السبت، نوفمبر 08، 2014

محاوﻻت لترويض النمر ـ المقاله اﻷولى : للأستاذ الشاعر محمد نسيم ( صائد النصوص..قراءة في مجموعة : نمر يشرب النسكافيه لعلاء عبد الرحمن





محاوﻻت لترويض النمر ـ المقاله اﻷولى : للأستاذ الشاعر محمد نسيم ( صائد النصوص )
( قراءة في مجموعة : نمر يشرب النسكافيه )

*********************************************
(المحاولة الأولى ــ المفاتيح)
... ... ...
كان يمتهن الطب حينا
وحينا يحب البنات
ويفرش منديله فوق عشب الحديقة
يبني لهن قصورا..
من الكلمات
ولا يلحق الطائرة
في إحدى قصائد ديوانه (نمر يشرب النسكافيه)، وبهذه الكلمات، يكشف لنا الشاعر الدكتور علاء عبد الرحمن جزءا من شخصيته.
لا يحتاج القارئ إلى معرفةٍ شخصية بصاحب الديوان، لكي يعرف أنه طبيب، وأنه مغترب.
وأيضا لا يحتاج إلى كثير من التعمق في القراءة وإمعان النظر، لكي يعرف أن الشاعر من الشعراء (الشفافين)، الذين لا يؤمنون بالعبارة الشهيرة، التي تقول إن (أجمل الشعر أكذبه).
أضعتُ كثيرا من الوقت
في مدح من يأمنون إلى الواضحِ
وبالنسبة للشعراء (الشفافين)، فإن الحديث عن أشعارهم كثيرا ما يؤدي إلى الحديث عن شخصياتهم.. ولأن هذا يخالف قواعد النقد السليم وأهداف القراءة الواعية، فإن الحرص الشديد ينبغي أن يكون حاضرا عند الكتابة عن هذا الديوان.
وها نحن قد وقعنا في المحظور، حتى الآن، مرتين.. مرة عندما قلنا إن الشاعر طبيب، والأخرى عندما قلنا إنه مغترب.. ولكن، لا بأس، إذا كنا سنتخذ من هاتين المعلومتين مفتاحين للدخول إلى عالم الديوان.
مفتاح ثالث يقدمه النص، نستطيع أن نستخدمه أيضا، بالإضافة إلى المفتاحين السابقين.. يتمثل في كلمة سحرية محورية، تكررت كثيرا في قصائد الديوان، وسيطرت على الكثير من أجوائه.. وهي كلمة (عفريت).!!.
أنا عفريت القوافي
غير أني
كلما أدخل م الباب الأمامي لعينيك
تدحرجت
من الخلفي
عريانا..
وحافي..!
عموما، يستطيع القارئ، ببعض التأمل، أن يكتشف محورية هذه الكلمات الثلاث (الطبيب، والعفريت، والغريب)، بالنسبة لنصوص الديوان.
(1)
العديد من المصطلحات الطبية، وأسماء الأمراض، والحالات، والأدوية، والوصفات، والكتب التراثية الطبية.. فضلا عن أجواء المستشفيات وغرف العمليات.. كل هذا ينتشر بكثرة عبر أكثر من 16 قصيدة، من أصل 32 قصيدة يضمها الديوان.
وأكثر من 25 نصا يستطيع القارئ أن يجمعها، تدخل فيها الكلمات التي تنتمي للمعجم الطبي أو الأجواء الطبية.
بحيث إنه من الممكن عمل معجم طبي كامل، خاص بالديوان.. نستطيع، من خلال دراسة مفرداته فقط، في سياق النصوص التي وردت بها، أن نكوّن فكرة كاملة عن رؤية الشاعر لنفسه وللعالم كله.
أضعت كثيرا من الوقت
في مدح من يأمنون إلى الواضحِ
وما كنت أدرك أن النهار أصيب بداء الفيلاريا
وأن الشباب به يمَّحي
وأني أسير
ــ كما يقسمون ــ بنومي
إلى بارد المفردات
من الأحمر اللافحِ..
هكذا، وفي أول صفحة من صفحات الديوان، يطالع القارئ هذه الكلمات، ليعلم من بداية القراءة أنه في حاجة إلى تنشيط معلوماته الطبية، لكي يتمكن من فهم الشاعر.
صورة شعرية كاملة، يرسمها الشاعر مستخدما مصطلحات وتعبيرات، تتعلق بثلاث حالات مرضية (مرض الفيل، والشيخوخة، والسير أثناء النوم).
الكثير من الصور المبتكرة والمميزة يزخر بها الديوان، نظرا لتميزه بهذا المعجم الطبي الخاص.. كتلك التي نجدها في قصيدة بعنوان (باثولوجي) ــ والباثولوجي هو علم الأمراض.
حيث نجد الشاعر يعاني من (الاكتئاب الدواري)، منذ ثلاثين شهرا، بالإضافة إلى وضع قلبه في إناء زجاجي مليء بـ(الفورمالين) استعدادا لتشريحه، وقد شخص الأطباء حالته بأنه مصاب بالـ(كارديوميو باثي) ــ اعتلال عضلة القلب.. ولكن عندما تزوره حبيبته، يسترد القلب حياته، كاسرا البرطمان الزجاجي، راكلا عكازه، قافزا نحو يدي المحبوبة الزائرة.
فأهلا وسهلا..
بهذا النهار السعيد
الذي فيه قلبي المغطس بالفورمالين
لتشريحه
كان تشخيص من عالجوني
بأني مصاب بأعراض «كارديوميوباثي»
الذي لا شفاء له.. غير موتي
خاب ظن خبير علوم الخلايا
ومجهره
والحجج..
قال قلبي السعيد له قد نفذت بجلدي
وقد كسر البرطمان الزجاجي
يقفز نحو يديك
ويركل عكازه..
والعرج.
وإذا ذكرنا بعض المصطلحات الطبية التي وردت بالنصوص، مثل: (فسيولوجيا، ترامادول، بارانويا، فوبيا، سونار، فيروس، فورمالين، ملاريا، إكتوبلازم، كارديوميوباثي) وغيرها.. فإنه ينبغي أن نحسب للشاعر ــ بلا شك ــ قدرته على استخدام تلك الكلمات والمصطلحات بمنتهى السلاسة، في سياق الجمل الشعرية، دون أن يؤثر ذلك سلبًا على موسيقية النصوص، التي تمكن من الإتيان بها بشكل رائع.
غير أن الأجواء الطبية في القصائد لا تكتفي بما ذكرناه، ولكنها تسهم بما هو أكثر من ذلك، حيث تساعدنا في الاسترسال في فهم وقراءة النصوص.. عندما تمكننا من وضع أيدينا على مفتاح من أهم مفاتيح الديوان.
في قصيدة أخرى، مشبعة بتلك الأجواء، بعنوان (anasethia) ــ وهو مصطلح طبي يعني التخدير ــ يقدم لنا الشاعر صورًا رائعة، ومحورية، من داخل غرفة العمليات.
في القصيدة، نجد المريض، وقد دخل في هلاوس ذهنية وبصرية.
طاقم التمريض
في الركن
يشدون استشاريا ــ حليق الرأس ــ للبورنو
اخلعوني من سريري
قلت..
لم يسمع صراخي أحد
والمخرج انضم إلى المشهد
ألقى الكاميرا فوقي
أُجنُّ
هل يُجنُّ الميتون؟!
إلى أن يدرك المريض أخيرا أنه يحتضر، ويسجل لحظات موته بنفسه.
اندفعت دفقة دم من فمي
ــ ما تبقى من دمي ــ
فلتطمئنوا
خرجت روحي من نافذة
ساحبة محبوبتي
من شعرها
تاركة صلصالها
في جسدي
مستوطنا.
وهكذا، تضع تلك القصيدة أيدينا على الوجه الثاني من وجوه الشاعر الثلاثة.. حيث تقدمه لنا وقد تحول، عن طريق موته، وخروج روحه من جسده، إلى صورة (العفريت).!.
(2)
تتكرر كلمة (العفريت) في نصوص الديوان 6 مرات، بالإضافة إلى قصيدة من القصائد المحورية، تأتي بعنوان (العفريت الأزرق).
العديد، أيضا، من الكلمات المشابهة يمتلئ بها الديوان، مثل كلمة (الجن) وأشباهها.. مع امتلائه أيضا بالصور الخيالية المأخوذة من العوالم السحرية للجن والعفاريت.
تلك الكلمات لا تكتفي فقط بالتردد والتكرار عبر نصوص الديوان، ولكنها تصر على تقديم الشاعر في صورة سحرية عفريتية.
ويتخذ هذا العفريت صورا طوطمية مختلفة، فنراه مرة في صورة خفاش.
أنام
كما شاءت الجاذبية
رجلاي تلتصقان بسقفي
وعيناي مغمضتان
وقلبي يقظان
حتى: يصيد القوافي
ومرة أخرى، نراه في صورة سحرية على هيئة غراب.
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحل
فجلست على القبر ــ قبري ــ
كطير الغراب أنادي
وليس يجيب الطلل
وبمزيد من القراءة والتأمل، نستطيع أن نكتشف المزيد والمزيد عن طبيعة هذا العفريت.
الصفة الأولى من صفات هذا العفريت أنه ليس عفريتا من الجن، ولكنه ــ اتفاقا مع التراث الشعبي ــ عفريت إنسان ميت.!.
إنسان خرجت روحه من جسده ــ عنوة ــ وأصبح، فجأة، غريبا عن نفسه وعن العالم المحيط.. يهيم في هذا العالم متخذا صورًا وأشكالا مختلفة، غير أنه سرعان ما يعود إلى صورته العفريتية الأصلية.
بينما يقسمني لاثنين
ابناي..
وأمطار على بحر بلادي
أنبتت عشبا على قبري..
لينشق
وأرتدّ كعفريت
له في الليل.. عسَّة.!
أما الصفة الثانية من صفاته، فهو الشغب.!.
لا شك أننا أمام عفريت مشاغب جدا، يملأ أجواء الديوان بالكثير والكثير من العفرتة والشغب.. فيما يعتبر سمة أساسية من سمات الديوان نفسه.
العديد من الصور الشعرية تتميز بتلك السمة: العفرتة أو الشغب.. وكذلك صورة الشاعر نفسه، من بداية الديوان إلى نهايته.
قمت أرقص
مثل الهنود على النار
مبتهجا أن شِعري
به البرتقال الربيعيُّ
سربُ الكناريا
ونهر الشُّعل
أما الصفة الثالثة من صفات ذلك العفريت، فتظهر في علاقته بالعالم.. تلك العلاقة المضطربة، المتأرجحة بين الرغبة في الفكاك منه وعدم القدرة على التأقلم معه من ناحية، وبين الحنين الشديد إليه وإلى الاتحاد به من ناحية أخرى.
وهي علاقة متسقة تماما مع كونه عفريت إنسان ميت أو مقتول، خرجت روحه منه عنوة، رغم امتلائه بالرغبة في مواصلة الحياة.
وهو ما تتجلى بعض صوره في إحدى القصائد، التي يظهر فيها محاولا العودة إلى جسده مرة أخرى.
مشيت إلى جسدي مرتين:
مشيت له منذ عشرين عاما
وأغلقت كل الهواتفْ.....
وأمس، مشيت إلى جسدي غامضا
وتسلل وجهك
في شارع (النصر)
عبر زجاج (التويوتا) الذي كان منخفضا
قدر شبر
يتيح مرور العصافير من شفتيك
إلى طبلة الأذن
حين رأيتك تبتسمين لوجهي المناكفْ
تتضح هنا غربة هذا العفريت عن العالم، وحنينه إليه، وغربته عن جسده، ورغبته في الاتحاد به.
وهكذا، يأخذنا الشاعر (الطبيب/ العفريت) إلى الوجه الثالث من وجوهه الأساسية: (الغريب).!.
(3)
هناك عشرات الصور والألوان للغربة والاغتراب، تتردد وتنتشر عبر كل نصوص الديوان.
نستطيع أن نقول إنه إذا كانت لغة الديوان وأساليبه عفريتية، فإن قلب الديوان وروحه هي الغربة.. بحيث لا يوجد نص واحد ولا صورة شعرية واحدة، إلا ونستطيع أن نلمح فيها ملمحًا من تلك الروح.
وتلك الغربة ليست غربة سطحية، ولكنها أصيلة جدا، وقد كان الأمر واضحًا من البداية، وقد رآه الشاعر وعرفه وتنبأ به منذ ثلاثين عامًا وأكثر.
من ثلاثين عامًا
رأى أنه سيموت
بلا سبب واضحٍ
مُفردا
سيزور البلاد ــ جميعا ــ
ويتركها.. مُبعدا
مرة.. سارقا زوجة
مرة.. مشعلا ثورة
مرة.. حين أخر في الدفع فاتورة
مرة.. للتأنق فيما ارتدى..!
غير أن هذه الغربة أعمق من ذلك بكثير، فهي ليست مجرد التشرد بين البلاد، والبعد المكاني عن الأهل والوطن.. والديوان حافل بأسماء البلاد التي ينقلنا إليها الشاعر في جولاته وفتوحاته الشعرية: (ليبيا، سوريا، جدة، مانيلا، شرق آسيا، اليونان، الخليج، وغيرها).
من ألوان الغربة العميقة التي نستطيع ملاحظتها، في العديد من النصوص: الغربة النفسية أو الذاتية.. ربما يتضح ذلك اللون، بشكل ما، في الصورة الشعرية التي يحاول فيها المشي إلى جسده والاتحاد به.. وأيضا في قصيدة (مواطن صالح).
كان كالماء
لا لون.. لا طعم
لكنهم صنفوه بطائفة الخطرين
تعجب..
راجع سحنته في المرايا
فأبصر فيها البلاهة واضحة
قال: هم يفهمون..
لعلي أكون غدا.!
عموما، فإن هذا اللون من الغربة داخل ضمنًا في كل ألوان الغربة الأخرى التي نستطيع ملاحظتها في بقية النصوص.
ومنها، أيضا، الغربة الاجتماعية: (عن الأهل، والأصدقاء، والأم، والمحبوبة، وغيرهم).
سأنزل عبر المواسير
كي لا يرى الدائنون جيوبي
وحين أدق على الباب
ــ في آخر الليل ــ
لا تفتحي.
العديد من الصور يصب في هذا المعنى، فالطريق إلى حضن أمه محاصرة بالعساكر.. وبالرغم من أنه يضحك في وجوه العابرين، ويعرفه القهوجية والبلطجية والنساء الجميلات، إلا أنه محروم من المعاني الصافية والعميقة للحب والصداقة.
عاد من شارع في الخريطة
للبحر والأصدقاء
وطول الأظافر
واللحية المزهرة
رحلوا
واحدًا.. واحدًا
باتجاه الشماتة.. والثرثرة
وهو ظل يمد يديه
إلى الحلوة العابرة..!
ويتسع معنى الغربة ويتعمق، حتى نلاحظ ما يمكن أن نسميه بـ(الغربة الحضارية).
كُتبت قصائد هذا الديوان في الفترة بين عامي 2011 و2014.. وبالتوازي مع غربة الشاعر عن الوطن، وغربته الذاتية، جاء إحساسه بالعالم العربي، وبالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأزمته الحضارية التي يمر بها.
عن أجواء الثورات والحروب، والعصابات والميليشيات، والحكومات الفاسدة، والسلطات المستبدة، تأتينا العديد من النصوص والصور الشعرية الرافضة للواقع المأزوم.
وأيضا عن امتداد هذا الواقع في التاريخ العربي، تأتينا نصوص وصور شعرية رافضة لهذا التاريخ.. لتتعمق غربة الشاعر، وتتحول إلى غربة زمنية تاريخية ممتدة عبر الزمكان العربي، بكل ما يحمله من تاريخ وجغرافيا وحضارة.
فزُر حصة الماضي ترَ الكل راسبًا
وإن أخرسوا التاريخ، وقتك زاعقُ
شيوخ على ذبح الحسين توافقوا
إلى لحمه فوق الثريد تسابقوا
وقالوا هو الحَجَّاجُ تاب بحجةٍ
وهيهات.. ما تاب الشقيُّ السوابقُ
... ومن كان بستان الجماجم بيته
فلا الورد وهّاج.. ولا العطر صادقُ
وأخيرا، تزداد الغربة اتساعا وعمقًا، لتصل إلى أقصى مداها، فيما يمكن أن نسميه بـ(الغربة الكونية).. تلك التي تشمل الوجود الذاتي للإنسان، وعلاقته بالوجود الكوني اللانهائي.
الموت والحياة، والمصير والقدر، والزمن والتاريخ، والعالم، والكرة الأرضية كلها، هي المساحات التي يملأها هذا اللون من الغربة.
في قصيدة بعنوان (روليت) ــ لعبة القمار المعروفة ــ يرسم لنا الشاعر لوحة فنية كونية رائعة، تُعبر بشكل مُركّز جدا عن هذا اللون الكوني للغربة.
في تلك القصيدة، نجد الأرض نائمة في رقاد طويل، والجبال هي بيوت أحلامها، ثم نراها عجوزا متصابية، ذاهبة إلى الكوافير، وثيابها منشورة على الغيوم، والبحيرات أحذية مصقولة لأقدامها.. ونظل نتابع تلك اللوحة الفنية إلى آخرها، إلى أن نكتشف أنه: إذا كان الأمر كذلك،
إذن..
فلنتابع رهان الروليت
مع الموت
دون ارتعادٍ
وتجري..
كما شاءت الكرة الألعبانُ
على زيت أرقامها.
وهكذا، فإن الغربة تظل تتمدد وتتسع، عبر صفحات الديوان، حتى تصبح أكثر سماته عُمقا وأصالة.
والآن، وبعد أن وصلنا ــ فيما نعتقد ــ إلى المفتاح الأخير، والأكثر عُمقا، فإننا نستطيع ــ أخيرًا ــ أن نفتح هذا الديوان، لنبدأ في قراءته.
... ... ...
الجزء الثاني: أسرار العنوان
الجزء الثالث: الرموز والتنبؤات

ليست هناك تعليقات: