محمد عبدالمعطي طاحونة الضحك .. والدموع
بقلم/ محمود الحلواني
مع محمد عبد المعطى ، أنت مقضى عليك بالمحبة لا محالة !
تظل تنخرب عنه بإبرة ، ليرج روحك ، ويزغزغ حواسك وجسدك كله بآخر نكته ، أو بآخر قفشة ، أو بأى آخر من الأواخر التى دائما ما يحتفظ بها تحت لسانه ، طازجة بنار الفرن ، لا يستطيع معها صبرا فيروح يطلقها من كيانه كله على أقرب أصدقائه ، أو على من تصادف وجوده في مرمى جسده . يروح محمد يصب من روحه ذلك (الحليب الإنسانى) الذى لا تعرفه الملائكة ـ ولا الشياطين طبعا ـ المعـّتق والطازج معا ،يصبـّه في عفوية وبساطة أشد وأبلغ من الإحكام والمكر والتدبر ، بينما يرتج جسده كله ، وتدمع عيناه من الضحك ، تتصور بعد أن ينتهى من هذا الفاصل أنك شبعت ، وأنه شبع ، وقد أفرغ شحنته تماما وهدأ ، غير أنك تفاجأ بأن تلك الحمولة من النكات بكل أنواعها وأشكالها وألوانها ، والقفشات التى تتوالد ساخنة وتتكاثر توا على لسانه ـ لا تعرف متى وكيف ـ والضحك المجلجل ، والدموع التى تذرفها العين عنوة تحت ضغط انفعالها ، وعدم استطاعتها تحمل كل هذه " الهلمة " من الحياة والحب والفرح ، تفاجأ بأن كل هذا " الترلم لم " مازال بخيره ! بل وفى أو ّله ، فما أن يتواجد شخص آخر ، في المحيط الذى اتسع حول محمد بالأصدقاء وبغير الأصدقاء أيضا ، ممن جذبهم سحره الحلال ، حتى تطقطق النار ثانية ، ويتطاير الشرر ، ويرتفع البخار بالغطاء ، ويخرج ذلك العفريت الجميل يرتج جسده ، وتدمع عيناه من الضحك ، بينما تصيب نكاته وقفشاته كل من حوله وما حوله ، فيغرق الجميع في الضحك ، في المحبة ، في غاية الإنسانية ..
ولكن .. ليس هذا كل شئ " ليس هذا محمد عبد المعطى كله " ( مع الاعتذار للشاعر عاطف عبد العزيز الذى وقع في غرام عبد المعطى من أول نظرة ، أو من أول نكتة .. حين تعرف عليه في مؤتمر الواحات ) هذا ليس محمد عبد المعطى كله ، فهناك جوانب أخرى كثيرة ، ما يهمنا منها الآن هو الجانب الآخر ، الجانب الحزين لمحمد عبد المعطى ، والذى يتجلى أكثر في شعره ، فأنت حين تقرأه ، أو تسمعه ، تشعر توا بهذه النبرة الحزينة التى لا يمكن أن تخطئها، على الرغم مما يتميز به شعره من مهارات الحاوى ، والقدرة على " التلسين" و"النأورة" و"التلقيح" و"المألتة" وسلاطة اللسان ، تلك المواهب / الحيل التى يتمتع بها ، أو يتمترس خلفها المهمشون لتحميهم من الانسحاق أمام السادة أصحاب المعالى والتعالى ، ولترتفع بهم ـ أيضا ـ فوق أى إحساس بالنقص ، بل تجعلهم ـ أحيانا ـ ينظرون إلى العالم بتعال وسخرية ، ولعلها هى نفسها الروح المصرية المنطلقة ، المرحة ، والتى لا تخلو ـ مع ذلك ـ من شجن ، ومن حزن دفين ، حتى في أشد أوقاتها بهجة وانتصارا ! هذا بالإضافة إلى أن قصيدة عبد المعطى تشير صراحة وتلميحا الى جملة من الارتباطات التى لوّ نت تجربته الشعرية بالشجن ، فهناك انتماؤه الواضح للفقراء :
"أنا فعلا مش ناسى الأيام دى ..
كان راجل مع إنه فقير ومبهدل
لكن زى حليب الصبح ف إ يد فلاح
تلاقيه طيب والضحكة ما تعرفش الا شفايفه
كنت انزل م المدرسة على عنده
واقرا كل جرايد اليوم ومجلاته
ويسيبنى أبيع ويروح يتغدى
واشحت منه كل الكتب اللى بتلفت نظرى
واقراها وبكره أرجعها وآخد غيرها
علشان كده لما كبرت وشفته اتدحدر بيه الحال
كنت باعيّط من جوه
وانا شايفه زى العود الناشف
عريان والريح بتلطش فيه
ويقوللى يا أستاذ
أولادى التسعة ما نيش عارف أأكلهم "
وهناك أيضا الإحساس بالهزيمة :
" شوف المدن مهزومه
من كام سنه مكسيه بالأحزان "
" بافتكر الضحكه المهزومه وباطالع نشرات الأخبار
واتريق على كل الشعرا وبموت م الضحك قصاد قلمى
ساعتين وانا عاجز قدام الصوره وتأويل المعنى
وباحاول افسر في غبائى قدام الهرم المقلوب "
وهناك أيضا الشعور الثقيل بالاغتراب :
" بتسرقنى الليالى أتوه
واسلم قلبى للضلمه فينبض آه "
" ولا قدرتش أنـّور وشـّى وأخطى
كسرنى الموج وانا في الصحرا ليه ما اعرفش "
" مقطوف صباحى والقمر مخطوف
الليل مغطى والنهار مكشوف
يا مين يرسـّي الروح على بدنى
ويلم حلمى من ضباب الخوف "
كما أنه دائم الإشارة إلى تشوهات الواقع وتحولاته :
" فينها المصطبه والفرن البلدى وستى بهيه وبيت جدى المتعرش
بالبوص دلوقتى بلدنا " فيدمين" أسمنت مالوش قلب الطوب النى
أقول الحق: أنا آخر مرواحه هناك قلت البندر أرحم من هيلمانات الرسم
وأطباق الدش المتعاصة بريحة دولارات البترول "
إن نظرة واحدة إلى قصائد عبد المعطى تكفى لأن تلمس هذه الروح المختنقة والمحاصرة :
" المشهد واقع
والخلفية قزاز عربيه وصابه السرطان "
ولكن على الرغم ذلك كان شعره يراهن دائما على الحلم ويشجع على الثورة والتمرد ضد كل ما هو قبيح في الحياة ، وكأنه كان يوصينا بذلك أيضا وهو يقول :
"يمكن محتاج دلوقتى تحبونى ، وتلموا سطورى المنسيه
وتتحدوا التطبيع وكلابه وتغنوا ـ ومش عيب ـ يا حبيبتى يا مصر"
رحم الله محمد عبد المعطى الذى كان شاعرا جميلا وإنسانا أكثر جمالا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق