فوضى الحواس............قصة قصيرة
انزلق وجه النهار على عجل خلف الخناجر السوداء، وقد نزف قرص الشمس وتأبن في ستار الليل، حين امتد سريعا ليسرق الظلال..
سار موكب الجان مشيعا الوجوم وقد قشر الرؤى تلك القناديل المتدلية من صفحة السماء، لتحدق بالأخيلة الذائبة في غيمة الرمال..
تبكي بصمت والريح تعزف فزعة لحن الوداع...
حين اكتهلت مرآة القمر بيتا عتيقا وقد غشيه خيش سميك..
حينما سيق قرص الشمس إلى مقابر قد ارتحل ساكنوها...
ولكن تلك الأرواح المغلّقة عليها القوارير النحاسية بإحكام من رفضت أن ترقد بسلام ..
كان شرطها أن تنام بسلام..
دون أن تبلل أذهانها بلعاب الشهوات..
فقط أن ترقد بدفء في القوارير المملوءة بماء الحياة المقطوفة من قرص الشمس..
ولكنها لم تنم لم ترقد بسلام ..
أخذ ماؤها يتجمد وازكمتها رائحة الجيف ..
وما وراء الجدران المتشققة يتنزه عن الفطرة، ينغرس كأسافين في الوحل..
ربما نسوا وربما نسيت شيء ما قد أنساها؟؟
ربما ماؤها المتجمد حولها أو ما أصاخت لسمعه من قرع للطبول أو ذلك النور الذي خبا ساعة النهار؟؟
وقد ماتت عقارب الزمن مشحونة بفوضى الحواس..
حين يموت ناموس الوجود..ينتهي كل شيء..
أما هو فقد أٌقعي وكلبه تعبين يتصفد جبينهما عرقا في النهار، الذي تنوس عينه فلا يبصران المدى..
وكأنهما على قمة بركان كور نفسه على صاحبه، يمسد فراءه وقد أضجره الأنين خاو الجسد وقد فنيت المآكل وعروشها..
ما عادا يستشعران الشبع كذي قبل في الأحلام المتهادنة مع الصبر، ما عاد ذاك الثوب من نسيج الصبر يتسرب إلى ذلك الخواء وقد تصدع من رذاذ صقيع صيفهما..
ما عاد يدفئ الأوصال العارية تلك الأعجاز المتهاوية..
ما اخترم نفسيهما واقسما أنها الحقيقة.. تلك العارية التي يملئ نورها الليل، ويقسم أخرى أنه قد رآها متلحفة بردائها الأبيض..
وأخرى وقد امتطت فرسا مجنحا يرتقي وإياها أدراج السماء إلى ما تكاد أعناقهما تصبوان لدلوكه.. حتى تئن فترجع صدى إلى حيث يجثوان في المغارة الملتصقة بتلك الخناجر..
حيث لا تصل أجفانهما الهرمة إلى الأفق، وقد دغدغت الخيوط أهابها الغض أمام هيبة النور ضجت الضلوع بالحنين، لقد استطاع أن يصطاد القليل من الرذاذ الذهبي ويرقده تحت حفنة من التراب، لتتعامد أنواره هازئة من ألوان الكون الباهتة، كشجرة قد تساقطت قصصها المليئة بالأحلام..
لعله الهذيان الذي يحرق جذوره الموؤدة بقيعان ضحلة.. ما يجعله يشتهي الرغبة ثانية؟؟
أشفقته كانت على كلبه المقعي مجوفا كغصن يابس؟؟ فأين هي المؤن وأين هي الطرائد؟
لقد فرغت حقيبة زمانه فما عادت تخبئ في جوفها غيره العدم..وتلك القرية قطعت بزمجرتها كل الفرائض..
أيشاطر الشيطان أم يلتمس من جديد لقيمة من موائد اللئام؟؟
تكور على ذكرياته، قرصات عويل النهار والليل سواء، وذاته صوت السوط ينهب جسده ينز عن دماءه التي تقطر ساخنة ، تٌرجع إليه الرجفة مبتورة فلا وقت للآهات والسوط يمزقه..
أي أيام ترجعه أعجف ثانية غير كلها؟.. فقد دعكت قدماه ببئر الظلم..
أيان تراه ميعاد شربهم.. نجاستهم.. لا يكاد يجزم فالقرية رجز على رجز، فقد عاقرته وزنت وإياه واستحالت الفجور فضائل.. إنها الساعة ينزلق جسده في فوضى للحواس، هذي التي استشرت كالجذام.. كمنابت الشر.. يذكر يوم هرب كوميض يجعله متكورا على نفسه، متقلصا ليبتلعه خوفه.. وذاك الوفي يتلو خطاه الواسعة لا يضيع له أثرا كظله بدا..
أتراه يحتمي بمن لا أنياب له ولا مخالب؟ من منا منحته الطبيعة قوى أكثر إيلاما وضراوة ؟؟ يستجدي عطفا ببضع لقيمات.. هو لا يدري كيف نبتت الصداقة بينهما كبذرة انفلقت وشقت الأرض الصلدة!!
كان يحرسه في كوخه الحقير على أعتاب الحدائق الغناء لقصر اللئيم ذي الكرش..
أي معاهدة وثقت بينهما من غير شهود ليتقاسما أن يكونا على الحلوة والمرة؟؟ وما ذاق إلا أقساها، ذاك السوط الأسود لا يخطئه ولا يخطئ أذنيه وهو يتم العد لخمسة، لينهال عليه مقشرا جلده الرقيق..الجلدة تلو الجلدة تهوي تهوي بهذيان، وصوت ذاك الخف الرنان وقد تعلقت قطع الذهب على جنبيه يتضاحك.. أيسعدك أن تحترق أمامي كما الأمس..؟ فليلتهب جسدي بركانا وما أقاسيه بعد؟! وما بالها عيني تقطر بملوحة لاذعة تستفز تلك الأنفاق في جسدي الشمعي.. وكأنه السوط ذاته يفجر فيّ صمتي..
وتلك الأكياس المملوءة بالجواهر تتفاخر أمام كيسي العتيق.. أي شرخ بين الكبر والكبرياء بين الكره والحب؟؟ نطف نزعت منها الرحمة!؟ أم تعمدت بماء غيره ماء الطمأنينة ..
أن ترحم النفس النفس.. ذاك الشعور الذي تتشارك فيه كائنات الأرض على حد سواء أم تراها قد تبللت بأمواه قذرة واستحال طينها لزجا قميئا؟؟ حبلى تلك القرية بالشقاء ما عساه أن يفعل وكؤوسهم ملأى بالحبر الأحمر.. سكارى هم..
ها قد شخت يا قرية البؤس وقد آتت أرضك أكلها.. لما قلبه ينبض إذا حرقة؟؟ أهي تلك الكلمات الخمرة ما جعلته لا يراوح التفكير إلا في سبل العودة ؟؟
"أن الأرواح قد جعلت في قوارير نحاسية... تلك الأرواح موصدة عليها الأبواب وها نحن نتصدر السنين، لقد ملوا من تعاليمها ومن النبوءات.. ما يردونه بسيط المال والجواري والشراب المزيد من المجون.. لا شيء سوى هذا أبه كفر؟؟!
وتنطلق الضحكات كأفاع تلتهم ما تبقى من أنفاس وصوت من هناك يحاجج .."خرافات الأرواح.. ما بالهم والتعاليم وتراسيمها؟؟ والآلهة الطيبة لا تبني القصور.."
لقد تقاسموا إلا يضيعوا قولا أو فعلا وإن فعلوا فعليهم فلتتساقط الحجارة من السماء، ثم هاهم يتصيدون لهو الحياة، فقط تلك الروح العفنة، التي فرت لكنها فرت بلا رذاذ بلا ملحها الذي يمنحها القوة، فما تستطيع أن تكيل لهم بالصاع..
عندما مد بصره فوق أسياده خرَّ قلبه صريعا بين قدميه.. أعين القوم بدت بلا روح زجاجية وحسب وأيديهم متصلبة وتلك الأجساد يسمع لها الخوار.. وما جريرة البلاء إلا ابتلاء وقدره أن يهرول على أربع، إلى حيث يعيش دون عبودية دون رجس، أن يقتات كسرة الحياة والموت سواء..
تلك القمصان الملتصقة بجسده قد نزعها وما بها من محن مائعة فما له من صوامع ولا معابد يتبتل فيها في مهج غادرة مشحونة بأرياح عتيقة.. خربة تلك الديار..
ترهل كتفاه وانحنى رأسه من زحم أفكاره والمغارة مشرعة أبوابها للسحب الركام، إذا هي النهاية فلرحمة الله أترانا نصير؟؟
عندما اندلعت النيران في الأرواح وقد تجمد ماؤها، غادرت سجنها وباتت حرة اليوم فلا قضبان..هالها ما رأت فكان أجزل مما قد تصيخه سمعا.. أهكذا يكون العهد القديم والتعاليم والكتاب؟؟ فليحل العذاب والموت بهؤلاء لكل من داست قدماه هذي الرمال، فليحل الموت على من تهب عليه رائحته..
شيء ما جعله يرقد بسلام يغفو محتضنا كلبه وعلى محياه ابتسامة، شيء ما دخل جوفه الصائم وبل ريقه بدفء.. بلذة تثير الحواس تجعله يهيم في الأحلام المكتظة بالألوان.. إنه يكاد يقسم أنه ضمها إليه.. بل توغل نورها إلى جسده.. كان هذا ما تراءى إليه عندما استيقظ بعد حين على غير تلك الفوضى التي كانت فوضى للحواس ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق