السبت، سبتمبر 11، 2010

قبل الليل بشارع الاصدار الرابع لايهاب خليفة ...قراءة نقدية لعبير سلامة


عبير سلامة
حملت المجموعة الشعرية الرابعة لإيهاب خليفة عنوان (قبل الليل بشارع) ، وهو تركيب غير مألوف لتحديد زمان فعل أو مكانه. سيبقى الفعل حتى النهاية مفقودا ، وسيبقى التركيب منعزلا خارج أفق القصائد نفسها ، لكن العلاقة الجديدة التي يقترحها توجه القارىء إلى منطق داخلي ينظم اندفاع اللقطات الشعرية.هناك ملاحظة تصديرية عن مكان وزمان واقعيين تمت فيهما كتابة القصائد ، لكن الواقع فيما بعد لا يحضر بذاته ، بل بتمثيلات مركبة تدين قسوته وحصاره للإنسان. لا توجد في المجموعة إحالات تاريخية أو أسطورية أو دينية. لا توجد تجربة متعينة أو خبرة صريحة يمكن اعتبارها دافعا شعريا. والمواقف السردية مختزلة غالبا في شذرات.الشفرة الممكنة لاختراق سطح المجموعة يحملها تركيب العنوان المبتكر ، "قبل الليل بشارع" ، تركيب يعكس علاقة الساكن(الزمان) بالمسكون(المكان) ، يجعل المادي المحسوس وحدة قياس للمعنى غير المحسوس إلا بآثاره ، ليقدم علاقة جديدة تتكشف تدريجيا في القصائد عن طرفين ، الأول مكان مجرد ، بالاختزل إلى وحدات أولية منعزلة ، كأن يختزل الوطن إلى شاطيء(هجرة مبكرة للغاية) ، يختزل البيت إلى غرفة(في بيتنا رجال غرباء) ، وتختزل الغرفة إلى نافذة أو جدار(نوافذ).الطرف الآخر في العلاقة الجديدة زمن مجسّد ، فالماضي ضرس معطوب يسبب ألما مزمنا.. الحاضر ضرس متهشم يئن بجواره.. والمستقبل فم متفجر(ضرس الماضي). الماضي غبار.. المستقبل غبار.. الحاضر "قطيع ليس ودودا كعادته".. المستقبل الحاضر "الآن" صرخة هائلة "لن تعطل شره الصائد ـ بل ستخدش بقوة ـ أمان القطيع"(فقدنا الثقة). الزمن في المجموعة هشّ ، سحنة ملونة "منصتة كخفاش ـ هائلة كالوداع"(لا شيء يمنع انهيارنا) ، جسد تشتبك خلفه اليدان استسلاما(خروج نهائي) ، يد تقص الريش(اللافعل) ، وشيء يسقط من الأيدي(جيوكندا الشرق).لا حيلة لإنسان إيهاب خليفة في هذه العلاقة بطرفيها(المكان المجرد والزمان المجسّد) ، الإنسان طرف خارجي غير مؤثر ، فعله مفقود ، وإنسانيته نفسها غير مؤكدة ، على وشك التحول إلى حيوانية أو شيئية ، قبل الليل بشارع.. ربما.الإنسان ، من جانب ، زبابة عمياء بلا أجنحة(ليوم واحد فقط) ، فأر مكتئب يُدهش واضعي المصائد(غير عابر) ، سلحفاة هاربة "باحثة عن حنان ما"(هجرة مبكرة للغاية) ، غزالة مطاردة(فقدنا الثقة). ومن جانب آخر ، الإنسان نافذة حالمة وجدران مشبوهة متهمة بالحلم(نوافذ) ، مصابيح مشوهة يصنعها أصم أبكم(لماذا يطاردنا صانع البلور) ، حذاء يحتضن فراغه ويبكي(حذاء يرثي سيدته التي غابت) ، "لون أعزل ـ في ورقة رسم ـ بلهاء"(كراسة رسم) ، صندوق انتخابات لا يعرف أحد لصالح مَنْ يعمل(المخلص دائما) ، أسد برونزي لا يستطيع محو الغبار عن رأسه(كوبري قصر النيل) ، نهر مجرد من كل نياشيته(عصيان مدني) ، وثقب أسود بداخلنا "يسحقنا نحن قبل أن يسحق ـ أي دخيل".أشرت من قبل إلى افتقاد المجموعة تجربة متعينة ، وصورة الإنسان فيها تفسر الافتقاد ، هذا الممزق العاجز عن لملمة ذاته لا يستطيع أن يخوض تجربة ، فالوعي والحواس شوارع مكدسة بمخلفات(مقشات) ، الجسد منشق طوليا من بين الفخذين حتى الرأس(الصدع) ، الأعضاء مفقودة(الذي نسي أعضاءه في الطريق) ، المشاعر رايات دول في حالة حداد(الأيدي المدلاة) ، الروح منطقة محظورة(لديه أسباب) بها أشواك ونتوءات(العدائي). وجود هذا الإنسان كله ظل عاجز بين ظلال(ظلال تسير بمفردها).التحول إذن منظور في أفق القصائد ، عبر مستويات جمالية مختلفة ، ويمكن النظر إليه باعتباره أنسنة لحيوانات وجمادات أو تشييء لإنسان ، تعبير عن كائنات وأشياء أو تعبير عن صور أخرى للذات ، وفي الحالين هي استعارة ممتدة لإدانة واقع ثقيل الوطأة تنعكس فيه العلاقة بين المكان والزمان.تمكن الشاعر من تركيب هذه الاستعارة بمفردات خيال جميل ولغة لا تلتفت إلى ذاتها ، تندفع بيسر وحيوية ، إلا في بعض المواضع ، مثل غموض ماهية الصوت المتكلم في قصيدة(ادفنوني في زهرة) ، غموض الموصوف بغير الملاءمة مع الحنان والزهرة والحنين في قصيدة(لا يتلاءم) ، اضطراب الصورة في قصيدة(معركة مع الغصن) حيث يوحي الصوت المتكلم بطائر يصف أمه بالبدانة ويشير إلى إرضاعها له وإلى ثديها ويديها، هناك أيضا الاستهلال: الجاف بـ"إنه مخوّخ" في قصيدة (ضرس الماضي) ، والتقريري بـ"زوجتي الحبيبة" في قصيدة(في بيتنا رجال غرباء) ، والاستهلال الثرثار بـ"أبحث عن غسالة ملابس ـ غسالة تغسل ملابس ـ كل الآدميين معا" في قصيدة(غسالة العالم). استطاعت المجموعة ، برغم هذه الارتباكات وما يشبهها ، أن تبرز تأثير الحالات التي تقدمها وصفاء نبرة الصوت المتكلم فيها. حالات تبدو انعكاسات متكسرة للحظات بسيطة عابرة ، لكن تحت السطح شوقا وإحباطا يعبران عن نوع من الخيرية غير الناضجة ، طيبة متأصلة تبدو وكأنها للمرة الأولى تختبر قسوة العالم ، فتعجزها الدهشة عن مقاومتها. وصوت محبط غالبا ، يصدر عن ذات مرتبكة مؤهلة للإنسحاب بلا ندم وبلا مبالاة مما تنسحب منه. تخفف إيهاب خليفة من الإحالة المباشرة للواقع والتفاصيل اليومية ، من الغنائية التقليدية ، ومن غواية التثاقف ، ليجسد حركة خيال نشط ، في مدار حالات إنسانية صافية ، فقدم مجموعة شعرية تستحق القراءة لذاتها ولاعتبارها خطوة واسعة باتجاه نضج موهبته. ناقدة مصرية

ليست هناك تعليقات: