نزيف
القلم أم نزيف الروح
قراءة
للمجموعة القصصية "نزيف" للكاتبة ابتسام الدمشاوى
بقلم
د / كمال عبد الرازق
كم أحاول
جاهدا أن أسكت مشاعر الإعجا ب بل الانبهار بكاتبة متميزة نالت إعجاب كثيرين ممن
قرأوا لها كما حصلت على جائزة جمعية
الكاتبات المصريات الأولى فى القصة القصيرة لسة2009 وهى جائزة مميزة لجمعية مميزة
ترأسها أديبتنا العظيمة الأستاذة فتحية العسال.
وابتسام الدمشاوى على المستوى الإنسانى تتمتع
بالخلق الرفيع والاتزان والصبر فهى مثلنا جميعا مرت بمراحل الحياة المختلفة ولكنها
حولت كل مشاعر الإحباط واليأس والخيابات والعذابات إلى أعمال إبداعية تقطر
عذوبة وحكمة وأملا فى مستقبل أفضل
عاشت ابتسام سنين طويلة تصهرها التجربة
الإنسانية وتصهر التجربة لتعمق داخلها أحاسيس ومشاعر نبيلة كالأمومة والشفقة
والحزن الشفيف على أحبائها الذين افتقدتهم
انكفأت على ذاتها سنين لتخرج لنا بتجربة
رائعة.....تخلصت سريعا من ذاتيتها بصدور مجموعتها الأولى واستعادت ثقتها بنفسها فى
المجموعة الثانية وراحت تبحث داخلها عن الأنثى الحقيقية واحتياجاتها الإنسانية ومن
ثم تعاطفت مع كل النساء لم تقف عند القضايا المكرورة والمستهلكة كقضايا المساواة
بين الرجل والمرأة أو حقوق المرأةأو...لقد شغلتها قضايا الإنسان فى كل
مكان:اغترابه عن ذاته...أو عن وطنه.....عدم تواصله مع الأشياء والعلااقات
....تمردت على كل ذلك لتعضنا وسط المشكلة
وفى بؤرة حدثها.
ابتسام الدمشاوى تقرأها وتحاول أن تفهم وحين
تطمئن إلى ما توصلت إليهمن نتيجة وترتاح نفسك...تكتشف أنك مخطئ فتعيد القراءة لتصل
إلى نتيجة كالسابقة أو مغايرة فهل هى
محيرة إلى هذا الحد..هل هى غامضة..؛لا ليست محيرة ولا غامضة بل..إنه الفن"كما
يقول ارنست فيشر"
الفن
الشفيف الذى يلمس شغاف القلب ونياطه ويداعب الفكر ويستفزه ويعبث با لمناطق
المظلمة
داخلنا .
ولعلك تعاود
القراءة حبا فى اللحظة نفسها لحظةالقراءة و استكناه المعانى وفك الشفرات والرموز.
وأول ما
جعلنى ادعى أو أزعم ذلك هو:
(العناوين):-
تأملوا
معى(التنكير)لأسماء القصص كلها فى المجموعة ما عدا قصة
واحدةهى"القائد"التى تصدرت
المجموعة....(مرايا-إرهاب_نزيف-صراع-لحظة-طفولة-قصة لم تكتمل-وجع-ميراث-اندفاع –عطش-جفاف......كما
يمكنكم ملاحظة ذلك فى كل أعمالها:
1-موعد مع
"أبو الهول" ( 15)
2-دفء
مغادر ( 16)
3-نزيف ( 21)
4-نظرة ثاقبة ( 15).
أما الغريب والجدير بالذكر أن معظم ما نشرته الكاتبة من
أعمالها أكثر من سبعين قصة قصيرة لايوجد بينها سوى (السترة-الدائرة) فى المجموعة
الأولى و(القائد) فى مجموعة نزيف
و(السيسبان)فى مجموعة نظرة ثاقبة.
وباقى القصص جاءت نكرة أعنى-العناوين-وان كان هناك قصص
جاءت معرفة بالاضافة
وهذه الملاحظة وان كانت شكلية إلا أن لها دلالتها فلقد
تعلمنا فى درس البلاغة أن التنكير غالبا ما يفيد العموم والشمول فإذا قلنا
"النزيف"فهى بالقطع غير قولنا"نزيف"فهى هنا تعطينا دائرة أوسع
بلا تحديد.
ولعل الكاتبة سعت إلى تلك الحيلة اللغوية والتقنية الأسلوبية
لكى تتوارى خلف العموم مما سبب شيوع تكثيف الإيحاء فى العمل الفنى.
أما عن القصة الوحيدة المعرفة بأل فى المجموعة فنراها
تصدرت المجموعة وهذا فيما أظن يعكس رغبة حقيقية ودافعا قويا فى تحديد الشخصية أ
وحتى كونها رمزا للسيطرة والقهر أو حتى رمزا لجهلنا وعشقنا للأصنام التى ورثناها
عن آبائنا وأجدادنا والتابوهات الجاهزة.
(فالقائد) ليس رمزا للقبح والفساد الذى يعج به الواقع
فحسب بل هو رمز لحقيقة أكيدة هى استسلامنا ويأسنا من الواقع وفقد القدرة على
التغيير أو التثوير.
كما ان القائد هو أيضا فكرة قد تسيطر علينا سنين طويلة
ونحن أمامها عاجزين خنوعين وليس لدينا القدرة والاستعداد لتغييرها مهما قرعت
الأجراس منذرة بالخطر القادم منها.
وتأتى القصة الثانية مباشرة(ابن فلة) معرّفة بالإضافة
وكما يقول النحاة أنها أقل مرتبة من المعرف بأل فى درجة التعريف ولكنه معرفة وليس نكرة
حتى بالنسبة لها وقد يكون على المستوى الشخصى كما كان القائد.....أعنى أنها تجربة
حياة.
-
لقد فاجأتنا ابتسام بعمل فنى مهم وناضج إلى حد بعيد مزجت فيه التجارب
الذاتية بالموروث الشعبى بالتراث الحكمى كما هو واضح فى قصة "صراع"من استلهام
كليلة ودمنة حيث الصراع بين الأسد والحية بما يوحيان من رمز أسطورى قديم ذلك كله
جاء بمزج دقبق شفيف موحى
-
والجدير بالذكر أننا نلاحظ أن القصة عندها تميل إلى الإيحاء والرمز
والتكثيف فيمكنك قراءة القصة والوقوف عند حد الحكى أو السرد فإذا ما عاودت القراءة
تكتشف المستوى الثانى أو قد يكون المستوى الثالث للعمل الفنى وهذا ما دفعنى للقول
بأنها مجموعة ناضجة ولكنك فى كل الأحوال لن يخفى عليك الجانب الإنسانى الشفيف فى
كل أعمالها.
-
كما أننى أزعم إنها تدين الإنسان إذا فقد إنسانيته وتجرد منها كما
بالضرورة تقف معه وتسانده وتحبه بل تبكى عند قدميه إذا سلبت منه أو أهين كما فى
قصص(ابن فلة-شتات-أم محمد زينب-طفولة-وجع-جفاف-عقم).
-
ثم نراها تتخلى عن ذلك كله إذا لزم الأمر-أعنى
إذا دعتها ضرورة العمل الفنى كما فى قصة(نزيف-إرهاب).فكان يمكن أن نستشعر الإرهاب
والقهر والعنف ولكن الإرهاب لايحتاج إاى إيحاء بل يحتاج لمواجهة وإدانة مباشرة
فأطلقت الجنود والقنابل والدبابات وها هى
الأحجار تتقافز... ومن ثم تتعالى الصرخات وتكون المفاجأة لنا وللقارى فالمستغيث
هنا هو العدو حيث يجرى مستغيثا ابن ال...الارهابى قتلنى (ص20)
-
ثم انتقلت إلى إدانة جديدة من نوع خاص ولكنها
متكررة نراها كل لحظة فى المرأة المصرية..الأم التى تضحى بكل شئ ولا تنتظر شيئا
كما هو الحال فى(أم محمد زينب) والتى لم تتورع عن تزويج زوجها لامرأة أخيها
المتوفى بل وتنفق عليهما وتبيع أثاث بيتها لتشترى لهما الجديد ثم تأخذ طفلهما لتربيه. إنها العطاء غير
المحدود..إنها الأنثى الحقيقية والأم المصرية.
-
وفى قصة (دولاب أمى) لايخفى علينا الرمز حينما يضيع المرء بين ماضيه
وحاضره ويجرى وراء أوهام لا تحقق طموحه وأحلامه وحينما ينهزم أو ينسحق يرتد إلى
الماضى يجترّه ولكن هيهات فلقد ضاع وتناثر الماضى كماء بين الأصابع.
-
وهناك تيمة أخرى هى الأكثر بروزا فى مجمل
أعمال المبدعة ابتسام الدمشاوى وهى "توظيف الزمن"توظيفا دراميا حيث
يتحول فى بعض القصص لأحد طرفى الصراع بل لا أبالغ إن قلت الفاعل فى الحدث الدرامى
كما فى قصة"عقم" و"ميراث" و"دولاب أمى"
و"نزيف".
أما عن اللغة فى المجموعة فلقد مالت إلى الاختصار
والتكثيف لدرجة أنك لا يمكنك أن تستغنى عن لفظة منها. إننا يمكننا أن نعد مفردات
القصةعلى أصابع اليد .....وعلى الرغم من هذا
لم يضر ذلك بالبناء الفنى للقصة..بل أكاد أقول أنه أحسن إليها حيث جاءت كل مفردة فى
مكانها ...ولنا أن ننظرفى معظم قصص المجموعة لنرى هذا الملحظ
(شتات-عطش-جفاف-تأبين) كما أنها فى أحوال أخرى مالت للجملة الحوارية..أقول الحوار
بالمعنى المطلق للكلمة سواء أكان باللغة أم بالصمت كما فى (جفاف-وجع).
أما الأمر
الذى يمكن أن يؤخذ على الكاتبة فهو ميلها الشديد إلى استخدام ضمير المتكلم فى معظم
قصص المجموعة...الأمر الذى يوحى باستتار الكاتبة خلف شخصياتها تتحدث بضمير المتكلم
بدلا عنهم ..أو قد يوحى بأنها تدفعهم للفعل.
صحيح أن هناك قصص قامت فيها الكاتبة بدور الراوى..وأنا
لاأفرض أسلوبا بعينه على المبدع ولكن كل الهدف هو ترك الشخصية تنمو بعيدا عن
كاتبها وعدم تدخل الكاتب فى سير الأحداث ليعلق أو يرشد أويعلم.
وأخيرا أرى
أن أهم ملحظ فى هذه المجموعة الثرية كون الكاتبة أنثى ولكنها واعية بذلك فلم تتعصب
لأنوثتها ولم تشغلها قضايا المرأة التى أزعجتنا بها وسائل الإعلام بل إنها ترى
إنها إنسان تشغله قضايا الإنسانية فلا فرق هنا بينها وبين الرجل اللهم إلا فى
القصص التى يكون البطل فيها امرأة..أم..أخت..حبيبة.
وهكذا فإنها
كاتبة واعية مثقفة سخّرت كل ثقافتها وخبراتها الحياتية والإنسانية لإخراج أعمال
قصصية تذوب رقة أحيانا وحزنا جميلا أحيانا..وثورة غاضبة صارخة فى وجه الكون كله
أشبه بالصرخات الوجودية.
ولا أستطيع أن
أنهى مقالتى دون أن أتعرض للإهداء الذى تصدر المجموعة وما به ون إيحاء ودلالة
شفافة(إليك يا من تضرب بعصاك الحجر فتتفجر منه ينابيع الكلمات) هل ترون معىأنه يتسم أيضا بالعموم والشمول ككل
عناوين قصصها.
أتمنى للكاتبة المزيد من الإبداع والتوفيق.
د/كمال
عبد الرازق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق