الخميس، يناير 29، 2015

المركز الثاني : قصة " ألسنة من لهب " ، للقاصة / غادة هيكل

        


ألسنة من لهب 
غادة هيكل     مصر
هناك من البشر من تكون ألسنتهم من شرر كلما تطاير أحرق، وهناك من تلتهب ألسنتهم من مجرد إشارة تعكر مزاجهم الصباحى، وهناك من تصير ألسنتهم لهباً يلسع ولا يحرق فهو كالناصح المذكر، وغيرها السنتهم من لهب هادئ لا تتوهج مع مر الريح، وبعضها عندما يلتهب يضئ الكون من حولك بالنور.
الصوت الانسانى هو هبة من الله حبا بها الإنسان كى يعبر عن نفسه وعما يحيط به، أو كى يعبر عن غيره، أو يتواصل مع غيره، ومن أجمل النعم التى حبا بها اللسان هى حلو الكلام، ويصل حلو الكلام إلى ذروته عندما يتمكن العشق من القلب ويبدأ فى إرسال إشاراته لهذا اللسان فينطلق بالسنة اللهب التى تشعل الجسد من فرط العشق ويحدث التماهى المطلوب بين المحبين.
ولكن عندما تنعدم تلك الهبة الجميلة من اللسان لأن من ينبغى التواصل معه قد أصابه الخرس ولم يعد ينطلق لسانه إلاّ بشرارات اللهب التى تؤلم حد الحرق هنا فقط لابد أن تبحث عن وسيلة أخرى تتواصل بها مع روحها التى انغلقت بفعل بفاعل، وأن تترك العنان للسانها أن يبيح بشكل مختلف، بشكل سري، وسري جدا.
الأيدي.. العين.. المسام..  كلها لغات تواصل، وهى تملك تلك الأدوات جيدا، جسد مكتمل الأنوثة، عيون حوراء تنطلق سهامها فتدير الرؤوس، كل مسام جسدها مولعة بتقديم نفسها، الرسم، الكتابة، الرقص، ثلاث لغات للتواصل استخدمت فيها الجسد بشكل كامل، وحددت ما تريد منها، إنها رسالة صماء تتحدث بكل اللغات، هذا القمقم الذى حبسها فيه بكل جبروته وصلفه،لم يمنع عنها الهواء ولا الموسيقى ولا أن ترى الشمس وهى تطلق أشعتها وتبعث لها الدفء، مع بعض التكنولوجيا الحديثة التى ساعدتها على ارتقاء روحها خارج إطار الجدران، الفرشاة والألوان، اسطوانة الموسيقى، القلم والأوراق، وباب خلفى.
عندما طالت فترة الصمت بينهما، اختارت حجرة بعيدة فى آخر الرواق المزين بصور الحيوانات، والتى تطل على الشارع من الجهة الاخرى البعيدة، والتى أيضا شباكها يطل على تلك الدار البسيطة التى لا ينطفئ نورها ليلا اونهارا، والتى بالمصادفة كان لها باب للخروج لا يعرفه أحد.
ظن أنها لا تريد حياته الزوجية، وأن عقلها الصغير لا يتحمل مسؤوليات الحياة المدنية بكل متطلباتها، لأنها تلك المرأة الصغيرة الفقيرة الإمكانيات، بينما هى رأت أن حياته جامدة متعجرفة، صماء لا روح فيها ولا ارتياح، كالحمار الذى اعتاد صاحبه أن يحمله من مكان لآخر دون أن يتعب نفسه فى توجيهه فقد اعتاد الحمار الطريق،واعتاد هو على الحمار الذى يركبه، أما هى فكان عقلها ينتشى يوميا بعقول أخرى تستقى منها تجربتها وترسمها فوق الاوراق كلمات أو ألواناً أو حتى موسيقى تطلقها داخل الروح الحيرى.
على كل، فقد اتخذ كل منهما طريقه، هو فى أول القصر وهى فى آخره ، هو انتقى له خليلة تلاقت أرواحهما، وهى سارت فى درب بابها الخلفي، أمسكت ريشتها وبدأت ترسم هذا الفراغ الممتد حتى ظل الباب الآخر الذى يبعد عنها مجردأمتار يفصل بينهما أخدود صغير للماء العذب، ثم رسمت الباب الدائرى الكبير الذى يحدث أزيزاً كلما فُتح لدرجة أنها تسمعه من مكانها، وفوقه هذا الرسم الكبير لهيئة الاسد وكأنه تجسم فوق الباب، ثم توقفت لا تدرى ما ترسمه بعد، فهناك خلف الباب حياة لا تدرى عنها شيئا سوى ألسنة من لهب يتصاعد دخانها ليلا وفى بعض ساعات النهار.
كان عليها لكى تكمل رسمها أن تعرف ما يدور خلف هذا الباب، وما عليها سوى أن تفتح بابها الخلفي وتدلف إلى الشارع وتعبر الأخدود لتصل إلى الباب الآخر، دفعها الفضول بعد طول تفكير وفتحت بابها برفق، ثم قطعت الشارع بسرعة وعبرت الأخدود فى قفزة واحدة ووقفت أمام الباب.
اليوم فى آخره والشمس لوحت لها وغربت، فزعت من رؤية هذا الأسد فوق الباب الذى يقف بكل كبريائه، وأصدرت صوتا جعل من بالداخل يهرعون إلى الخارج ، كادت تقع فى أخدود الماء لولا تلك اليد التى سحبتها وارتمت بين أحضانها، وبعد برهة جاء الصوت يقول لها مرحبا، ففطنت إلى وقفتها واعتدلت وسحبت نفسها من تلك الذراع القوية ونظرت إلى الأرض خجلة، ولكن تورد خديها وبراءة محياها جعلا القلوب تُفتح لها وتجذبها للدخول إلى عالم المجهول الذى تود معرفته.
خلف الباب عالم من البساطة التى لم ترها من قبل، أرضية خشبية تحدث أزيزا عندما تسير عليها،اعتادوا على موسيقاها، بُسط مفروشة بعناية ووسائد مزركشة، فى أعلى البيت قبة يتخللها فتحة ينطلق منها دخان الموقد المشتعل دائما، بأطايب الطعام المشوى من جراء الصيد، لعله هذا مفتول العضلات هو من يصطاد من الغابة القريبة من السكن والتى تلوح لى أشجارها العالية من بعيد، ولكن كيف لا يهاب الدخول فيها وقد رويت عنها الاساطير التي ترهب العقل والقلب،تدور الاسئلة في عقلها وتدور بها الدنيا وهى تتلفت حولها لترى معالم رسمتها القادمة، وكأن العالم من حولها قد انحصر فى قصرها وهذه التحفة الفنية التى تبغى التعرف عليها وهى مثل سندريلا عليها العودة قبل اكتمال القمر فى الأفق وقبل أن تصل الساعة لمنتصف الليل، أى قبل أن يبتعد عن سيدها رفاقه ويصير وحيدا بالليل فقد يأتيه هاتف يجعله يبحث عنها، أمامها بضع ساعات تقضيها فى هذه القطعة الفنية تنتقل من السقف الجريدى المرصوص بعناية فائقة وانتهاءً بتلك الباحة التي تراها يعبث فيها الصغار مع حيواناتهم الأليفة، ثم تدور بعيونها حول هذا الواقف الممتد من السقف وحتى الأرض كلما علا نظرها استطال حتى عجز بؤبؤها عن الوصول إليه ، ولكن كيف ترسم بريشتها هذه العجوز التى لم تبارح مكانها إلاّ بعيونها الحادة التيفحصتها من شعر رأسها حتى أخمص قدميها، ثم أشارت لهذا العملاق فقدم لي بعض الحساء من القدر الموضوع فوق النار، ما أطيبه، كانت أولى كلماتها التى فغرت الأفواه لها، ثم أعقبت السيدة الوقور التى تقف دائما فى الخلف، يا له من صوت عذب لو سكن هذا الصوت هنا لتحول هذا السرك إلى قصر له نظام وأتيكيت ، صدمتنى تلك المقولة عن القصر والأتيكيت وهمست لنفسي، لو يبادلوني القصر بهذا الفن، توجهوا لى بأسئلة عدة، الفضول الذى حاصرونى به منعنى من النطق، اكتفيتُ بهذا القدر من اللوحة واعتذرت عن البقاء مطولا، ودّعونى على أمل اللقاء مرة أخرى، وودعتهم على أمل أن يكون لريشتى مخبأ فى هذا السرك المفعم بالحياة، خرجت مسرعة، غبت فى الظلام الحالك متجهة نحو الباب الخلفى للوحة، على أطراف أصابعي ممسكة بريشتي، نقلت السيرك إلى حجرتى الفضفاضة، أتى كروان وغرد فوق الشجرة العجوز التى تحيط القصر،  وكأن الحياة دبت فيه من جديد بعيدا عن ألسنة اللهب التى خمدت تلك الليلة بعد معاقرة الخمر لها.

ليست هناك تعليقات: