الشاعر / حازم حسين |
بقلم
الشاعر / حازم حسين
ربما في الظروف والسياقات الاستثنائية , غير المنطقية , لا يصح أن نناقش الأمور على ما عهدنا في أوقات الخمول والدّعة , ونحن إزاء واقع موّار ومتداخل منذ انطلاقة الشرارة الأولى لمقدمات الثورة الشعبية في الخامس والعشرين من يناير 2011 , خبا الجمر تحت الرماد منذ البداية , واستغلقت علينا الصراعات الأيديولوجية , والانحيازات السياسية والثقافية والاجتماعية والشخصانية أيضاً , تحولت مفردات الواقع المصري ــ في أطرها المادية والمعنوية ــ إلى ساحات صراع ونزاع , وأراض محتملة لبسط النفوذ واختبار مواطن القوة والضعف لدى كافة الأطراف , وبناء على ديناميكيات هذا الصراع ــ الذي لم يكن واضحاً لبعض أطرافه ــ تم عقد الصفقات وتدبيج السيناريوهات وتشطيب الواجهة الجديدة لبُنى وهياكل النظام الذي خرج الثوار عليه وطالبت الثورة بنقض أسسه ودعائمه , وبالمنطق الطبيعي وكما تبدّى في ساحات العمل السياسي والثوري , كانت الثقافة بالمعنى المتخصص حاضرة وبقوة , وكان المثقفون روافع سياسية وثورية مؤثرة خلال مساري النقض والتأسيس , وإلى جانب أهمية هذا الجانب لمن يريد إحكام سيطرته على المجال العام , لا يغيب عن المستكشف الواعي أن بعض الصاعدين واللاعبين الجدد في الساحة المصرية , يتكئون على خلفيات عقدية وسياسية وتاريخية , ربما لا تحفل كثيراً بهوية مصر ولا بمركزيتها الوطنية واستقلالها الجغرافي والحضاري , والثقافة ــ بالمعنى الأنثروبولوجي العام ــ هي شفرة التحكم في وجه المجتمع وهويته , ولهذا كان طبيعياً ومنتظراً منذ البداية أن يأتي أحد أبناء اليمين المتطرف ــ بالانتماء العضوي المباشر أو بالتبعية الذهنية والوظيفية ــ على صهوة النظام الجديد , ليحتل موقع الرأس التنفيذي الأعلى للمؤسسة الثقافية الرسمية , وربما كان الموقع الجغرافي للوزارة ــ المبنى والمقر ــ بشارع شجرة الدر بحي الزمالك يحمل بعداً رمزياً كبيراً يمكننا أن نستوضح عبره المُشكِلَ , ونفضَّ غلالة المبهم منذ فاروق حسني وحتى علاء عبد العزيز , آخر الموعودين بالموقع التنفيذي الأهم في مصر ــ من وجهة نظري على الأقل ــ الموقع الذي يفوق حسب ما أرى دور رأس الدولة أهمية ومكانة ووجاهة وتأثيراً حياً ومباشراً , فشجرة الدرّ أو بالأحرى " شجر الدرّ " كانت نقطة فصل ومحور ارتكاز وتحوّل كبيرين في سياق الأمة المصرية , كانت آخر انجازات الدولة الأيوبية , وأوَّل سوءات الدولة المملوكية , دولة العبيد والخصيان والطواشي الذين اشتراهم المصريون بأموالهم لينكِّلوا بهم وبتاريخهم ودولتهم , وبأموالهم أيضاً ,
ربما يمكننا بقليل من التغاضي عن السياقات المصاحبة لعملية صعود وتمكين أحد فصائل اليمين المتطرف من الحكم , ان نقبل فكرة استحقاق النظام ــ دون وصاية أو مصادرة ــ أن يستقدم رجاله الذين يثق قدرتهم على فهم مشروعه وتحقيق خططه , ولكن طبيعة السياق المركب , والظرف التاريخي الاستثنائي يقتضيان في كل الأحوال تغيير سوابق العمل التي اعتمدها الأسبقون الساقطون بثورة شعبية , والانتصار لمعايير وآليات اختيار وعمل جديدة , يكون في القلب منها وقبل كل شئ وانتماء , فكرة الجدارة والكفاءة , وهو ما جانب بشكل كبير اختيار النظام الحاكم للدكتور علاء عبد العزيز لموقع وزير الثقافة في حكومة هشام قنديل , عبر التعديل الأخير الذي دخل عليها كمحاولة تجميلية لإسباغ ملامح مغايرة على وجه متغضن , أو ضخ دم جديد في عروق متصلبة , أثبتت طيلة شهور أنها لا تملك رؤية حقيقية ولا آلية عمل جادة , وأنها فاشلة وغير كفؤة في أفضل التصورات حسنة الظن , ومن ذات المنطق أتى عبد العزيز , مدرس المونتاج بالمعهد العالي للسينما بأكاديمية الفنون , وهو أمام سؤال الجدارة والكفاءة ربما لن تشفع له المعلومات القليلة المتوفرة عنه , كرجل في بداية العقد السادس من عمره , تخرج في المعهد العالي للسينما منذ ثمانية وعشرين عاماً ولكنه حصل على شهادة الماجستير منذ أحد عشر عاماً , ونال الدكتوراة منذ خمسة أعوامٍ فقط , ومازال مدرساً , لم ينل بعد درجة الأستاذية أو الأستاذ المساعد , كما أنه مارس العمل التطبيقي في مجال تخصصه لعدة سنوات وليس له عمل معروف , ومن يعملون في الساحة السينمائية المصرية لا يعرفونه تقريباً , وانحسرت أعماله في بضعة أفلام قصيرة ضمن الأعمال والتجارب التي تنتجها أكاديمية الفنون والمركز القومي للسينما , كما أنه كان مفصولاً من العمل بأكاديمية الفنون لعدة سنوات , وله كتابان مطبوعان فقط عن السينما والحداثة , إلى هنا ورغم اقتراب السيد عبد العزيز بهذه المعلومات من تخوم النكرات ــ بالمعنى التوصيفي ــ إدارياً وإبداعياً وربما علمياً أيضاً , يظل الأمر غير محسوم بشكل نهائي , أو يظل قابلاً للأخذ والرد , مع احتمالات التجاوز عن السياق الشخصي عبوراً إلى السياق الموضوعي , للاختبار والتقييم في إطار الرؤية الثقافية والأفكار التطبيقية الحقيقية , ووقائع العمل أو الإنجاز الحقيقي والمباشر على أرض الواقع الثقافي المصري , ولكن حتى في هذا السياق , لم يترك عبد العزيز لمعارضيه ورافضي توزيره متسعاً كبيراً من الوقت للاختلاف , والتجاذب الذاتي البيني قبولاً ورفضاً , وإعادة تقييم للمواقف تجاهه , فقد أثبت خلال أيام قليلة جداًَ من تعيينه , أنه لم يأت حاملاً رؤية ثقافية حقيقية , تبتغي حلحلة الراهن الثقافي والاجتماعي المصري , ولا تطوير آليات العمل , وتعميق وتجذير الثقافة ضمن بنى ومقومات المجتمع , أو جلاء واستكشاف وجه مصر وهويتها الحقيقيتين , وتسويقهما للمجموع الوطني الذي ربما يجهلهما , بما يؤثر على انتمائه وعمله في سبيلهما , أثبت الوزير الجديد ــ وبسرعة فائقة ـــ أنه أتى حاملاً مخططاً لتفكيك الثقافة وتجفيف منابعها , أتى ليصادر الضرع لا ليحسّن من كفاءة استغلال الحليب , وبذات المنطق الذي جاءوا به عبره , بدأ في اختيار رجاله ومعاونيه , بتغلغل وبطء محسوبين ومثيرين للغرابة والشكوك , في تأسيس جديد لأبنية وعلاقات قوىً قديمة , تحفل بمركزية المؤسسة الثقافية , وتركيع الثقافة والمثقفين لدوائر السلطة عبر السيطرة على مقدرات العمل الثقافي , والتلويح بذهب المعزّ رغبة في إعمار حظيرتهم الجديدة , التي لا تختلف في شئ تقريباً عن حظيرة فاروق حسني , غير أن وزارة الثقافة في سياقها القديم كانت تعمل ــ رغم الفساد والإفساد ــ بنضج ووعي أكبر , فلم يضطر فاروق حسني رغم الحاجة لجنود وداعمين أن يشتري راكد البضاعة أو نفايتها , كما فعل علاء عبد العزيز في اختياراته , أو كما فعل النظام في اختيار عبد العزيز نفسه , ربما لأن القاعدة الصلبة للنظام كانت تشتمل ــ ضمن أبنائه البيولوجيين والفكريين ــ على من يحسنون الصنعة , ويمتهنون المهنة , ويجيدون الإبداع وفرزه وتقييمه , وهو ما لا يتوفر لدى فصائل وجماعات اليمين المتطرف التي تعادي الثقافة والإبداع , وتعتبرهما خروجاً على الإطار التأسيسي لمجتمع الصبغة الواحدة , الذي يمثل لديهم ذروة الالتزام الأخلاقي والإنساني , ومنتهى المنشود عقدياً وتنظيمياً , وقد بدا تهافت الدكتور علاء عبد العزيز واضحاً جليَّاً من خلال ما بدر منه من مواقف متسرعة , وشكلانية وغير مدروسة , وما أبانت به لغته الظاهرة عن مكنون نفسه وعميق انحيازه , ففي يوم تقلّده منصبه أعلن أنه بصدد تغيير اسم مكتبة الأسرة , لتصبح مكتبة الثورة المصرية , وهو ما ينسجم ــ في اعتقادي ــ مع منطق الإنجاز الدعائي , وثقافة " الشو " والبروباجندا التي أصبح النظام الجديد بصدد احترافها , وكأن الثورة مسمىً , هم في العمق يريدونها كذلك بالفعل لتفريغها من محتواها , ولكن كثيراً من عرضيّ المواقف يكشف دائم النوايا , ويفضح الجهل الذي يقفز فوق حقيقة أن مشروع مكتبة الأسرة فكرة عميقة تاريخياً , وأن الاسم اختيار لأديب مصر الكبير توفيق الحكيم , كذلك أتحفنا الدكتور الوزير ــ عبر حوارات تليفزيزنية وصحفية ــ بما يثير الشفقة والرثاء لحاله قبل حال الثقافة المصرية على يديه , فأستاذ السينما يطلق أحكاماً مطلقة , لا تهتم بمعايير التاريخ والجغرافيا والحقيقة , حينما ينطلق محللاً لحال السينما المصرية , ومقارناً بينها وبين السينما الإيرانية بما يخلط بين السينمائي والسياسي , ويكشف عن منطق وصائي ــ ونزوع شموليّ ــ لا ينحرف عبد العزيز عنه كثيراً طيلة حواراته وهو يعتمد روشتة أخلاقية لفرز الثقافي والإبداعي والتعامل معه , ويصوغ تعبيراته عبر إطلاق لغويٍّ مائعٍ وعام , ويطرح أفكاراً تدجينية له عبر تبنيه للقاءاتٍ , ودعوته لمؤتمرات تشمل الأحزاب والقوى السياسية , للاتفاق على برامج وخطط عمل للثقافة المصرية , ولا يملك مثقفو ومبدعو هذا الوطن المنكوب بمن يخططون له إلا أن يضرب أخماساً بأسداس , وهو يشاهد قيادات حزبية خارجة من عباءة الإرهاب البدني المسلح إلى عباءة الإرهاب السياسي , تجلس في وزارة الثقافة بينما المثقفون والمبدعون يفترشون أرصفة المؤسسات الثقافية وساحات دار الأوبرا وقصور الثقافة , ربما ــ وبمنطق أن المقدمات توحي بالنتائج ــ لن يكون تصعيد مثقفي ومبدعي مصر الحالي تجاه الوزير الجديد نهاية المطاف في هذا الصراع , فهو مجرد تنويعة على الصراع العام المحتدم في فضاء الوطن بكامله , بين دولة تحاول أن تكون دولة وطنية مدنية عصرية , وبين شراذم من الراديكاليين الماضويين الأمميين الشموليين , يحاولون اختطاف الدولة , أو أن يكونوا دولة داخل الدولة , بدأ الصراع بقررات تعسفية وبمحاولة إحلال لوجوه وشخوص , يكتنفها إحلال آخر عميق للولاءات والانحيازات , وكان الردّ سريعاً وقوياً وقاسياً باحتشاد وتجبّه مثقفي ومبدعي مصر في حركات وفعاليات حقيقية عبر تظاهرات واعتصامات وأنشطة ثقافية بديلة , وأحياناً خروج على مركزية الوزارة , وضرب عرض الحائط بقرارات الوزير , كما فعل قطاع الفنون التشكيلية في المعرض العام الأخير حينما قرر الوزير التأجيل وقرر الفنانون ومديرو القطاع افتتاح المعرض في موعده , وتوالت المواقف عبر استقالات كثيرة ومتتابعة من أمانة ولجان المجلس الأعلى للثقافة ومجلة إبداع وبيت الشعر وغيرها من الأماكن والمؤسسات التابعة لوزارة الثقافة , ورغم أن هذا كله حلقة من حلقات الصراع العام ــ كما أسلفت ــ إلا أنه أحد أقوى نقاط التأثير في هذا الصراع , وأداة حسم قوية على طريق تحديد ملامح الفترة القادمة وهوية مصر , ربما خلال عقود أو قرون آتية , ولابد ألا يخيب رهان الثورة والوطن على المثقفين , وأن يضطلعوا بدورهم كما ينبغي , على الأقل كتكفير عما اقترفوه ــ بسلبية أو تبعية أو انحياز خاطئ ــ طيلة العقود الماضية , حتى وصلنا ــ ووصلت مصر بنا ــ إلى هذه الحالة المذرية , التي أصبح فيها وزير ثقافة مصر أقل قامة من كل مثقفي مصر تقريباً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق