الأحد، يوليو 31، 2011

رمضان زمان ..... في مصر المحروسة

رمضان زمان



عن موقع / اسلام اون لان


بصوت مترع بالشجون يغني عبد المطلب.. صوت برائحة البخور والأزقة القديمة.. بنكهة العرقسوس والتمر هندي والبن المحوج.. بطعم ماء المزهر البارد من قلة فخارية تسكبها على دقنك وأنت تشرب فتهتف من أعماقك: الحمد لله.


بصوت يلخص مصر نفسها يغني تلك الأغنية التي صارت من معالم رمضان.


أهلا رمضان.....


فانوس ومذياع وزجاجات ملونة


زمان كنت أستقبله بالدهشة.. بعواطف مضخمة جامحة تناسب طفل الخامسة الذي كنته.. يشتري لي أبي فانوسا بهيجا بزجاج ملون وشمعة حمراء.. والشرفة المتسعة بحجم الكون بأسره يشاركني أشقائي الكبار فيها اللهو.. عتمة الغروب والدرب الخالي من البشر بعد الإفطار.. ونسائم الخريف الباردة والصمت السائد توطئة للموسيقى الأسطورية المميزة لألف ليلة وليلة.. وشهرزاد الحكايات تستهل الحكايات بالثناء على الملك السعيد ذي الرأي الرشيد.. ومن المذياع الضخم العتيق ترقص الصبايا الفاتنات.. ويبحر السندباد.. ويطير الرخ.. ويخرج الجن من القمقم المختوم بخاتم سليمان بعد آلاف السنين على يد صياد مسكون بالحلم، موعود بالحب والتبات والنبات.


تعد أمي طعام السحور وأنا أتبعها كظلها.. ترتدي ثوبا حريريا هفهافا بينما ألهو على البلاط الساقع بدحرجة زجاجة ملونة.. ينقطع التيار الكهربائي فتوقد شموعا ترسم ظلالا عملاقة على الحيطان ألاحظها بحس الأطفال المضخم.. ولا أدري كل مرة متى انزلقت إلى عالم النوم الساحر عالما أن أمي ستحملني إلى فراشي؟.


وغدا يوم جديد.


فول وعرقسوس وكرة قدم


ويا رمضان.. أصومك الآن لأني كبرت جدا.. عمري عشرة أعوام لو كنت تلاحظ هذا وهو شيء ليس هينا على الإطلاق حتى وإن كان أبي يزعم أنني مريض بالحمى ويجب أن أفطر.. القرص الأبيض أقاوم ابتلاعه فأنا صائم صائم.. وأبتلعه مرغما ومصمما على إكمال الصيام على الرغم من ذلك، فيدللني أبي بكلمته الشهيرة (يا حلوة باباها) التي كانت تجلب لي غيرة إخوتي.. أحب حنانه بقدر ما أضيق به خصوصا وأنا أعلم ما سيفعله: سيلف صدري بالجرائد.. تقريبا لا يوجد طريقة غيرها للشفاء من الكحة على ما أعتقد.. والعجيب أن هذه الحيلة لا تفشل أبدا.


رمضان مليء بالمسرات خصوصا وأبي يجيد صنع العرقسوس وصنية الفول باللحم المفروم.. الرائحة النفاذة تعذبني فأهرع للشرفة المتسعة لأركل الكرة بكل قوة منتشيا بمهارتي التي تضارع مهارة اللاعب الصاعد "زيزو".. هذه الركلة بالذات كانت بارعة جدا وإلا فلماذا سمعت كل هذا التصفيق وصيحات الإعجاب داخل رأسي أنا.


لم يزل صوت عبد المطلب يصافح أذني "أهلا رمضان" والشهر الفضيل يمضي مسرعا ككافة الأشياء الجميلة..


وتأتي بهجة العيد والفرحة المضخمة والأيام السعيدة.


طب وعشق وتبتل


يلتئم شمل الأسرة حول التلفزيون ووحدي أجلس في الشرفة أستمع لألحان فيروز التي تملأ شرائطها غرفتي... أشياء كثيرة تغيرت في طالب الطب العاشق.. ذلك الأرق الذي أكابده كل ليلة.. رائحة المنوم التي تفوح من كل كتبي.. الروايات الكثيرة المتناثرة والتي تفككت من كثرة القراءة.. قصاصات ورق كثيرة لأشعار كتبتها في المحاضرات لأتغلب على الملل.. تبا لهم، لماذا لا يدرسون لنا القلب بالتفصيل لنفهم كيف يستطيع كائن في حجم الكف أن يتسع لحب في حجم السماء؟.


الهاتف يدق باستمرار من الأصدقاء لنتواعد على لقاء كل ليلة وطرقات المدينة نذرعها حتى يدوي مدفع السحور، الحياة جميلة ومحيرة.. جدية في الاستذكار وتبتل في الصلاة في المسجد المواجه لبيتي مستمعا لصوت الإمام الرطيب في صلاة التراويح...


الليالي تتعاقب.. والعيد لم يعد له الفرحة القديمة؛ إذ إن الحياة جميلة وكل أيامنا أعياد..


نجار وسباك ومرمطون


منذ أن بدأت العمل كطبيب مقيم صارت أيامي سوداء.. استيقظ مبكرا للمرور على المرضى قبل أن تبدأ رذالات أعضاء هيئة التدريس.. القسم بالكامل يعتمد علي ومطلوب مني أن ألاطف سباك المستشفى ليصلح دورة المياه التي بسببها تلقيت (دوشا) من تقريع رئيس القسم.. هذا ضمن مهام الطبيب المقيم طبعا، ألا تعلم هذا؟..


والكهربائي؟ رئيس القسم طلب مني تركيب قابس جديد وإلا فالويل لي.. النجار الوغد لم ينته من صنع الدولاب الذي سنضع فيه المناظير.. وسوف يعتبرونني المسئول عن الإهمال والتسيب وحرب الهكسوس بل وحرب الخليج التي نشبت منذ أيام...


أعود محطما في الثالثة عصرا لكني أعجز عن النوم من جفاف حلقي والإجهاد الفظيع.. بمجرد الإفطار أهرع للمستشفى من جديد تاركا ليالي الحلمية وقلبي يتمزق.. سليم البدري يشاكس سليمان غانم.. وقمر السماحي محتارة.. أما علي البدري فحكايته مع زهرة حكاية!!


الحب لا مكان له في عالم من الإرهاق وقلة النوم والاكتئاب.. صوت عبد المطلب انطمس من عالمي حتى كأنه لم يكن.


الحياة مقرفة ولا أستطيع أن أزعم غير هذا.. أعدك أيها البالطو الأبيض -يا رمز العبودية- أني سأحرقك يوم تنتهي فترة طبيب مقيم وسأرقص حولك كالهنود الحمر.


حنين وأنين وجنون


من فضلكم لا تذكروني بمصر.. لست في قارة إفريقيا من الأساس فالسعودية التي أعمل بها لا تقع جغرافيا في قارة أخرى فحسب بل في مجرة أخرى.. أحن لمصر حنينا يهشم الضلوع ويخنق الروح.. ولو كان عندي سلطان على عفريت سليمان لقلتها فورا: ردني إلى بلادي..


الآن أكتشف كم أحب هذا البلد الذي كنت ألعنه وأريد الهروب منه.. أكتشف الآن كم أحن إلى العنبر المجاني ومريضاتي البائسات من أعماق الريف وتلك السحن الطيبة لعمال القسم.. كنت بحاجة أن أبتعد كي أرى.. كنت بحاجة إلى الصمت لأستمع إلى لغة الذكريات.. صوت عبد المطلب يتضخم في داخلي حتى لا أسمع سواه: رمضان جانا وفرحنا معاه.. جاءنا وجاء معه عبير مصر ورائحة الأيام الخوالي.. رائحة الغروب في رمضان والشارع الخالي والشرفة المتسعة والهواء الناعم الذي لا يكف عن تقبيلي..


وأفتقد أشياء كثيرة: صوت المؤذن وهو يرفع الأذان على الطريقة المصرية المغموسة في سماحة الريف المصري.. العمامة الأزهرية الوقورة على الرغم من كونها حمراء.. أشتاق لوجه أمي الطيب المبتسم، دنيا من الحنان الفطري والحب والاتزان.. أبي؟ البقية في حياتكم.. لن أسمع أبدا كلمة التدليل الحلوة إلا في رواق الذكريات.


أسمع صوت أمي عبر الهاتف.. ينسكب الصوت مغموسا بالمحبة.. لا شيء يبهجها كاتصالي بها، ولا تريد من الدنيا إلا أن تراني سعيدا.. تنتهي المكالمة فأبقى مليا أعتصر السماعة في يدي عاجزا عن الفعل والتنفس.. وبرغم ذلك أيها الشهر الفضيل أرجوك لا تنتهي بسرعة.. سيكون العيد مريرا حينما أقضيه وحدي.. ثلاثة أيام دون أن أحدث أحدا شيء لا أتحمله.


رصاص الذكريات


لماذا يا رمضان تظهر لي بوجه عابس مختلف؟..


سأصارحك بكل شيء ولتكن حكما فيما بيني وبينك.. أمي مريضة مرض الموت.. ثمة غصة في القلب وصرح هائل على وشك الانهيار.. فيما بعد سيحدث شيء لا يصدق.. ليلة وفاتها سأستيقظ في الصباح لأجد المسجد المقابل لبيتها قد تمت إزالته تماما في أثناء الليل.. ذهب الجامع في ليلة واحدة مثلما ذهبت أمي.


أمي تتظاهر بالجهل بطبيعة مرضها لكيلا يكون الفراق مؤثرا.. السيدة المهذبة التي أدهشت الكل بحسن أدبها توشك أن تغادر الحياة.. أعلم أن الموت حق وقد أدت رسالتها على خير والحياة رحلة ستنتهي اليوم أو غدا.. لكن ما حدث لأخي في رحابك مأساة مضاعفة.. كنت في المستشفى حينما تلقيت اتصالا هاتفيا بأنهم استيقظوا من النوم فوجدوه ملقى على الأرض في غيبوبة عميقة..


خلعت البالطو الأبيض في عجل ورحت أهبط الدرج لأجري في الطريق كالمجنون مقتحما السيارات المسرعة وفي داخلي شيء يعلم أنها النهاية..


تصور يا رمضان كم الذكريات المحزنة وأنا أحمله إلى المستشفى أمام عيون أمه الملتاعة.. صرخت: يا ولدي ثم تهدلت كزهرة خريفية.. بعد سبعة أيام صعدت روحه إلى بارئها وهبطت أنا في عتمة القبر درجة ولم أعد منه حتى الآن. ألقيت السلام على أبي المسجى في سلام عميق متصل منتظرا أن يناديني بالكلمة الحلوة لكنه -لا أدري لم؟- لم يفعل.


يعود جسدي إلى العالم الصاخب من أجل أمي التي فقدت ابنها المحبوب على حين غرة. أواسيها بالقبلات تارة وبالبكاء تارة.. وهي في صمتها الذاهل عن القبلات والبكاء..


لهذا تراني عاتبا عليك متسائلا عن معنى العيد؟.. هل مطلوب مني أن أفرح به يا رمضان؟


صباح الخير أيها الحزن


تأتي هذا العام وأنا في حال يرثى لها بصراحة.


ملابسي ممزقة.. حذائي ضائع.. دموعي حاضرة.. قلبي مثقوب برصاص الذكريات.. تكسرت النصال على النصال يا رمضان.


الشعر الأبيض ينتشر بسرعة مخيفة.. أصدقائي كل منهم في واد لكنني واثق أنهم سيمشون في جنازتي.


ليس لرمضان القديم أثر في وجداني سوى صوت عبد المطلب يصافحني "رمضان جانا".


أعرف أن رمضان جانا ولكن بوجه غير الوجه القديم.. لذلك لم أرد على رسائل التهنئة التي وصلتني.. كرهت الرسائل وكرهت التهنئة وكرهت نفسي..


والحل يا رمضان؟..


سأقضي وقتا أطول في الحدائق دون أن تكتسي روحي بسلام اللون الأخضر..


سأراقب العصافير دون أن تحلق روحي معها


سألتهم الكنافة دون أن أتذوق حلاوتها


سأحاول أن أجد سلام نفسي الضائع..


رمضان.. مشهور أنت بالكرم.. فاغمرني بكرمك في زمن أحتاجه أكثر من أي وقت مضى..


ما زال عبد المطلب ينشد بصوته الرخيم الخشن: "رمضان جانا وفرحنا معاه"


حقا جئت يا رمضان ولكن!!


أين الفرحة ؟؟.

ليست هناك تعليقات: