قصص مترجمة لعشرين كاتبةً وكاتباً من الروسيا الجديدة
ثـــلاثــــة كــــونـــتـــــــــات
. أضجرت النساء الكونت العجوز ليف نيكولاييفيتش تولستوي حتى فرّ هارباً من البيت. لكن كونتين آخرين – أندره وبيار- كان سبق لهما أنّ حذّراه من مخالطة هاته النسوة كثيراً قبل أن ينجز مهمته الرئيسية في الحياة.
لكن ليف العجوز لم يقرأ هذه التحذيرات. من حيث الكتابة، كتب، لكنه لم يعزم على القراءة بعينه السليمة. لم يكن قادراً على القبول بمجاملات من قبيل Excusez moi و mademoiselle أن تكون دليله إلى فكرته الخاصة...
فلنقرأ بدلاً من الكونت. ولنستفد من حكمة الشيخ العظيمة، على رغم أنّ هذا لم يعد يفيده في شيء.
الطبيعة والروح تعارضتا.
اختلقت الروح كمّاً هائلاً من التبريرات المناقضة لطبيعتها.
الطبيعة تنتقم من الروح، لقاء ذلك، عبر إذلالات قاسية متواصلة.
التقى سيدان مهذبان، في سنّ الزواج، في مساء ربيع رائع، على محدّب جسر آنيجكوف. استأجرا حوذيّاً وتوجها إلى الجزر عبر شارع نيفسكي. لم يكونا على عجلة من أمرهما، والفرس، عارفةً بذلك، راحت تخطو بتمهّل. وكان الحوذيّ يحلم بقريته.
أحد السيدين، وهو شخص بدين طيب القلب، يلقّب نفسه بالاسم الأجنبي بيار، كان يتذمّر بغنج من سوء فهم غريب نشأ بينه وبين قاطنات صالونات العاصمة الرائعات. كان رفيقه أكثر منه شباباً بعض الشيء، ويتمتع بمظهر نبيل مبالغ فيه بعض الشيء، وكان اسمه اندره. كان أندره صامتاً كصنم؛ وكان يهزّ رأسه فحسب على وقع خطى الفرس بحيث كان في الإمكان الظنّ بأنه شخص جامد، أو الاشتباه بأنه يدخّن الممنوعات، لولا أنّ هذ الشاب كان معروفاً بشكل مؤكّد بأنه أمير ومن فرسان البلاط.
- لعلّ هذا يحدث لي يا صديقي، أصرّ البدين، لأنّ أخلاقي قد أفسدتها العادة الباريسية المتمثّلة في الانخراط في الحديث مباشرةً من دون القيام ببعض المقدمات الإيحائية؟
- هكذا إذاً!، وافق الحوذيّ مقاطعاً، وهو ينعش الفرس بضربة خفيفة بسوطه.
تحدّث البدين كثيراً وبسرعة مُطَعِّماً لغته الفرنسية المكسّرة بلغة روسية أكثر خراقة، وفجأةً، حين ارتجّ الحنطور أثناء عبوره الجسر من إحدى ضفتي نهر نيفا إلى الضفة الأخرى، عاد الأمير إلى الحياة، وبدأ الكلام بلغة قائد عسكريّ قاس:
- لا تتزوج أبداً، أبداً، يا صديقي، هذه نصيحتي إليك، لا تتزوج إلى أن تقول لنفسك إنك قد فعلت كلّ ما كان في استطاعتك، وإلى أن تكفّ عن حبّ المرأة التي اخترتها، بحيث تراها بوضوح، وإلا فستخطئ خطأً غير قابل للإصلاح. تزوّج فقط حين تغدو شخصاً هرماً لا نفع فيه... وإلا فسيضيع كل ما هو جيد وسامٍ فيك. سيُهدَر كلّه على توافه الأمور...
كان الأمير، طوال هذا المونولوغ، ينظر إلى سماء بطرسبورغ الرمادية تارةً، وإلى مؤخرة الفرس تارةً أخرى. يبدو أن تأليه الجنس اللطيف كان يقاوم بقسوة، في أعماق الأمير، حقيقة الوجود الفيزيولوجية...
قُطِع السير الرتيب للحنطور، وقُطِعت الوصايا العسكرية، عند الجسر الخشبي المؤدّي من الضفة اليمنى لنهر نيفا إلى جزيرة زاياجي. في هذا المكان المخيف، عند أساسات قلعة بطرس وبولس، كانت مجموعة من الضباط السكارى في حالة من الهيجان المرح.
- قف وإلا سأطلق النار!، صرخ، وهو يركض نحو قوائم الفرس المذهولة، عسكريّ من الخيّالة، ضئيل الحجم، مهلهل الثياب، بيده سيف من سيوف الفرسان الضخمة، بوقاحة، على رغم أنه لم تكن هناك مؤشرات الى وجود سلاح ناري في يده.
- آ!، إنه الملازم بيساييف، محبوب فوجنا، قال الأمير مُطَمْئِناً، هو ملازم جيد لكنه ثمل بالتأكيد...
حُمل الملازم إلى العربة من دون مقاومة، وبدأ يحاول، بعجالة وإخفاق، إصابة السكاكين بنصل السيف؛ فيده، التي كانت في قفاز أبيض قذر، كانت تمسك بالمقبض الضخم بخراقة، لكن هذا لم يزعج قطّ في المناسبة، حديث الأمير الذلق المنتظم الانسياب:
- نعم، نعم، نعم! لا تنظر إليَّ بهذا الاندهاش. لا يُعقل أن تتوقع أن تحقق شيئاً في المستقبل؛ ففي كل خطوة ستشعر أنّ كلّ شيء منتهٍ بالنسبة إليك؛ كل شيء مغلق باستثناء غرفة الضيوف التي ستقف فيها إلى جوار فرّاش البلاط وأبله... ماذا تعتقد؟
- في هذه النقطة بالذات أنت مخطئ قطعاً يا عزيزي، قاطع المونولوغ شخص مزعج يرتدي صديرية ناتئة من تحت سترته وقبعة غريبة الشكل تخفي صلعةً كبيرةً بوضوح: المرأة ليست وحدة قياس الكينونة! المرأة، في نهاية المطاف، هي أداة العصر والعلاقات الطبقية الملائمة لهذا العصر!
التفت بيار مصعوقاً إلى هذا الشخص الذي فقط الشيطان يعرف كيف ظهر في العربة. بيساييف، الذي أنهى أخيراً تدريباته بالسيف، بدأ يحاول، محاولات غير موفقة، لرسم علامة الصليب... صعّر الأمير خدّه بنفور، ومن دون أن يتيح المجال للواعظ المتفلسف بالردّ، واصل كلامه:
- زوجتي امرأة رائعة. هي من تلك النساء النادرات اللواتي يمكن المرء معهنّ أن يكون مطمئناً على شرفه، لكني، يا إلهي، سأبذل الغالي والنفيس على ألاّ أكون متزوجاً الآن! أنت الشخص الأول والوحيد الذي أقول له هذا الكلام، وهذا لأني أحبك.
يبدو أن بيساييف والأصلع والحوذي لا يُحسَبون عند الأمير.
- أنت لا تفهم لماذا أقول هذا الكلام. إنها حكاية حياة كاملة... أنت تتحدث عن بونابرت، وعن ترقّيه السريع في المناصب، لكنّ بونابرت، حين كان يعمل، كان يتوجّه نحو هدفه خطوة تلو الأخرى، كان حراً، ولم يكن هناك ما يشغله، فكان يبلغ غايته. لكن اربط نفسك إلى امرأة، فستفقد حريتك كمسحور مقيّد. وكل ما فيك من أمل وقوة، كل ذلك سيثقل عليك، وسيمضّ بك الندم... لو أنك عرفت فحسب ماذا يعني toutes les femmes distinguées والنساء بشكل عام! أبي محقّ. الأنانية، التكبّر، الغباء، والخسّة في كلّ شيء، هكذا هنّ النساء عندما يظهرن على حقيقتهنّ. تنظر إليهنّ في الضوء وتعتقد أنّ فيهنّ شيئاً ما، لكن لا شيء، لا شيء، لا شيء! أجل، لا تتزوج يا روحي، لا تتزوج.
أنهى الأمير كلامه.
- متى جئتُ على ذكر نابوليون؟، فكّر بيار مغتمّاً...
- يا أيها السافل! سيتذكر الشعب تآمرك هذا ضد النساء الكادحات، همس الفيلسوف الأصلع لنفسه...
- mon amour madame Belliac…،- بدأ بيساييف بالغناء دونما تكلّف، لكنه تلعثّم باحثاً، من دون جدوى، عن قافية روسية للكنية الفرنسية المريبة.
- لا يمكن نزع الملابس على الإطلاق، أرادت الفرس أن تقول لكنها شعرت بالخجل. هكذا إذاً. أنتم الكونتات يمكنكم ألاّ تتزوجوا حتى، ولكن ماذا عنّا نحن؟! فكّرت الفرس بكآبة ناظرةً إلى شمس بطرسبورغ الساطعة وهي تغوص في مصبّ نهر نيفا المتلاطم.
بذلت الفرس جهدها وعادت بالأشخاص الخمسة إلى الخفاف والفطائر والأرائك المنزلية، إلى الأحاديث المنزلية الخاملة حول فوائد الزواج وأضراره.
وواصل الحوذيّ، بقوة مضاعفة، الحلم بالقرية... ¶
يوري كوفال -
إبـــريــــق الـــشــــــــــاي
إبريق الشاي لا يحبّني. إنه يلاحقني طوال اليوم من ركنه، بعينه النحاسية الكامدة.
في الصباح، حين أضعه على السخّان الكهربائي يغلي ويحتدّ غضباً أو يبصق البخار والماء المغليّ من الفرح. وحين يبدأ بالرقص والقرقعة أطفئ السخّان، أضيف الشاي، وينتهي الأمر نهاية سعيدة.
يأتي بيتروفيتش. يستند بكتفه إلى الخزانة. ثم يقول:
- الأجرة!
تبقى هذه الكلمة المزعجة معلَّقةً في الهواء بين الإبريق وبيني وبين بيتروفيتش.
ردّ فعل الإبريق ليس مفهوماً لي. هل تعجبه هذه الكلمة أم لا؟ إلى جانب من هو: إلى جانبي أم إلى جانب بيتروفيتش؟
- لم تدفع منذ مدة طويلة، يقول بيتروفيتش.
يقذفني الإبريق بنظرةٍ باردة ويتنحّى جانباً. إذا لم يكن إلى جانب بيتروفيتش فهو ليس إلى جانبي أيضاً. لا تقلقه الكلمة المعلَّقة في الهواء. مشكلاتي لا تهمّه؛ فهو حتى من دوني سيعيش.
- متى تدفع؟، يسأل بيتروفيتش. فأشرح له:
- إِفهم. إبريق الشاي لا يحبّني.
- مَنْ؟ الذي جاء البارحة؟ ما لكما كنتما تصرخان هكذا؟
- إبريق الشاي يا بيتروفيتش، هذا الذي هنا، هذا النحاسيّ الأصفر.
- وأنا أفكّر، ما لهما يصرخان؟ ربما ظهر المال. فكّرت: سأذهب إليه لطلب المال، فقد حان وقت دفع أجرة الشقّة.
- علاقتنا غريبة ومتوتّرة جداً، رحت أشكو، إنه يراقبني دائماً، ويطلب أن أتركه يغلي من دون توقّف، ولا يمكنني ذلك. إِفهم! لديَّ أعمال أخرى.
يقول بيتروفيتش مندهشاً وهو ينظر إلى الطاولة التي لم تُنظَّف منذ البارحة:
- وما زال هناك سجق، ظللتما تصرخان حتى الساعة الثانية. فكّرت: أخشى أن يذبحا أحدهما الآخر.
أُشعل السخّان الكهربائي، فيبدأ الإبريق بالغنغنة فوراً. أقول لبيتروفيتش:
- هل تسمع؟ هل تسمع؟ انتظر، هذا ليس كل شيء.
لكنّ بيتروفيتش لا يسمعني. إنه يصغي إلى صوته الداخلي، وصوته الداخلي يقول: "أسمع ماذا؟ لقد سئمت! ادفع أو ارحل!"
لسببٍ ما يصمت الإبريق، يكفّ عن الغنغنة، يطأطئ رأسه ببلادة حَرِناً، ويتنصّت على حديثنا.
أنا أستأجر من بيتروفيتش زاويةً فيها زوايا عديدة: الزاوية حيث أنا، والزاوية حيث علب الألوان، والزاوية حيث إبريق الشاي، والزاوية حيث الخزانة، وحيث يقف بيتروفيتش الآن مع صوته الداخلي الذي يصبح خارجياً بسهولة:
- من أجل السجق، هناك مال! سجق، خبز، خدمة ممتازة، يصرخون حتى الساعة الرابعة صباحاً! ويؤخّرون عليك الأجرة الواجبة!
لماذا الإبريق صامت؟ إنه يتظاهر بأنه لم يسمع يوماً بالغليان. أُوضِّح لبيتروفيتش:
- إنه صامت. إنه يصمت عامداً، يحبس أنفاسه. وسيبقى صامتاً لفترة طويلة، هكذا هو طبعه.
يقول بيتروفيتش مُلمِّحاً:
- وإلا فسنفعل كما فعلنا في المرة السابقة.
يا لقدرة إبريقي على ضبط النفس! لقد توهّج السخّان الكهربائي وهو لا يغلي قصداً. إنه يعضّ على أسنانه، يتحمّل، ويصغي. لا يَفلت من أنفه خيط بخار واحد، لا تنسلّ من تحت غطائه همسة أو "بقبقة" واحدة.
ما صُنِع في المرة السابقة كان سيئاً جداً. بسبب عدم دفعي الأجرة لثلاثة أشهر حمل بيتروفيتش لوحاتي الزيتية ورسوماتي إلى الفِناء، بنى منها كوخاً وأحرقها. قيل لي إنّ اللوحات الزيتية لم تحترق جيداً، وخصوصاً لوحة طبيعة صامتة تُصوِّر إبريق شاي كنتُ قد ثبّتُّ ألوانها بالرمل ومسحوق القرميد، فطرحها بيتروفيتش جانباً حتى لا تعوق احتراق الورق. ناقماً ومذروراً بالرماد رحتُ أتسكّع في المدينة على غير هدى لا أعرف ماذا أفعل. كان هناك مخرج واحد: قتل بيتروفيتش.
يقول بيتروفيتش:
- إسمع، ما له إبريقك؟ لماذا لا يغلي؟
أعصاب الإبريق مشدودة إلى أقصى حدودها، ينزّ من أنفه صوتٌ دقيق كلسعة زنبور. أتحرّك مبتعداً. أعلم أنّ الأفضل عدم مشاكسة إبريقي فهو لا يعرف حدوداً يقف عندها: قد يُلقي أيّ "نكتة".
يقول بيتروفيتش وهو يدنو من الإبريق:
- أم أنّ السخّان الكهربائي قد احترق؟
أصرخ به:
- حذارِ، احترس!
يسحب بيتروفيتش يده لكنّ الوقت كان قد فات.
يطير غطاء الإبريق. تندفع قطع البخار الساخن والماء المغلي طائرةً نحو بيتروفيتش. يولول بيتروفيتش مَعميّاً ويسقط على أرض المطبخ. يضع رأسه تحت صنبور الماء.
الإبريق يلهو، يبصق في جميع الاتجاهات، يتراقص، يتقافز ويهتف منتصراً.
يجب، طبعاً، إطفاء السخّان، والجلوس والتفكير كيف أعيش لاحقاً. كيف أعيش لاحقاً؟ لا أدري، أما الإبريق، حسناً، فليظلّ يغلي الآن ¶
أركادي كايدانوف
Tombe la neige…
يدحض حلول رأس السنة الجديدة الفلسفة القائلة بالحركة الحلزونية للحياة، هذه الفلسفة تُدحض بصورة عادية وبشكل دامغ.
عند حلول رأس السنة الجديدة يكمل كل شيء دورته ويعود إلى نقطة البداية، ويدور دوران أسطوانة موسيقية قديمة لأنّ الثلج يهطل، يهطل، يهطل...
حتى إذا لم يكن الثلج يهطل الآن، فإنه، في الأحوال كلّها، يهطل في ذاكرة سنوات الصفاء حين لم يكن التقويم هو الذي ينبئ عن قدوم الشتاء بل المنظر خارج النافذة.
Tombe la neige…
الثلج يهطل...
إبرة حاكٍ من طراز "يوبيلييني" تحصي، متعثرة الخطى، الأخاديد في "مينون" [رقصة باليه روسية] رديء النوعية، مسجّل على صفحات مجلة "كروغوزور".
لكنك لا تعلم بعد أنّ هذا اللحن سوف يبقى إلى الأبد، طوال حياتك، في كلّ ليلة من ليالي رأس السنة.
وهذا البلجيكي، بتسريحة شعره الملساء المائلة و"الفراشة" البورجوازية في رقبته الرفعية، هو أيضاً سيبقى إلى الأبد.
كيف أمكنه ذلك؟
كيف نجح في ذلك؟
فهو لا يقول سوى: "الثلج يهطل. لن تأتي اليوم مساءً. الثلج يهطل. لن نرى بعضنا. أعرف أنّ..."
وإن كان يغنّي بالفرنسية.
وإن كان يغنّي ببحّةٍ خفيفة ويلثغ بالراء.
ما المميّز في ذلك؟
أيّ ساحرةٍ خرافية لوّحت بعصاها السحرية فوق رأسه حين قام بتسجيل هذه الأغنية في ستوديو مغمور في باريس؟
Tombe la neige…
وكم هو لذيذٌ الشجن عندما لا تكون هناك أسباب للشجن...
وكم هو لذيذ الحزن على الحب الضائع ما إن تحزر أنه موجود؛ أنه موجود في مكانٍ ما؛ وأنه سيحدث حتماً...
Tombe la neige…
وأنت طوال حياتك، طوال حياتك كلها، سوف تحبّ امرأة واحدة فقط.
هي ستتخذ هيئات مختلفة، وأنت ستعامل الأخريات، العابرات، على أنهنّ هي، وستحترق، وستدخّن بنهم في الليالي الرطبة، وستنتظر اتّصالها، وستتصل بها، إذ ليس هناك سواها في هذا الكون الفسيح برمّته، وإن كانت لها أسماء مختلفة.
ولا وجود لسواها في روحك، مع ندف الثلج على رموشها ومع عينيها الكبيرتين الحزينتين، وكذلك في هذه الأغنية التي ليس فيها شيء مميّز سوى هذا الضوء الصافي المنعش لانتظارٍ، خفيفٍ كالثلج، مقدَّرٍ للفقد.
آخ، "مسيو" سالفاتوري آدامو، ما الذي اقترفتَه؛ ما الذي أبدعته في الستوديو الباريسي المغمور!؟
الثلج يهطل...
Tombe la neige…
وهذا ليس كل شيء.
Tombe la neige…
بل هذا أكثر مما يمكن احتماله!
وليس مهمّاً أنّ الأسطوانة لم تعد تدور، منذ زمنٍ بعيد، بسرعة ثلاثٍ وثلاثين دورة ونصف دورة في الفونوغراف الذي يعود إلى ما قبل الطوفان بإبرته المثلَّمة.
ليس مهمّاً أنّ ذاك الفونوغراف لم يعد له وجود منذ زمنٍ بعيد، ولا تلك الأسطوانة، ولا مجلة "كروغوزور" مع صورة المغنّي صاحب "الفراشة" البورجوازية في رقبته الرفيعة.
لا شيء يهمّ سوى هذا الثلج المتساقط؛ سوى هذه المرأة الوحيدة التي لن تأتي أبداً؛ سوى الحياة التي يصدر فيها هذا اللحن، متألّماً من تبرير كلّ ما حدث وكلّ ما لم يتحقق، هذا اللحن الذي يترجم إلى بكرةٍ سينمائية السنوات المنقضية التي كان الثلج فيها يهطل، يهطل، يهطل...
وإما أنها دمعة حمقاء تنحدر على خدّك، وإما هو ببساطة ثلجٌ يذوب محترقاً بذاكرتك.
أيّ تفاهة... أيّ عطالة.
Tombe la neige… ¶
قصص مترجمة لعشرين كاتبةً وكاتباً من الروسيا الجديدة
رسلان نوروشيف -
انــــتــــــظـــــــــــــــــــــار
أولغا لاريونوفا. هل حدث لكم يوماً أن استيقظتم وأنتم متأكدون، بهدوء لكن بصلابة، من أن شيئاً، هائلاً وبالغ الأهمية، لا بدّ أن يحدث اليوم، مع شعور مسبق بسعادة قريبة وحتمية؟
كنت مستلقياً في السرير. لم أكن قد استيقظت تماماً بعد، وكنت أنظر نظرةً مغبشة إلى السقف الذي كانت تنساب عليه بقع أشعة شمس الصباح الخريفية الباهتة. كنت مستلقياً وأبتسم لشيء ما. قد أكون شخصاً غريب الأطوار؛ فحتى أنا لا أفهم نفسي أحياناً، لكني – لسببٍ ما - كنت أعرف يقيناً أنّ شيئاً مذهلاً، لا يُصدَّق، لا بدّ أن يحدث هذا الصباح، هذا اليوم، ويقلب حياتي ويعيد تشكيلها بأكثر الأشكال غرابةً. كان الخريف خارج النافذة يصخب بهدوء، وكذلك كانت تصخب أشجار الحور في حديقة الجيران، والأوراق المتساقطة في الفناء، ولسبب ما تذكّرتُ طفولتي، والصباح الذي يسبق عيد رأس السنة، وأمي التي تقرقع في المطبخ ورائحة الشوح الكثيفة في الصالون، وذاك الشعور، الذي يسبق العيد، بأعجوبة الحكايات التي تقترب وستتحقق لا مناص؛ فيبدو اليوم التالي هائلاً، بلا حدود، قادراً على احتواء ما لا يحصى من الأشياء والأحداث؛ حاجباً ما سيعقبه بنوره، بفرحه، المتلألئ والمشعّ كالثلج تحت الشمس، واللامتكرر كالزخارف على الزجاج في الصقيع. قد أكون شخصاً غريب الأطوار؛ فالطفولة قد انقضت منذ زمن بعيد وأنا ما زلت أنتظر شيئاً ما، كما في السابق. لكن ماذا أنتظر؟ الحكايات؟ "كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، كانت هناك مدينة في أقصى أطراف الكون، وكان يعيش في تلك المدينة...". من قد يعيش هناك؟ أنا فقط، ربما.
بعد الفطور توجّهت إلى المدينة، للتسكّع فحسب.
- مرحباً تريزوريتش!، جلست القرفصاء وربتُّ ظهر تريزور الهرم، محبوب الحيّ، الذي كان جاثماً على صفائح طلباً للدفء. كيف هي الحياة الكلبية؟
تريزور، الذي كان يزوّر عينيه اتقاء شمس الخريف، بالكاد فتح إحدى عينيه، ولوّح بذيله بكسل من دون أن يرفع رأسه: شكراً، ماشي الحال. ضحكت. عجوز كسول! وتابعت طريقي.
- مرحباً تيموفييتش!، أومأت الى القط الأشقر البدين الذي كان يتسكّع على العشب تحت أشجار الصنوبر: كيف الحال؟
لكنّ هذا لم يحرّك لا ذيله ولا أذنيه. آخ، أيها اللعين! ورميته بحجر صغير. قفز تيموفييتش في مكانه وطار إلى الشجرة، حتى من دون أن ينظر. هدّدته بقبضتي.
- مغترّ بنفسك يا أشقر؟ سأريك في ما بعد!
لعلي كنت كلباً في حياتي السابقة؛ فأنا أحب كثيراً مضايقة أخي ذي الشاربين.
- صباح الخير "ليدي أند جنتلمِن"!، انحنيتُ باحترام للنصب الثلاثة المتجمّدة في الحديقة المقابلة، التي تذكّر بالعهود السابقة: كيف الطقس الآن في ستوكهولم.
الكمسموليان الحجريان شبه المتعانقين مع بندقيتين، والفتاة ذات الضفيرة الواقفة خلفهما بسكينة، الذين يلقّبهم الناس "العائلة الأسوجية"، كانوا صامتين بحزم واعتزاز، ضاغطين شفاههم الحجرية، ومركّزين نظراتهم الجامدة على المستقبل المشرق الذي لا يراه سواهم. ضحكتُ ساخراً: انتبهوا حتى لا تحطّموا أعينكم! أوثان! واتّجهت إلى موقف الحافلة. على رغم أنّ الفتاة، بصراحة، أعجبتني، ولسببٍ ما يشعر المرء نحوها بشيءٍ من الشفقة؛ فهي تلوح كشيء تائه وزائد على الحاجة في خلفية البنادق والوضعيات البطولية. جليّ أنّ الكمسموليين منشغلان عنها. ابتسمتُ لها، لها فقط. لا تحزني؛ فلا بدّ أن تنتهي الحرب يوماً...
كان الناس قلائل في الحافلة. قاطعة التذاكر، التي كانت تغفو بهدوء في المقعد الأمامي، كانت تريد مواصلة نومها حين لوّحتُ لها بيدي. تصبحون على خير! وانهرتُ على المقعد. أحبّ الحافلات شبه الفارغة، حيث يهبّ البرد من النوافذ المفتوحة، وترسل الشمس دفئها عبر الزجاج المغبرّ من دون أن تلفح المرء، حيث يمكن الشخص الجلوس حيث يشاء، ومدّ رجليه من دون ان يصطدم بهما أحد. خارج النوافذ تلوح المناظر المألوفة لمدينتي الأم، ويفرّ بعيداً شريط الطريق المعبّد الرمادي من تحت العجلات.
بعد موقفين، ركبت الحافلة فتاة ترتدي فستاناً رمادياً فاتحاً، وعلى كتفها حقيبة صغيرة أنيقة، وكانت هناك نظرة شاردة تحت رموشها المزيّنة. مقرقعةً بعقبي حذاءيها الدبوسيين، وناثرةً موجة من العطر الرخيص، جلست قبالتي ومباشرةً تناولت علبة أدوات التجميل من حقيبتها، وبدأت "تبودر" أنفها. كانت الفتاة صغيرة جداً في السنّ لكنها كانت منهمكة بـ"البَوْدَرة" بمنتهى الجدية، بل حتى إنها كانت ترفع حاجبيها قليلاً وتقطّب جبينها. كان واضحاً أنها لم تبدأ باستخدام أدوات التجميل إلا منذ فترة قريبة. ابتسمتُ قليلاً. لطالما أحببتُ مراقبة الفتيات وهنّ يتبرّجن ويتبودرن ويتزيّنّ، أو يدرن حول أنفسهن أمام المرآة وهنّ يقسن شيئاً ما جديداً؛ ففي لحظات كهذه يبدو لي أنّ المرأة تُظهر جوهرها الأنثوي بشكل أوضح وأكثر بروزاً.
بعدما أنهت زينتها وأعادت أدوات التجميل إلى الحقيبة، مرّت الفتاة عليَّ بنظرة ساهمة توقّفت على النافذة. لاحت خارج النافذة حروف مزخرفة ومقطّعة بشكل قبيح، وأوراق الأشجار المصفرة، ولوحات الإعلانات، والأعمدة – الشموع. لقد وصلنا إلى مركز المدينة إذاً، وطوال هذا الوقت كنت أرمق جارتي خفيةً. هل لاحظتم يوماً كيف يركض ظلّ شخصٍ جالس في حافلة تسير؟ أنا أيضاً لاحظت. إنه يبدو مضحكاً. كان ظلّ الفتاة يتحرّك بشكل متواصل من دون أن يتوقّف للحظة واحدة، إلى اليمين... إلى اليسار، ولا يبطئ من حركته إلا عند المواقف. مذهلٌ كيف تستطيع عين الإنسان التنقّل على هذا النحو، لكنّ الفتاة لم تلاحظ شيئاً بالطبع. نزلتْ من الحافلة في الموقف التالي، وأنا في الموقف الذي يليه. إلى أين؟ لماذا؟ لم أكن أدري.
تسكّعتُ في المدينة حتى وقتٍ متأخّر، ليس لأني أحبها كثيراً، ولا لأني أستطيع التجوّل فيها لساعات – فهذه ليست بطرسبورغ، ولا موسكو- لكنّ التفكير والتأمل والحلم تكون أسهل بهذه الطريقة. قد أكون شخصاً غريب الأطوار؛ فقد انتهت الطفولة منذ زمنٍ بعيد وأنا ما زلت أحلم. بِمَ؟ آخ، لو أني أحلم بشيء جدير حقاً!
تسكّعتُ حتى وقت متأخر ووصلت الى البيت بالقطار الكهربائي الأخير. كان مدخل المبنى فارغاً، وكان المصباح الكهربائي المعلّق يومض بصورة باهتة. نظرتُ إلى صندوق البريد. فارغ كالعادة؟ وتسمّرتُ مكاني؛ فقد لاح عبر شقّ الصندوق طرف ورقة بيضاء. برقية؟ خفق قلبي بشدّة. أيُعقل أن تكون برقية؟ بعد موت والديّ لم أعد أشعر بالفزع من هذا النوع من المراسلات، لكنّ اضطراباً لا يوصف استحوذ عليَّ، وكان السبب أمراً آخر؛ فقد انتقلت إلى هنا منذ فترة قريبة جداً، ولم يكن أحد يعرف عنواني الحالي سواها! أجل، أجل، هي بالذات – فلنسمِّها هكذا؛ فاسمها لن ينبئكم بشيء في كلّ الأحوال، أليس كذلك؟- كتبتُ من هنا فقط إليها! خفق قلبي، والتصقتُ بالحائط. كنت أشعر منذ الصباح أنّ شيئاً ما سيحدث اليوم! "أنا قادمة! استقبلْني". هززتُ برأسي، لكنّ ماذا يمكن أن يُكتَب غير ذلك في البرقيات؟ هرعتُ إلى الشقة لإحضار المفاتيح.
أين المفاتيح؟ ورحت أبحث في الصناديق والخزائن بشكل هستيري لأنيّ لم أستطع تذكّر المكان الذي وضعتُ فيه المفاتيح. لم يراسلني أحد إلى هنا! أين هي؟ اللعنة، واندفعتُ نحو الشقّ. فليذهب القفل إلى الجحيم! سأسحب البرقية بواسطة سلك. أدخلتُ سلكاً داخل القفل، وبحركة واحدة فتحته. سقطت عند قدمي ورقة صغيرة. هل هكذا تكون البرقيات؟ فضضتُ الورقة بسرعة. "بسرعة، بأسعار رخيصة، بنوعية عالية، نركّب الأبواب المعدنية والإطارات والنوافذ...". سقطت الورقة من يدي. وقفت لدقيقة مصعوقاً. أحمق! أحمق ثلاث مرات! لماذا قد تأتي إلى هنا؟ وإليّ! أضحكني الأمر وأحزنني. لكني كنت أنتظر! هل الحياة برمّتها ليست سوى انتظار؟ التقطتُ ورقة الإعلان وجعّدتها، أغلقتُ باب الصندوق المتأرجح، وتوجّهتُ متعباً نحو البيت. لكني كنت أنتظر...
لم أستطع النوم طويلاً، وفي النهاية، منهكاً، ارتديتُ ملابسي وخرجت إلى الشرفة. كانت المدينة الليلية نائمة، غارقةً في الصمت والسكون، وفقط في البعيد، خلف محطة القطار، كان هناك بائع ينادي. هبّت الريح فجعلت كلّ شيء يصخب، أشجار الصنوبر وأوراق أشجار الحور. ملأتُ صدري بهواء الليل الخريفي البارد النقي المنعش، وضحكتُ لشيء ما.
لعليّ شخص غريب الأطوار: الحياة تمضي، سأبلغ الثلاثين قريباً وما زلت أحلم. فقط لو أني أعرف: بماذا؟... ¶
النها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق