الأربعاء، نوفمبر 05، 2014

الواقع والمتخيل فى (قدم متسخ ) للشاعرة فردوس عبدالرحمن د محمد السيد اسماعيل









محمد السيد اسماعيل

الواقع والمتخيل فى (قدم متسخ )
للشاعرة فردوس عبدالرحمن د محمد السيد اسماعيل
******
الملاحظة الاساسية التى يمكن ان ننطلق منها فى تعاملنا مع هذا الديوان هى الوحدة الدلالية التى تشمل قصائده كلها بحيث تغدو أقرب الى الرحلة التى تبدأ – دون ترتيب تعاقبى – من ذكريات الماضى البعيد والتى تتمثل فى لحظة الميلاد واعوام الطفولة المبكرة وصولا الى حالة التوحد مع الآخر ومع الطريق بكل مايحمله من دلالات صوفية .هى اذن رحلة مجاهدة وصراع مع الحياة ومقاومة للاغتراب واطلاق لطاقات الروح فى مقابل سجن الجسد وعجزه .والحقيقة ان هذه الرحلة /الحركة هى رحلة متخيلة متوهمة لكن ذلك لايمنع اندفاعها وقوتها انعكاسا لرغبات الذات فى الخروج من أسر العجز وسجن المكان . من هذه الملاحظة يمكن تفسير شيوع مجموعة من الدوال اللغوية المعبرة عن هذه الرؤية التى تقترب من الرؤية الكابوسية للعالم : الباب – الدم –الريح –الحشرات –الرعب –الغربة –العظام –الفراغ .لكن العبرة –فى الشعر والادب عامة – ليست فى شيوع مجموعة من الدوال بل فى توظيفها داخل نسق جمالى يوجه معناها وايحاءاتها .وهذا ماتفعله الشاعرة بتميز واضح يؤكد موهبتها اللافتة . ويمكننا التوقف –على سبيل المثال – امام مفردة (الباب ) وهى دالة محورية ومشعة داخل الديوان فسوف نلاحظ انها لاتدل على بعدها المادى فحسب بل تحولت الى حاجز نفسى ومادى بين عالمين :عالم الداخل (البيت /العزلة ) وعالم الخارج المقبض الملىء بالدم والريح "واقفة عند الباب لحدق ولاارى حياتى /ربما تتريض فى الخارج مع آخرين /ينبغى ان اخرج الان /ولو كان دم يسيل "("قدم متسخ " فردوس عبدالرحمن ص9دار الادهم 2014) الباب –هنا – ليس علامة خروج الى العالم الفسيح المحرر للذات وليس علامة اللجوء الى الداخل الاليف الذى تجد فيه الذات ملاذها الاخير بعد ان اصبح داخلا طاردا للذات "ينبغى ان اخرج الان /ولو كان دم يسيل " واللافت ان الشاعرة تقوم بتشخيص حياتها الخاصة كما لو كانت كائنا منفصلا عنها فهى "لاترى " حياتها بل تتأملها او تتوقع حركتا المنفصلة عن ارادة الذات .فهل فعل الخروج والالحاح على ضرورته رغم الدماء والرياح هو سعى حثيث لملاقاة هذه الحياة .هل الباب –هنا يشبه الرحم الذى تخرج منه الشاعرة الى حياتها .هل الخروج هو المخاض الاليم الذى يصاحبه الدم والمعاناة ؟ بهذا المعنى يصبح الدم دم الولادة .دم حياة جديدة وهكذا تأخذ دالة الدم معناها الجديد او تحولها من التجمد /الاعاقة /الرعب الى التجدد /الحركة /الانفتاح على الحياة "تنبت الايدى والعيون والاقدام وكل مافيك اذا جرى دم / انا نفسى جلبت ابنتى الى الحياة عندما صار دم كثير " والحق ان دالة الدم نفسها دالة مشعة ذات ايحاءات مختلفة منذ اقترانها بدم الذبيحة /القربان ودم الشهيد ودم الولادة مايقربها من دلالة الماء على الخصوبة فى نهاية القصيدة "يعرق الكون فيفرح الناس والحيوانات والشجر /يعرق الكون فتصير بهجة على الارض وماء " تبدو الشاعرة وكأنها واقفة فى منتصف دائرة على مسافة واحدة من الذات والعالم ,من الداخل والخارج ,من الماضى والحاضر ,فهى فى البيت مجرد صورة على الجدار ,وفى الخارج ذات وحيدة مغتربة يمر بها الآخرون دون شعور بوجودها وفى حالة كهذه كان من المتوقع –طبقا لشعريات كثيرة سابقة – ان تلجأ الذات الى الماضى بوصفه الملاذ الاخير لكننا نجد نقيض ذلك حيث تتكرر صورة الخلاص من السنوات كمالو كانت خلاصا من عبء ثقيل يقيد حركة الذات "أحرك فمى لتسقط سنوات وأخرج خفيفة " (ص13)لا شىء فى الماضى يغرى الشاعرة باستعادته او الحنين اليه "وضعتنى امى روحا على سرير الولادة / ولم ترنى حتى ماتت /ركلت ثديها بقدم روحى /فارتعبت /وبمعاونة الاخرين وضعتنى فى حوض ثلجى "(ص39) هل يمكن تخيل هذه الصورة :ولادة الروح فقط ثم تركيب جسد لها عبر السنوات أو تركيب عظام للذاكرة لكى تستعيد هذه اللحظات البعيدة ؟الجسد فى هذا الديوان شىء مكتسب وليس ممنوحا او ملازما للروح "لم يفعلوا معى مافعلوه مع آخرين /لم يمنحونى جسدا /غطاء للروح التى ازرقت أطرافها من البرد "(ص41)وهى صورة يحكمها خيال بكر يقترب من السريالية حيث تتعامل الشاعرة مع الجسد كما لو كانت ترسم لوحة تشكيلية تجريدية تتبع حركة الاحساس والخيال الفنتازى "كانت يد تخرج من ضلعى /وقدمان تزحفان من رأسى / وقلب ربما وضعه فى ركبتى "(ص35).هذه الرؤية الغرائبية للذات – دون ان يمنع ذلك توافقها مع احساس الشاعرة – لابد ان تنعكس بدورها على رؤية الواقع فتتحول النهارات الى شىء مرعب ويصبح التداخل دائما بين السماء والارض والموت والحياة "هكذا تصبح السماء لقرب الى الارض والموت حميميا مع الحياة "(ص34)والبحر معادلا موضوعيا للموت "اهدأ ايها العالم اهدأ /وخذنى الى البحر كى نرى الغرقى /كل الذين ماتوا "(ص57)ويتحول الماء –الذى كان رمزا للخصوبة فى صورة سابقة – الى اداة للموت "الذين بلا اسماء ظنوا انفسهم ماء /لان مطرا كثيرا ضربهم اليوم /فعادوا الى البحر "(ص58) تلعب آلية التشابه على مستوى الازمنة والاماكن والكائنات دورها فى تأكيد تيمة المتاهة فكل شىء يشبه الاخر كل شىء فقد تميزه وخصوصيته ,السماء تصبح ارضا ,الارض تتحول الى فضاء ,ولافرق بين وقت وآخر "نحن فى كل الساعات /والايام التى مضت مازالت هنا "(46)الماضى فى الحاضر والحاضر بضعة من الماضى والكائنات واحدة "لاغرباء هنا /لاغرباء /الجميع أشباهى "(ص52)والاشياء كلها لحم حى يرافق الشاعرة فى مشوارها الطويل "عرفت ان التراب لحم والماء لحم والاحجار لحم /لحم حى يرافقنى "(47)وتتبادل الاشياء والذوات صفاتها فتتحرك الاشياء من تلقاء نفسها وتتشيأالذات فتتحول الى محطة قطار الى مكان برزخى بين الاقامة والرحيل من خلال ماسبق يمكن ان نعد التكرار –وهو ظاهرة لافتة فى الديوان – تعبيرا عن هذه المتاهة ونوعا من التشبث بالوجود فى الوقت نفسه وقد اتخذهذا التكرار انماطا متعددة فجاء على مستوى الكلمة والجملة الخبرية والجملة الانشائية كما كان داخل القصيدة الواحدة او داخل اكثر من قصيدة ومن ذلك تكرار جملة "ينبغى ان أخرج " ثلاث مرات فى القصيدة الاولى وجملة "لى من العمر مايكفى لاحكى الان" فى بدلية كل مقطع من قصيدة "بعد ان ركبت جسدا "وغير ذلك كما نلاحظ مايمكن تسميته تفتيت يقينية الجملة الخبرية من خلال استعمال كلمة "تقريبا " بوصفها جملة اعتراضية تكسر اطلاقية الجملة الخبرية المعبرة عن احدى ظواهر الطبيعة "كانت النجوم تسطع فى الليل والشمس تصحو –تقريبا – كل يوم "(ص36)ان هذه الجملة الاعتراضية هى التى تحقق شعرية هذا التعبير ,فلو افترضنا ان الشاعرة قالت "الشمس تصحو كل يوم " لظلت هذه العبارة – رغم مابها من استعارة – تقريرية لاجديد فيها .تلجأ الشاعرة فى بعض الاحيان الى تضمين بعض العبارات ومن ذلك تضمينها لقول المسيح الهى لم شبقتنى " للتعبير عن رغبتها فى بقاء جسدها دون ألم او شبق لكى تظل على مسافة بعيدة من الاخرين وفى قصيدة "بعد ان ركبت جسدا " تعتمدعل التفصيل /تقديم مراحل حياتها المختلفة ,والجمال /ايجازها لهذه المراحل فى اربعة سطور فى نهاية القصيدة .وفى نهاية الديوان تبدو الشاعرة وكأنها تصل الى قرارها الاخير او رؤيتها المريرة النهائية حين تتأكد ان العالم "كون وفراغ /حجارة ودم " وانه "ليس مكان فى آخر الطريق /وليس طريق " (ص104) وتصبح الذات هى الطريق ويصبح رفيقها الغائب الحاضر هو السائر فيه .واخيرا فان ماذكرته عن بعض ملامح هذا الديوان يدل على اننا امام موهبة لافتة ومتميزة سوف تجد مكانها اللائق فى الفترة القليلة القادمة "

ليست هناك تعليقات: