الخميس، يونيو 02، 2011

حوار مع سعيد الكفراوي الأحد, سعيد الكفراوي: رويت حكاية اعتقالي إلى نجيب محفوظ فكتب على إثرها «الكرنك» وقال لي أنت أحد أبطالها


عن موقع / الف ليلة وليلة


القاص المصري لـ «الشرق الاوسط» أنا واحد من أبناء ثورة يوليو البائسة بكل ما حققته من نجاحات وهزائم انتهت بنا إلى هذه الحالة من قلة القيمة
القاهرة: عبد النبي فرج


تبدو قصص الكاتب المصري سعيد الكفراوي وكأنها خيط مشدود دائما إلى عالمين، أحدهما قديم يكاد يندثر، والآخر ينهض من تحت ركامه، لكنه مثقل بالخوف والقلق.
وقد ترجمت أعمال الكفراوي للإنجليزية والفرنسية والألمانية، وينجز الآن روايته الأولى «بطرس الصياد» وله ثماني مجموعات قصصية هي: مدينة الموت الجميل، ستر العورة، مجرى العيون، سدرة المنتهى، بيت للعابرين، دوائر من حنين. وله قيد النشر «مثل امرأة مخبولة تهدهد طفلها الميت»، و«البغدادية». هنا حوار معه عن مفهومه للكتابة وتجربته القصصية:
* في ضوء تجربتك مع الكتابة، كيف تنظر مقولة نابوكوف «إنه يجب أن يقرأ العمل الأدبي في سبيل تقصي الأفكار والمواقف التي يعبر عنها الكاتب»؟
ـ من هذا الكاتب الذي يسعى عندما يمارس فعل الكتابة لتقصي فكرة؟! أنت لا تستطيع أبدًا أن تكتب كتابة جيدة عبر كتابات لأفكار جيدة.. كتابة الأدب شيء آخر. كان بورخيس العظيم يلغي فيما يكتبه الحاضر إلغاءً بطيئًا ومدركًا وكان ينزع لتجريد العالم، وكان يختصر التاريخ من أفكاره ويحوله إلى مجاز، أعتقد أن العمل الأدبي الجيد هو كوْن وحده، كون كونته ذاكرة أشبه بالمرآة تنعكس عليها الصور لكنها آخر المطاف ليست صورة الواقع، إنها حقيقة الوجود الفني في العالم المستحيل. الأفكار إعادة لترتيب حياتنا، لكن الإبداع اقتحام لجوهر هذه الحياة، للوصول إلى دلالاتها الكامنة.
* يمثل عالم القرية عند سعيد الكفراوي البراءة.. الحلم الأسطوري في مقابل المدينة العطب/ الزوال، كما يقول بعض النقاد. كيف تنظر إلى مثل هذه الأحكام؟
ـ من الذي قسم ما أكتبه إلى تلك المعادلة الرياضية.. مواجهة بين قرية مثل الفردوس، ومدينة مأساوية للأبالسة؟ إن أبشع القصص كتبتها عن القرية.. ذلك الرميم، وألم الحنين إلى زمن يضيع، والإحساس المرعب من الشيخوخة وختان البنات ولون الدم يغرق المشهد بالعار. إنه الإحساس بالزمن القروي الذي قال عنه يومًا د. شكري عياد «الزمن عند الكفراوي أشبه بالزمن البئر حيث تتقطر فيه تجارب الإنسان فلا فرق بين زمن في أقصى الأرض وزمن في قرية مصرية، لأن الزمن البئر هو مفهوم الفنان للحوار والحضارة». القرية لا تمثل بالنسبة لي حلما أسطوريًا، ابدا. هي مكان للميلاد.. مكان عشت به وما أزال. أدعى أنني أعرف بعض أسراره وطقوسه وأستطيع عبر الكتابة التعبير عن هذه الأسرار والطقوس. كما تعرف أنا مفتون بتلك المنطقة الغامضة من روح المصريين، منطقة معجونة بالسحر والخرافة وإدراك زمن يولي. تعيش قهر السادة، وتنام وعيونها مغلقة على حلم بالخلاص.
لقد كتب يومًا عن أعمالي ادوار الخراط دراسة مهمة قال فيها، بعيدا عن حسبة التقسيم «ان التواجه والتقابل بين النقائض من خصائص عمل سعيد الكفراوي، بين الريف والمدينة بلا شك». الكتابة آخر الامر هي عن عالم تحبه، وتكون صادقا في التعبير عنه تسعى بك دائما كما يقول بيسوا الى ذلك المشهد حيث الرؤية بمثابة حلم.
* من «مدينة الموت الجميل» إلى «دوائر من حنين» وما بينهما تبدو شخوصك وكأنها مطاردة بالموت الذي يجعلها تغرق في الحياة بشبق..
ـ الموت كحل نهائي لحقيقة الوجود الانساني لا ينتهي الى العدم أبدا في جوهر عقائد المصريين، الموت في جوهره النهائي متمم للحياة منذ ان اخترع المصري القديم عقائده، والا ما شيد هذه المقابر البهيجة، الضخمة ،التي اطلقنا نحن الاسلاف عليها اسم الاهرام. أعتقد أنني أحد الكتاب الذين يحملون داخلهم مقولة آرفبنج إ. زارتنسكي: «تعتبر مواجهة كل فرد منا لمسألة فنائه الشخصي ذات اهمية مركزية في حياته، ومن هنا يتكون لديه اتجاه أو نظرة شاملة نحو الحياة والموت كشكل وكيفية ومضمون سلوكنا اليومي». من الذي قال يوما نحن نولد فوق فوهة القبر؟ يشكلني هاجس الموت، ويتجلى يافعا قابضا على مجرى الامور في أٌغلب القصص. ثمة ينابيع لا تنتهي بداخلي تنبع من هناك، من ابدية غامضة. تكون وعيي الاول من تلك المشاهد التي اكتسبتها يوما عبر المشاهدة والاحساس. كنت وأنا بعد طفل اسائل جدتي: اين يذهب الناس بعد الموت؟ فكانت تجيبني: يذهبون حيث وجه الله الكريم. في قصة مأوى للطيبين عندما فتحوا باب القبر بعد عام على مثوى رجل طيب مات يرقد في وقاره، مكشوف الوجه فيما يكمن قرص من عسل ابيض في سقف المقبرة يطفح بالعسل عندما ضربه النور اصبح مثل سرسوب من البللور الذي يتساقط في فم الرجل الطيب الذي لم يصبه البلى أبدا. هكذا تكون الخاتمة جزءا من صيرورة لا تنتهي أن الانسيال في التعبير عن الموت كما تعرف هو محاولة من الكاتب لتفسير معنى الحياة باعتبارها كنزا على الانسان ان يعتز به، وعلينا ان نقدم مواساتنا لهذه الحياة العزيزة علينا كلما تناولنا معنى الموت فيما نكتبه من قصص.
* هل تتفق معي في أن بعض قصصك كأنها سرد تسجيلي وقائعي تم استحضارها لابراز الجانب الطقوسي، الاحتفالي في الريف من دون دلالة تذكر؟
ـ في قصة «في حضرة السيدة» يتجلى الطقس في مشهد ليالي مولد السيد البدوي. أهازيج، وأناشيد في ذكر النبي الحبيب ورقصات صوفية، ومكامن للوشم، وانجذاب للمريدين في طقس الليلة الصوفية، ثم تخرج السيدة البهية فتشق ثوبها في مواجهة كل تلك الطقوس. كيف يكون السرد الطقسي الواقعي هنا من دون دلالة؟ الطقس هنا تدفق تلقائي لتجسيد المشهد حيث تطفو المشاهد في سماء متعارضة لتعكس جو المكان والزمان وعادات الناس وتقاليدهم. أتصور أن الكتابة كما أعتقد لا تخضع لتصنيفات النقد الجاهز، ولكنها، كما اتصور، نفاذ لما في روح الواقع ونقيضه مؤكدة ان المكتوب والمسكوت عنه في هذا العالم المزدحم والكثيف افقا مفتوحا من آفاق التعرف على هذا الواقع ،حيث ينتقل به الكاتب الى مرتبة من مراتب الابداع الذي يسعى أن يكون جميلا على نحو من الانحاء، بعيدا عن الشعائر التي تثبت الواقع وتحوله الى وثن.
من يقدر ان يقول انها في آخر الامر دلالات لا تذكر؟ تلك الطقوس التي ظلت طوال تاريخ الفن هي المادة الاصيلة لخلق نص يعيش في ارواحنا لينير بداخلنا ويبدد تلك العتمة.
* دعنا نتحدث عن مكونات اخرى ساعدت في تكوين الكاتب بداخلك؟
- كما تعرف انا ابن واقع اعرفه، وعشت كل مباهجه وانكساراته، أنا أنتمى لقرية قديمة في المكان والزمان. عشت فيها اول الاسئلة التي لم استطع حتى الآن ان أجيب على واحد منها. أنا واحد من أبناء ثورة يوليو البائسة بكل ما حققته من نجاحات وهزائم فادحة انتهت بنا جميعا الى هذه الحالة من قلة القيمة. انا ابن هزيمة يونيو (حزيران) وابن سلطة القمع التي استبدلت نفسها بالأمة، وابن معتقلات السلطات العربية الرهيبة، وربيب زمن الانفتاح، وزمن هزيمة الآمال وتمزق الذات الجماعية. ابن التضاد الجارح بين الشعارات المجلجلة والتحققات المحدودة، ابن لسيادة الاعلام المقنن والموجه، وتضخيم الغيبيات بمقولات متوهجة عن الماضي، انا من رأى هجرة المصريين في قوافل عمالية غير مدربة يحصدون الاهانات من عرب وعجم. وانا ايضا ابن الثقافة الجديدة اتابعها بشكل يومي، وأرى ما تنجزه على مستوى العالم، اقرأ بجنون واعتبر نفسي الكاتب الوحيد في العالم الذي يعشق القراءة اكثر من الكتابة، وكلما نظرت لمكتبتي، لهذا الكم الهائل من الكتب التي سوف ارحل عن الدنيا بدون أن اقرأها أحزن كثيرا، انا ككاتب ابن لحروب عشرة اعلنها علي الآخر، بعد ان جرد شكله، حكام يعيشون بهرجة السلطة صباح مساء.
* دعنا نعود لملمح اصيل فيما تكتبه، واعني به الحلم، هل هو عندك ملاذ للهرب من قسوة الواقع أم حيلة فنية للهروب من المباشرة في القص؟
ـ لن تصدقني لو قلت لك ان الكثير من قصصي شاهدتها كاملة في الاحلام، «الجمل يا عبد المولى الجمل»، حلم حول كيفية مواجهة الخوف. اعتقد ان استخدام الحلم من حيل الكاتب للتعبير عن دواخل الروح.. دائما ما يجد الحلم في القصص معنى في الواقع، في الصحو عند الاستيقاظ تتجلى الاسطورة في متن الحلم، وعندما تنهض وتكتشف انها جاثمة هناك في الواقع تهتف لنفسك كما يهتف كل مصري: خير. اللهم اجعله خير.
في احدى امثولات بورخيس حلم أن رجلا اقترح على نفسه رسم العالم، وخلال سنوات من عمره اثث الفضاء والممالك والجبال والوديان والكواكب والخيول وقبل ان يقضي نحبه استيقظ من منامه واكتشف ان ما رآه في الحقيقة كان صورة لوجهه.
انا لا أهرب من الواقع للحلم، ولكنني استخدم الحلم للتعبير عن حلمي بواقع اخر هو الكتابة التي اسعى دائما اليها ولا اعرف ان كانت جيدة أو هي كتابة بائدة.
* الاسطورة متغلغلة في عالم سعيد الكفراوي القصصي ووصلت ذروتها في مجموعة «سدرة المنتهى» ثم انسحبت في آخر مجموعاتك «بيت للعابرين»؟
ـ كما تعرف لا يوجد شيء واضح في الحياة ولا في الكتب، ونحن عبر مجازات كثيرة، الاستعارة والكناية والتهكم، نحاول التعبير عن احوال الانسان. اشواقه وانكساراته، باعتبار تلك المجازات هي الطريق للاستفادة مما يمكث في تراثنا الشعبي والرسمي من اساطير. وازعم ان واقعنا اكثر غنى من الواقع اللاتيني عبر تناقضاته واحواله ومن ثم اساطيره وحكاياته، بل الكثير من أعمال بورخيس وايزابيل الليندي وغارسيا ماركيز تقوم على حكايات من تراثنا العربي، حتى دون كيخوته، رواية الروايات، تقوم على اسطورة كتبها عربي. وما حكايات «كرامات الاولياء»، والسنكسار القبطي، وألف ليلة وليلة، وحكايات الجدة وما سمعته وأنا صغير عن حكايات الحبر والكرامات وأولي العزم من أهل تحت الارض، الا مادة للابداع الانساني، وتحويل هذا الابداع ذاته الى اسطورة، وتجلياتها السحرية التي تتألف من موتيفات كلية وتتضمن حقائق أو معتقدات بشأن الحياة والموت، والخير والشر، كل تلك الامور مادة جيدة للكتابة.
* اللغة عندك تصل في بعض الاحيان الى مستوى الشعر، أما البناء فيبدو مثل المعمار الموسيقي المعقد وتجلى ذلك في قصتك المهمة «قصاص الاثر». حدثنا عن هذا الامر؟
* يقول ادوار الخراط ان اللغة هي سقف العالم وانا اتساءل أي لغة تلك التي تكون سقفا للعالم؟
هل اللغة بناء القص وبنية النص كما تبدو عند ادوار؟ أم هي وعاء لقص التراث واعادة انتاجه كما عند الغيطاني؟ أهي الاقتراب من حكي الناس عند خيري شلبي؟ أم تلك التي تحمل سحريتها وغموضها كما عند محمد عفيفي مطر؟
ـ انا لا يمكن أن استبدل كتابة الواقع واهجر لغة التعبير لكي يصفوني بالاخلاص والصدق لهذا الواقع، وبالتالي لا استطيع ان اكتب كما يتحدث الناس في الواقع.
اللغة هي كوني الخاص، وثمرة من ثمرات طفولتي التي تحمل مخاوفي الانسانية، وتحتشد احيانا بشعر الروح والاسطورة، وتزدحم بألسنة لا تسعى لإجابة، وبها حكمة من اقص عنهم القصص وما يحملونه في لغاتهم من الرمز والدلالة. وكل ما فعله «يحيى الطاهر» و«محمد مستجاب» هو معرفتهما بلغة اهل الصعيد واسراره، وانا مقيم في لغتي التي عرفني بها الاصدقاء ـ فلا قارئ هناك ـ وتحضرني هنا مقولة كافكا العظيم: «ماذا يمكن ان يجذبني لهذه الارض المهجورة سوى الرغبة في أن امكث هنا».
* ما حكاية تجربة اعتقالك في فترة عبد الناصر، وهل صحيح أن نجيب محفوظ تأثر بها في روايته «الكرنك»؟
ـ اعتقلت قبل ان يرحل الزعيم الاوحد بأيام اخذوني في تجريدة من الجند من مدينة المحلة الكبرى. كدت اضحك عندما شاهدتهم يقفون تحت البيت مدججين ومحتشدين شككت في نفسي يومها وظننت انني احد عتاة الارهابيين الذين سوف يقلبون النظام على رؤوس اصحابه بسبب نشري قصة في مجلة «سنابل»، التي كان يصدرها في ذلك الحين الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، عن مهرة لا ينزل الاخ الكبير عن ظهرها ابدا ، مصادرا حق اخيه الصغير في امتطائها. فسروها يومها ان الاخ الكبير هو عبد الناصر والصغير هو الشعب والتفسير تم بمنهجية كتابة نجيب محفوظ في تلك الحقبة، تلك الكتابة الرمزية التي تحيل كل الشخصيات والاحداث الى رموز سياسية. كانوا يحققون معي في الصباح باعتباري احد اعضاء التنظيمات الشيوعية التليدة، وفي المساء يحققون معي باعتباري احد قياديي الاخوان المسلمين، وخرجت من المعتقل الى مقهى ريش حيث ندوة نجيب محفوظ احمل متاعب على ظهري في حقيبة من ورق كرتون. وحين جاء استاذنا محفوظ انتحى بي جانبا مغادرا حلقة الادباء الشباب الذين اصبحوا الان عجائز يثيرون الرثاء والشفقة وطلب مني أن اقص عليه ما حدث بالصورة البطيئة بالتفاصيل المملة. بعدها اصدر رواية «الكرنك» وحين كنا نجلس على المقهى جاءني ووضع يده على كتفي وقال لي يا كفراوي انت في الرواية اسماعيل الشيخ.

ليست هناك تعليقات: