السبت، سبتمبر 11، 2010

محمود الورداني يكتب عن رواية ميرال الطحاوي "هند".. الوحيدة حتي الارتجاف

تقول هند انها اختارت شارع فلات بوش في بروكلين ـ وهو أحد الاختيارات القليلة جدا المسموح بها لها ـ لأنه يصلح لها وهي تركض حاملة وحدتها, وعدة حقائب, وطفلا يتساند عليها كلما تعب من المشي, وعدة مخطوطات لحكايات لم تكتمل تضعها في حقيبة صغيرة علي ظهرها مع بقية الأوراق المهمة مثل:
شهادات الميلاد, أوراق الاقامة, وشهادات التخرج, وشهادة التطعيمات من الأمراض, وشهادات الخبرة وبعض أوراق بنكية, وعقد إيجار وقعته لشقة لم ترها.
هذا هو ما ذكرته ميرال الطحاوي في الصفحة الأولي من روايتها بروكلين هايتس الصادرة أخيرا عن دار مريت. هند.. الشخصية الرئيسية التي تمحورت حولها الرواية تقدم نفسها لقارئها عارية حتي الارتجاف, وحيدة باختيارها, لا تريد ولا تتمني ولا تطلب ولا ترغب, بل ولا تفعل شيئا في حقيقة الأمر سوي أن تكبح ما تشعر به بعنف, ولأنها لا تنتظر شيئا ولا تأمل في شيء, لذلك فإن لا شيء يحدث لهند.
من جانب آخر, تفصل بين نقرات الظباء روايتها السابقة و بروكلين هايتس سبع سنوات, توقفت خلالها الكاتبة, ربما لتتأمل هند, وتحتشد من أجلها, والحقيقة ان هند ـ في الرواية ـ تستحق ذلك, وأظن أنها ستبقي في ذاكرة الرواية العربية طويلا, كواحدة من زماننا, وبطلة من أيامنا, بكل خيباتها وأوهامها وإحباطاتها, وأظن أيضا أن تجربة ميرال الطحاوي في هذه الرواية تتميز بفرادة نادرة, ولا تنتمي الا لما كتبته من قبل, وفي الوقت نفسه تشكل بروكلين هايتس قفزة في أعمال الكاتبة.
اثنا عشر فصلا تضمها الرواية التي تدور أحداثها في بروكلين, لذلك أطلقت الكاتبة أسماء شوارع المنطقة التي عاشت فيها هند في بروكلين علي أغلب هذه الفصول. وثمة أكثر من مستوي لأحداث الرواية, فإلي جانب ما يجري لهند في منفاها الاختياري مع طفلها, تعود بسلاسة شديدة ـ بل بعذوبة في حقيقة الأمر ـ الي الماضي البعيد في قريتها وأهلها وناسها, كما تعود أيضا لماضيها الأقرب عشية وبعد زواجها.
وعلي الرغم من الحبكة التقليدية التي كان ممكنا أن تكبل الرواية, إلا أن الكاتبة نجت منها, وحولتها إلي مجرد حيلة فنية, لسردها المتدفق مثل نهر مندفع وسط الصخور. الحبكة هي ببساطة خيانة زوجية, أحست بها هند, وراحت تكذب نفسها, هل يخونها زوجها مع صديقاتها؟ وعندما تأكدت, لم تجد أمامها إلا حلا واحدا, أن تهرب من الدنيا مع طفلها, واختارت لمنفاها الاختياري المكان الأبعد والأكثر قسوة ووحشية, اختارت أمريكا لتعيش مع طفلها. تنتظره حتي ينتهي من المدرسة لتعود به الي البيت. قد تذهب الي وكالة غوث اللاجئين تجلس هناك كل أسبوع الي جانب نساء صغيرات, أو كبيرات مثلها, يأتين بحثا عن فرص للعمل وكوبونات للطعام, ومعاش أسبوعي شحيح, سيدات من بورما أو البوسنة, أو عراقيات في ملابس سوداء قاتمة وحزينة.
كرديات بيضاوات.. كثيرات منهن أفغانيات بوجوه حمراء متقدة
تسخر هند بقسوة من نفسها, تتأمل جسمها الذي فقد بهاءه وتفكك, تجز شعرها الأسود الكثيف للمرة الاولي في حياتها, ترتدي ملابس فضفاضة لتخفي ترهل جسدها الذي خانها, وتتعرض لغوايات جنسية عديدة, لكنها لا تستطيع المضي في الشوط الي نهايته. فـ سعيد القبطي المصري المهاجر سائق الليموزين, تتخيل أن هناك شيئا ما بينها وبينه, لكنها سرعان ما تكتشف أنه يسعي لهدايتها لطريق الرب, بينما تشارلي الستيني الذي تتدرب معه علي الرقص, وتفشل في تعلم الرقص, تهرب منه في اللحظة التي يتصور فيها أنه أحكم شباكه حولها! وزياد الشاب الفلسطيني الذي يصغرها, فسوف تكتشف بعد أن تقع في غرامه أنه لايريد منها سوي أن تتطوع للتمثيل في فيلم قصير يحكي قصة أسرة عربية في المهجر.
تتوالي احباطات وهزائم هند, يبلغها خبر موت صديقها الوحيد الذي أحبها فعلا, ويبتعد طفلها ـ نفسيا ـ عنها ويتخذ طريقه نحو أسلوب الحياة الامريكية, وهو الاسلوب الغائب عن هند, فكل من تصادفهم مهاجرون فقراء من أطراف العالم: افغان وبوسنيون وفلسطينيون ومكسيكيون وأفارقة وروس علي حافة الفقر شأنهم شأن هند. كتبت الطحاوي عن هند:
تنشعل طوال الصباح بإزالة الأوساخ عن الارض الملساء التي لها لون البطيخ الفاتح. تنحني قليلا من طاولة إلي أخري يبرز جذعها السفلي مكتنزا, كامرأة شرقية جلست طويلا وامتلأ حوضها وعوارضها بالسمنة التي تجذب البعض لإلقاء علامات الحبور, خصوصا إذا كن من النساء اللاتي يعبرن بصراحة عن امتنانهن لحركتها العنيفة في التنظيف.
تحفل بروكلين هايتس, بأكثر من مستوي من مستويات السرد, واللافت للنظر قدرة الكاتبة علي منح روايتها كل هذا القدر من التلقائية المحسوبة, وانتقالاتها الناعمة المدهشة بين الازمنة المختلفة. فعالم القرية والاسرة حاضر بكل قوته وطزاجته: الأب والأم والاشقاء والمدرسة والجيران والجدات, وفي الوقت نفسه فإن ماضيها القريب حاضر ايضا بكل قسوته وفظاظته. وبسطور قليلة جدا تكشف هند عن خيانة زوجها, كأنها تكبح نفسها مثلما تكبج مشاعرها وهواجسها ورغباتها طوال صفحات الرواية المكتنزة الكثيفة.
والحال أن القارئ لن يعرف هند بعد وصولها, بل هربها ومنفاها الاختياري في امريكا فحسب, بل سيعرفها جيدا طوال رحلتها من الطفولة الي الصبا والشباب. ولذلك فإن سرد الكاتبة يتم علي أكثر من مستوي, وعلي الرغم من أن لغة الرواية في هذه المستويات تنتمي للغة روايات الكاتبة السابقة( الخباء, الباذنجانة الزرقاء, نقرات الظباء), إلا أنها حققت ما يكاد يشكل قفزة نوعية في بروكلين هايتس, وإخلاص ميرال الطحاوي للشخصية التي اختارتها, قادها نحو هذه المستويات المتعددة في السرد. تلك الجهامة والتخلي بحسم عن الترهل والمجاز المجاني ومستويات الحوار المختلفة والسخرية السوداء هي من بين انجازات الطحاوي في عملها الأخير.
ولذلك فإن الكاتبة لم تنج فقط من ميلودراما خيانة الزوج في الرواية, بل الأهم انها وقفت علي الحافة تماما بين الصراخ والبكاء علي الاطلال ودموع الندم, وبين رسم ملامح العالم الداخلي لهند بكل هذه العذوبة والصدق ـ الفني ـ بطبيعة الحال.
نعم تكتب ميرال الطحاوي عن هزيمة هند وفشلها وخيباتها المتكررة. عن الموت والخيانة والفقدان وهواجس الحب. عن طعم الخيانة والغربة والوحدة والخوف والفقر والتهديد وعدم الأمان. ومع ذلك نجت من الوقوع في فخاخ الميلودراما والعاطفية الرخيصة.
من جانب آخر, تتجسد قدرة الكاتبة علي رسم ملامح عشرات الشخصيات في الرواية, من خلال سطور قليلة, من خلال الحذف والاستبعاد ثم المزيد من الاستبعاد. فشخصية ليليت المصرية التي تركت الدنيا وهربت, شأنها شأن هند, تتماهي مع الأخيرة, وعندما تقلب أوراقها تلك الاسرار التي خبأتها في القصاصات والخطابات والصور, في صناديق ملقاة علي رصيف الافنيو الرابع كانت ليليت مستباحة أمام المارة. تتأمل هند صور(عمر عزام) ـ ابن ليليت ـ الذي صار يملأ السمع والبصر. الصور التي كانوا يرسلونها اليها من القاهرة لتراقب نموه واختلاف ملامحه وهو بعيد عنها. خلف كل صورة تاريخها الخاص( القاهرة1975.. ماما وحشتيني ابنك عمر) يصيب هند هذا الدوار, وينز صدرها باللبن الذي يخجلها, لانها لم تعد تستطيع أن تبكي, فقط يتبلل صدرها باللبن كلما لفها الحنين تمسك صورة الطفل الذي صار في الصور مثل سن طفلها مبتسما راكضا.
وهكذا تقترب ليليت من التسعين وقد فقدت ذاكرتها, ثم تموت وحيدة في الغربة, فهل تلقي هند المصير نفسه ؟ كلتاها لها طفل, كلتاهما قررتا المنفي الاختياري, كلتاهما تملكان الفا خاصا يميز النفوس الحرة, فهل تلقي هند المصير نفسه ؟
وأخيرا, إذا كانت الكاتبة قد توقفت عن الكتابة سبع سنوات, فإنها عادت بـ بروكلين هايتس وأنجزت عملا فاتنا يخطف القلب والروح, ليس فقط بهذه الدرجة النادرة من الصدق الفني والاخلاص للكتابة, بل ايضا بسبب النجاة من كل الفخاخ المنصوبة حولها.
 المصدر/ موقع الف ليلة وليلة

ليست هناك تعليقات: