السابق علي فقد رأى ـ بسبب من ثورة 1919 ـ سلوكيات بطولية، فالعامل القادر على قهر عراقيل غير معتادة هو بطل من نوع ما. هناك كتاب آخرون ـ مثل "توفيق الحكيم" و"محمد حسين هيكل" و"ابراهيم عبد القادر المازني" ـ يكتبون عن أنماط بطولية. أما جيلنا فهو بصفة عامة ذو مشاعر أهدأ، والبطل شيء نادر، فليس بوسع المرء أن يضع بطلا في رواية ما لم تكن فنتازية.


المحاورة:


كيف تصف البطل؟


محفوظ:


هناك أبطال كثيرون في الأدب العربي القديم، جميعهم فرسان مقاتلون. أما البطل اليوم فهو بالنسبة لي ذلك الذي يلتزم بمجموعة مبادئ معينة ويعمل بموجبها في مواجهة القهر. يحارب الفساد، غير انتهازي، وعنده أساس أخلاقي متين.


المحاورة:


هل تعتبر نفسك بطلا؟


محفوظ:


أنا؟


المحاورة:


ألست مثالا، بالنسبة لأبنائك ولجمهورك، للشخص الذي يلتزم بمبادئه في مواجهة الشدائد؟


محفوظ:


نعم، يقينا. ولكنني لا أعتبر نفسي بطلا.


المحاورة:


كيف إذن تصف نفسك؟


محفوظ:


شخص يحب الأدب. شخص يؤمن بعمله ويخلص له. شخص يحب عمله أكثر مما يحب المال أو الشهرة. طبعا لو جاء المال والشهرة، فألا بهما وسهلا. ولكنهما لم يكونا قط هدفي. لماذا؟ لأنني أحب الكتابة أكثر من أي شيء آخر. قد يكون هذا ضارا، ولكني أشعر أنه بدون الأدب لا معنى لحياتي. قد يكون لدي أصدقاء جيدون، رحلات، رفاهية، ولكن بغير الأدب كانت حياتي ستكون بؤسا كاملا. هذا شيء غريب، ولكنه ليس كذلك فعلا، فأغلب الكتاب كذلك. ولا أعني بذلك أنني لم أفعل في حياتي غير الكتابة. أنا متزوج. وعندي ابنتان. وبعد أن أصابتني تلك الحساسية في عيني منذ عام 1935 صرت أمتنع عن القراءة والكتابة طوال الصيف، ففرض هذا شيئا من التوازن على حياتي، توازن من عند الله. صرت أعيش في كل عام ثلاثة شهور حياة رجل عادي لا علاقة له بالكتابة. في هذه الشهور الثلاثة أقابل أصحابي وأبقى ساهرا خارج البيت حتى الصباح.


أفلم أعش؟


نشر هذا الحوار في مجلة ذي باريس رفيو في عام 1992


نشرت الترجمة في ملحق شرفات بتاريخ 

المصدر / مدونة  

مدونة قراءات احمد الشافعي


ليست هناك تعليقات: