الشاعر محمود خير الله |
ـ 1 ـ في العالم الثالث لا يولد الناسُ شعراء بالفطرة أبداً، بل يولدون عاديين جداً، ويتكفَّل العالمُ المُحيطُ بترسيمِهم شعراء،على الأقلّ، هذا ما حَدَث معي . بلدةٌ ليست قريبةً من القاهرة بما يكفي لكي تصيرَ مدينة،وأيام متقشفة تدهن كل شيء بالأسى والعذاب، البيوتَ القديمةَ والطرقات الضيَّقة والحيواناتِ الملطَّخة بالقذارة، البشرَ الذين يئنون وهم يمشون ليلاً،
ذاهلين أوكسالى، الإضاءةَ الخافتةَ التي تُطفيء بهجة الدنيا،هذه الطرقات كانت مُنبعِجةٌ بما فيه الكفاية، لدرجة أن الحيواناتِ تعبرُها أسهل من العربات 'الكارو'، التي كانت تهتزُ بعنفٍ حين تمرُّ بطيئةً بين البيوت،
ذاهلين أوكسالى، الإضاءةَ الخافتةَ التي تُطفيء بهجة الدنيا،هذه الطرقات كانت مُنبعِجةٌ بما فيه الكفاية، لدرجة أن الحيواناتِ تعبرُها أسهل من العربات 'الكارو'، التي كانت تهتزُ بعنفٍ حين تمرُّ بطيئةً بين البيوت،
الموتُ فقط كان يعرف كيف يمشي مسرعاً وهو يأخذ هؤلاء الناس. هنا في شبين القناطر، الفقرُ يجهَّز الجثث كي يحملها الموتُ إلى المقابر، الموتُ هنا يكفي نصفَ شعراء العالم، لكي يجدوا فيه ما يُكتب، ربَّما ـ لهذا السبب ـ كان أغلب صبيان هذه المدينة يكتبون ليدربوا حناجرهم على الفقد .
ثلاثةُ أرباع زملاء الدراسة كانوا يكتبونَ، قطاعٌ عريضٌ من طلاب المدرسة الثانوية وأصدقاء لأبي وإخوتي وأقارب لي كتبوا كثيراً، كانت طريقتُهم في المقاومة هي العمل على نوعٍ ما من الشعر: الشبابُ يُهرعون إليه شغفاً بالفتيات الجميلات، الرجالُ يغرقون بخشوع في المواويل، كأنَّهم يقيمون الصلاة، النساء يرتدين السواد طوال الوقت، كأنَّهن ذاهباتٍ دائماً إلى جنازة، ليس هناك أقسى من الشعرِ الذي يسيلُ على خّديِّ فتاةٍ تبكي وهي تمزِّق ملابسَها خلف كل 'نعْش'، ليس هناك أمرَّ من صرخةٍ ممطوطةً ومفجوعةً ومُعَذّبة، أسمعُها في أذنيَّ الآن، وأنا أكتبُ هذه الكلمات.
تعرفُ المآسي كيف تتآمَر لتُفرزَ شاعراءها، أعترفُ أنني كنت محظوظاً لأن عدداً قليلاً من أبناء بلدتي لم يستطِع أن يُكمل طريقَه إلى الشعر، كثيراً ما شعرتُ أنني، الوحيد الذى نجح فى الوصول إليه، واعتبرت ذلك جائزة كافية . كأنَّهم فوَّضوني لكي أمثِّلِّهم، وحين ألقي قصائدي تتلبَّسني كل هذه الحناجر التى لم تحصلَ على فرصةٍ واحدةٍ للصَّراخ، صرتُ فرصةً أخيرة لعواء بلدةٍ كاملةٍ.
دللتني المآسي فتعرَّت أمامي من تلقاء نفسها كلَّما صادفتُها، دون أن أكون مضطراً للتشرَّد كي أراها، درتُ في القرى والنجوعِ لأعرفَ أصحاباً ثم أفقدَهم بعد أيامٍ بسهولة، في المعارك اليوميَّة على ركوب قطار، أو عبور طريقٍ سريع، أو الوقوف في الطوابير، أعدادٌ هائلةٌ من الأصدقاء انتهت أعمارُهم في لحظةٍ عمياء كهذه، منهم من مات بين قطاريْن، أحدُهما يمشي عكسَ اتجاه الآخر، كانت بقاياه تُغطَّى بالصحف، بعد أن يجمعَ الصغارُ ـ وأنا معهم ـ الأصابع والأشلاء المتناثرة من الجسد الغضّ . ذات مرة أخذ قطارٌ ذراعين كاملتين لصديقٍ ومشى بهما إلى المجهول، فيما تعطلت الجنازة انتظاراً لعودة أطرافٍ غائبة.
أول 'بالكونة' في حياتي كانت شاشةً واسعة لهذه القصص، قضبانُ سكك حديدية، وعامل تحويلة عجوز نائم دائماً ويُفضِّل أن يمشي مُتهدِّلِّاً كالضحايا حين يصحو، سرعان ما يعلو صوت صفيرٍ ليوقظني، أخرجُ لأرى جثةً جديدة ويكون من السهل التعرف إليها من الملابس، رغم أن الدماء أعطتها لوناً زاهياً ومثيراً للغثيان.
منهم مَنْ حطَّمتهم الصخور، كأنَّ الطبيعةَ تختبرَ قدرتي على احتمال الفَقْد، أشعر الآن أنها كانت تدرِّبني على كتابةِ الشعر، بطريقة يصعُب تعلُّمها، أينما مشيتُ كان الموتُ يهزُّ ذيلَه أمامي، ويتركني معذباً بالفُرجة عليه، ليس غريباً أن تهزَّ كلابُ الأسى ذيولها في كثيرٍ من قصائدي، كأنَّها تُعايرني بقدرتها على الانتقام.
حتَّى مدرستي الابتدائية كانت مبنى قديماً مليئاً بالجُثث، في الأصلِ كانت محكمةً يسكنها العويلُ، قبل أن تحوِّلها الحربُ إلى مستشفى، احتفظَ زجاجُ نوافذها بدماء الجرحى والشهداء، في قطع 'الشاش' المُلتصقة به، مدهونة بالأزرق، كي لا تتعرَّض للقصفِ ليلاً، كنا صغاراً لدرجة أننا كنا نخاف النظر إلى النوافذ التي احتفظت برائحة الجراح والجُثث، بعدما صارت مدرسة ابتدائية، المدرسون لسببٍ ما كانوا يحترمون هذه الدماء المعلقة فوق رؤوسنا، قالوا إنها كانت دليلاً على نوعٍ نادر من الكرامة، دون أن أفهم ذلك أبداً، بعضُ الأطفال أشاع أنه وجد أصابع جنود كاملة مقطوعة ـ وبحالةٍ جيِّدة ـ في مخزن المدرسة، بعضُهم تحدَّث عن مقبرة جماعية ـ تحت المدرسة ـ لجنودٍ لم يجد الناس وقتاً لدفنِهم في المقابر، الحربُ التي بدأت قبل مولدي بأربعة أعوام وانتهت وأنا أخطو في الثالثة من عمري غيَّرت الكثيرَ من حياتي، يكفي أنها جَعلتْ الموتَ أكثر ألفة من أي شيء آخر.
حتى الآن، لا أمرُّ أمام المدرسة المهدَّمة دون أن أشعر برعدة خفيفة، مُنتظراً أن تقومَ من تحتِها جثثُ الذين دفنتهم الحربُ، أنا ابن مخلصٌ لهذا الكابوس، لا تصدقوا أن معركة أكتوبر كانت نهايتُها الفوز، فقد تحول النصرُ العسكريّ السريعُ في الميدان إلى حضيضٍ في الشوارع، بطيء وقاسٍ، تذوَّقتُه مع ملايين المصريين، وأنجبتُ ثلاثة أطفالٍ كي يتذوَّقوه معي، فأنا ـ رغم كل هذا الموت وربما بسببهِ أيضاً ـ لا أستطيعُ أن أعيشَ وحيداً.
ـ 2 ـ
ولدتُ لأبٍ من أصولٍ سودانية صريحة ، وأمٍ بيضاء جميلة وفطرية إلى أقصى حدَّ، عرفتُ باكراً كيف تكون رجلاً أسود في مجتمعٍ لم يتخلَّص بعد من عبوديَّته، سمعتُ بشراً كثيرين يسخرون من لون أبي، ويسبونه ونحن نمشي في الشارع معاً، كان يستمر في حديثه كأنَّه لم يسمعْ شيئا، دون أن ينسى، كأزهريِّ يخطبُ الجمعةَ طوال حياته، أن يقولَ لي 'الكلابُ تعوي والقافلةُ تسير.. يا بطل'، كان أبي يلقِّنني أوَّل درسٍ في المقاومة.
أينعم..، لم أولد شاعراً، لكنني ولدتُ وفي يدي كتاب، أتذكرني رضيعاً يعضُ مجلاتٍ قديمة وحوله بشرٌ يضحكون، كبرتُ بجوار مكتبةٍ ضخمةٍ في بيت أبي، قطعة خشبية طويلة تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حين نجحتُ في الثانوية العامة خصصها أبي لي، كنت بدأتُ أقرأ بنهم، وأشتري كتباً من قروشي البائسة، شممتُ دائماً روائح قديمة في هذه المكتبة، أتذكر أنني مرة جلستُ فيها لكي أرتِّبها، سمعتُ أصوات جدي وجدتي وشممتُ بعض روائحهما، كان اسمها 'واطفة' وتزوجت جدي لأبي 'عبدالفضيل'، وجاءا هاربين من فقر الصعيد إلى القليوبية، أوائل القرن العشرين، هو في الأصل كان يسكن 'أبنوب الحمَّام' التابعة لمحافظة أسيوط، وأجداده جاءوا في هجرة سودانية قديمة، لم أتمكَّن من تحديدها بدقةٍ أبداً، رغم أنني عرفتُ عشرات السودانيين في القاهرة والخرطوم، وزرتُ 'مَلكَال' و'الأبيض' و'أعالي النيل' ومددتُ يدي في نهر'السوباط' ورأيت جنوبيين وشماليين يشبهون أبي كثيراً، وتأكدتُ أن أجدادي البعيدين ولدوا هناك دون أن أعرفَ متى أو أين .
لكنني اكتشفت أن حبَّ القراءة مذهبٌ سودانيُّ أصيل، عرفتُ أصدقاء كثيرين اكتفوا بقراءة بقايا كتبٍ قليلة ثم توقفوا للكتابة، اعتقاداً منهم أن حياةَ واحدةً كفيلة بصناعة كاتب، ظلَّ بعضُهم يأخذ كتبي على سبيل السَّلف، وأنا أعرفُ أنَّه لن يفيدَ منها، كان يكتب رواياتٍ مُتشابهة عن بطل واحد، يُعاني الأسئلةَ والهمومَ نفسَها، ويأسف لأنَّ أحداً لا يريد أن يعترفَ بوجوده، متعةٌ القراءة كانت عصيّةً على هؤلاء.
أمي التي لم تكن تجيد القراءة ظلت حكَّاءة مثالية، شعرتْ دائماً بالخسارة حين أخرجها أهلها من المدرسة بعد عام واحد، لكنها رأت في تعليم أولادها تعويضاً مناسباً، علمتني أمي أن أغني منذ الصغر، كان لها صوت رائق وملامح 'فيروز'، كنتُ محظوظاً بإحساس أمي السليم ووعي أبي، ولم أكن بحاجة إلى أكثر من ذلك، كي أكتب الشعر.
كنتُ صبياً يُحب الحركة ويجد ضالته دائماً في المشي، أنا وزملاء الدراسة كنا نتجول بين الحقولِ لساعات طويلة، لنجد أنفسنا فى قرى مجاورة، لها نساء جميلات لا يخجلن من ملابسهن الخفيفة، ذات مرة ذهبنا لشراء الخبز ظهر نهار رمضاني، ثلاثة طلاب في التعليم الثانوي يطلبون الخبز، لسبب ما كانت الأرغفة ملقاةً على الأرض، مثل الأحذية، وعلى الجميع أن ينحني ليلتقطها، امرأة منهن كانت تنحني بصدرٍ مكشوف ملتهب كالأرغفة، تساقطنا فوقها دون أن نعرف ما الذي يمكن أن يحدث، ففي هذه اللحظة بالذات يولد شعرٌ كثير ويتعتَق في الذاكرة، حتى إذا صببتُ شيئا منها في الشعر، تدلَّى ـ دون شكِّ ـ في قصائدي.
أحببتُ في الجامعة مرتيْن، كان هاجس أن الناسَ تدخل الجامعة فقط لكي تحب يسيطر عليِّ، التجربة الأولى كانت مُجهضةً وسريعة، كأنها بروفة، أما الأخرى فكانت على النقيضِ تماماً، ناجحة وطويلة ومؤثرة، أنجبنا أطفالاً بعد سنوات من اللقاءات في الحدائق والميادين وعربات المترو، بعد معارك مع الأسرتين، ظلت تجربةً كبيرةً بما اتسعت له من لحظات 'حُب' ولحظاتِ 'أسى'. عشتُهما كأنني أناضل، كنا طلاباً في جامعة عين شمس، أوائل التسعينيات، مخبولين تماماً ومنفتحين إلى أقصى حدِّ، وسط عشراتٍ من قصص الحب كنا أول من تزوَّج ونجح في الانتقال من عصر الحدائق العامة إلى الغرف المغلقة والأطفال والإحساس بالمسئولية الاجتماعية تجاه آخرين، سرعان ما سوف يتعلقون في رقبتي، كافحتُ طويلاً لكي أحافظَ على البيت الذي بنيته لعائلتي، جعتُ وتمردتُ واستلفت، عملتُ ـ مستنداً إلى تراث أبي ـ مُصحِّحاً لغوياً في صحفٍ صدرت لأيام وأخرى لساعات وأخرى لم تصدر أبداً، كان أصدقاء الجامعة يتساقطون في قصص الحب مثل أوراق الخريف، وخلال عامٍ واحدٍ كانوا يقولون لي إنني الوحيد الذي أفلح، ومرة أخرى شعرت أننى وصلت سالماً للشعر، لأن ذلك حمِّلني عبئاً إضافياً، كأنني حررتُ الميدان الذي تساقط فيه عشرات الجنود بمفردي، وقد كان ذلك صحيحاً إلى حدٍ ما، أحدُهم تزوَّج حبيبتَه في السرِّ ثم طلقها في العلن، نزولاً على رغبة أسرتها، كان كأنه يخلع قلبهَ ليعطيه هدية لأعدائه، ولم يعد ممكناً أن يجدَه بعد ذلك أبداً.
ـ 3 ـ
أستطيعُ الآن أن أعترفَ أنَّني جعلتُ بَشراً كثيرين يكرهونني، كنتُ صفيقاً في لحظاتٍ كثيرة، خيَّبتُ ظنونَ الكثيرين وتقريباً خُنتُهم، أسأتُ الفهم ودفعتُ الكثيرين لإساءة فهمي، عرفتُ أصدقاء طيبين حاولتُ أن أكونَ مثلهم، لكنني عرفتُ آخرين تعلَّمتُ أسوأ ما فيهم، استلفتُ أكثر مما سَلَّفت، أُهِنتُ أكثر مما أهَنت، حاولتُ كثيراً الحصولَ على حقي مهما يكن الثمن، وقليلاً ما وفِّقت في ذلك، بعض الحقوق التي ضاعت مني عوَّضتها في القصائد، فمنذ وقتٍ مبكر وأنا أدرك ما في الشعر من قدرة على التعويض، دخلتُ معارك وخرجتُ مجروحاً ودخلتُ أخرى وخرجت شارباً من دماء ضحيَّتي، صدِّقوني الشعرُ لا يُمكن تصوَّره في مكانٍ آخر أبعد من ذلك.
' شاعر من مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق