الأحد، يناير 11، 2015

تحولات اللغة في القصة الرقمية...الدكتورة لبيبة خمار



نقلا عن : مطر 

تتميز اللغة العربية بجماع من الخصائص التي تمنحها قدرة على الاستمرار والتواجد والتأقلم مع مختلف التحولات التي يعرفها العصر والوسيط أو السند في مروره من الورق إلى الحاسوب. إن الإشكال المطروح لا يتعلق بهويتها ولا بقدرتها على احتواء تغيرات العصر فهي لغة مثالية يكفيها شرفا أنها لغة أهل الجنة، ولغة القرآن الكريم ووسيلته لتحقيق إعجازه. فأنى لها أن تكون معجزة الرسول(ص) ومع ذلك تعاني من القصور والعجز الذي يجعلها غير قادرة على الإحاطة بمختلف التغيرات التي فرضها الحاسوب كسند على مختلف مظاهر الحياة وعلى النصوص القصصية المعبرة عن هذه الحياة والتي انفتحت على ما هو رقمي واستغلت الإمكانات الهائلة التي يتيحها هو والشبكة العنكبوتية للتعبير عن نمط كتابي ينهل من شروط العصر ويعبر عن موقف وجودي ومعرفي ورؤيوي تخييلي. فالحاسوب والشبكة لا يعدان مجرد سند رقمي مروج للثقافات والمعارف بل طريقة في الوجود وحامل للمعرفة يؤثر في إنسان هذا العصر وفي طرائق تلقيه وقراءته للنصوص ، وطرائق تمثله وتمثيله للواقع وفي إبداعاته ونصوصه التخييلية المجسدة والمواكبة لتحولاته الفكرية والمعرفية والجمالية. لقد أثرا معا على كل مناحي حياة الإنسان وأثرا على أشكال قراءته التي أصبحت تمتاز بالسرعة والتصفح والاختيار والانتقال فهو ينتقل من موضوع إلى آخر متبعا حدسه ورغباته وفضوله المعرفي فكأنه في محل للتسوق يختار هذه البضاعة وتلك معتمدا على ما يسترعي انتباهه ويغريه.
في ظل هذه التغيرات الجوهرية التي طالت نمط الحياة والفكر والمعرفة والقراءة أصبح لزاما على اللغة العربية كناقل للثقافة، ومروج ومنتج لها من الانفتاح على الرقمنة والتعامل مع الحاسوب والشبكة من زاوية كونهما وسيلة لإنتاج، وانتشار، وتمظهر هذه الثقافة. والتعامل أيضا مع ما يتيحانه من إمكانات. دون إغفال تأثيراتهما على الأشكال التخييلية ومضامينها المعبرة عن الوشائجية والصلات التي يقيمها الإنسان العربي مع أنواته المتعددة، ومع غيره ومع إبداعاته وثقافاته والثقافات المغايرة والمخالفة أو المماثلة ومع مايحبل به الواقع من متغيرا. فالوسيط أو السند الذي تُتداول من خلاله هذه النصوص هو ما يحددها ويجعلها تتخلى عن أشياء وتتبنى أخرى.
وهذا ما دفع اللغة العربية للتعبير بماء اللغة القليل عن معاني ضخمة ومعقدة وأبنية ملتوية وأعفوانية مسبوكة بقوة المجاز، والحذف، وإيغال التلميح والاستعارة، وعمق الإيحاءات ورمزية الشخصيات والفضاءات. متخلية بذلك عن الكتابة ذات النفس الطويل الخاضع لمتطلبات البناء المتتابع والمتماسك بابتعادها عن الإطالة والاستطراد وكثرة التفاصيل ونظام الفصول والفقرات الطويلة لتكتب في شكل مقطعات موجزة وموجزة جدا تحتفي بالتقطيع والتجزيئ لتصبح كُمشة وحفنة من كلام مشاغب ولعوب يستحث القارئ للانخراط واللعب الحر الخلاق. لقد أصبحت الكتابة في شكلها الشذري، وصيغتها المقطعية مع الرقمية ووتيرة العصر السريعة، وثقافة النقر والانتقال، والتحكم عن بعد التي تسم نمط الحياة منهجا في التعبير وأسلوبا مطلوبا لذاته لذلك باتت النصوص المختزلة للحظة في وخزة أو في لقطة تصويرية قصيرة كتابة ناتجة عن الإكراهات والإرغامات التي يفرضها الوسيط على القصة الرقمية التي تحولت إلى فضاء مينمالي رحب وشاسع بترابطاته، فضاء مغر، ومغو له جماليته وسطوته. وله نكهة خاصة تدفع في الغالب إلى التأمل والتفكير. فلغتها لغة فارهة وباذخة نابعة عن رؤية للعالم والإنسان والأدب وللرقمية كآليات ينبغي تسريدها. لذلك فالكتابة التي تضم وتولف بين هذا النوع من المقطعات أو القصص هي كتابة بلورية غير خطية، ونسيج مفكك غير متوحد البناء يسوده التعدد والتنوع العلاماتي لعدم اقتصارها على اللفظ وانفتاحها على لغات أخرى تتمثل في الصورة الفيلمية، أو اللقطة السينمائية، والصورة الثابتة، والرسوم المتحركة لتحقيق شمولية العلامة ولتعانق الحكي حيث كان. وعيا منها أنها تتوجه إلى قارئ متعدد الهويات فهو قارئ للقصة الرقمية، أو مشاهد لها.
وقد ساعد إيجازها على إنتاج نص يكتب في شكل فقرات، أو مقطوعات تتواصل وتترابط فيما بينها بواسطة الروابط أو الكلمات القابلة للتنشيط بالنقر على مؤشر الفأرة ننتقل من نص لآخر فآخر لنقف عند نصوص تتناسل وتمتلئ ببعضها البعض وتنبثق وتنتشر داخل فضاء الشاشة كما ينتشر النبات مادا جذوره في كل الاتجهات، مستنبثتا أذرعا كما الأخطبوط. إن ميزة النصوص القصصية الرقمية هي أنها نصوص متعددة البدايات والنهايات وفضاء مكاني وزماني للإحالات المتتالية التي لا تتوقف عند نص بعينه فكل نص منشط يشكل البداية، ونقطة الانطلاق. والنص الذي نتعب عنده ونتوقف عن النقر يشكل النهاية. إنها سيرورة لا متناهية من التناسل النصي والإحالي المنبنية على لا نهائية القراءة ودائريتها. حيث تتوالى النصوص الدينمامية متداخلة، أو متشابكة.
إن الأمر داخل هذا الفضاء النصي يتعلق بتفاعل دينامي بين المخزون المعرفي المجزأ، والأحداث المتخيلة والحقيقية المشذرة والمتشظية والمرمية إلى قطع متناثرة تستقر في كل نص منفرد. مم يجعل حقيقة النص ومغزاه وجماليته تتوزع إلى جزئيات نصية/فضائية لا يمكن بلوغها، وسبر غورها، ومنحها تواجدا دائما ومستداما إلا إذا ارتبطت بغيرها من النصوص، ونشطت من قبل مبحر ذاق غواية النقر والتنقل، الوصل، والفصل. فكل نقرة تفعيل واستدعاء لجزء من ذاكرة النص، و محاولة للمضي بها في هذا الاتجاه أو ذاك. في هذا المسار أو غيره.
الدكتورة لبيبة خمار, ‏30 ديسمبر 201

ليست هناك تعليقات: