الجمعة، يناير 21، 2011

أرقام ميسرة صلاح الدين السرية،، و محاولة لفك الشفرة .... قراءة / راقية جلال


نقلا عن موقع / الورشة

صدر منذ أيام الديوان الثالث للشاعر ميسرة صلاح الدين،، بعد ديوانيه السابقين "أنا قلبي مش فارس" و شباك خجل". الديوان الجديد يأتي تحت عنوان "أرقام سرية".. و هو يضم ثلاثا و عشرين قصيدة تتميز جميعها بالتركيز الشديد و الرؤية المغايرة و الاختلاف الواضح، حيث يشهد هذا الديوان نضجا و تكاملا واضحا في أبداع الشاعر.
يفتتح الديوان بقصيدة تبدو كإشارة توضيحية يقدمها الشاعر لقارئه، بأن حلمه تعاظم و لكنه اصطدم دائما بحدود الواقع و قدرة البشر المحدودة على الرؤية و ذلك في قصيدته "مفتتح" .
“أجمل نجوم السما نزل فى ايدى اليمين
حسيت برائته فى كفى
ونوره على وشى
غمضت عينى انما روض خيالى الشوف "
ثم يأخذنا الشاعر – كقراء- بين يدي تجربته الخاصة، يرصد عبر قصائده تجارب عديدة ربما يكون أجمل ما يميزها هو الصدق الشديد و الولوج إلى أعماق المعنى و الرؤية دون اكتراث بأي من الصور التقليدية للرصد، أو السير وراء تشابهات لفظية أو تراكيب موسيقية دون ضرورة، لا تنبع الموسيقى داخل العمل إلا من خلال المفردات الضرورية، و هي –للحق- كثيرا ما تبع في هذا العمل القيم .
لا يخجل الشاعر من تشريح روحه على الملأ و التعبير عن مختلف المشاعر التي مر بها، وقد استطاع دوما ايصال المعنى دون زخارف و بأقل قدر ممكن من الألفاظ فكانت القصائد مركزة و عميقة و كان الشاعر بارعا في استخدام موهبته و ادواته الابداعية.
تميزت القصائد على امتدادها بتكثيف الصورة و اللفظ الأصيل رغم ما يبدو من حداثية التجربة و نزوعها نحو الصور الجديدة في الإبداع المتحرر من كل قيد و المكترث فقط بالتجربة الصرفة، كانت الألفاظ –العامية- رائقة و نقية و قوية و كل منها في محله دون شك.
في قصيدته "حرب باردة" يأخذنا ميسرة لنعرف كيف واجه العالم الكبير الذي يحيط به، و ماذا كانت أسلحته في هذه المواجهة فيقول:-
" النظارة السودا
القلب المتقفل دايما بالأرقام السرية
العطر حيادي الإحساس
أنا دلوقتي مسلح جدا
ممكن أواجه كل الناس "
يأتي الحب خجولا متواريا في هذه المجموعة، فلا يفرد له الشاعر غير قصيدتين فقط و هما "برد و سلام" و "نوة" و على ذلك فقد اختلفت التجربة بوضوح بين القصيدتين و تنوعت الرؤية كثيرا، فبينما في الأولى يترصد متسائلا عن احتمالات اللقاء و مسارات الحدث، قائلا:
و انا و انت و الحلم الشقي
و مرح الطيور
و الشوق ما بينا
جزيرة خضرا
بعيدة عن كل البشر
تفتكري ممكن يحصل ايه
فهو في الثانية يقر بما يراه خياله كحقيقة واضحة فيقول:
كانت شفايفك نوة
و عيونك شبك
يعني الليلادي البحر هيبات عندنا
تتنوع التجارب الإنسانية التي تمسها قصائد الديوان، ففي قصيدته" أوضة ضلمة" و التي تعد من أجمل قصائد الديوان، يرصد لنا الشاعر ضعفه و عجزه و اعترافه بالهزيمة المطلقة
"مبقتش عارف هاعمل ايه؟؟؟"
أما في قصيدته "المحفظة" يرينا ميسرة كيف يخشى من اختفاء الخلصاء
"محفظته كانت فاضية
مش شايل صور".
ثم نسير معه هادئين تؤلمنا تجاربه من روعة ما حكاها و صاغها، فهنا مخاوفه الدفينة و ذكريات طفولته الضائعة:
كان مستحيل في السن دا
يلحق طفولته
و هي لسة بتندبح قدام عينيه
طول عمره عايش بس عالخوف و الدموع
و فصول حياته كلها غضب الشتا
أما في "مشهد قديم" فيطل الحزن الذي يحسم أمر الأحلام ، و في "انتماء" يرصد المشاعر الحارة التي تجمدت، و روحه التي تجري كحصان شارد دون جهة ينتمي إليها، و في "فتوى" يرصد طاعته لشيطانه و تخليه عنه، ثم هو يستشرف أهوال النهايات في قصيدته "يوم عصيب"، و هو ما مسته أيضا قصيدته "آخر سؤال" و لكن من زوايا أخرى و مداخل مختلفة إلى تجربة الموت و مواجهة العمر المذنب بعد انقضاء الأمر و العمر معا.
يعود بنا ميسرة صلاح الدين مرة أخرى لمخاوفه و حيله الدفاعية الشديدة الإنسانية في قصيدته المفارقة "تمثيل"
بعد ما صرخ قوي م الخوف
خاف ليكون الناس شايفينه
غمَّى مشاعره
و كرمش عينه
مثِّل انه مبيصرخش
لكن الدنيا
عشان بتخوف
كل الناس
حبوا التمثيل
في صياد فراش، لا يندم شاعرنا لكنه يخشى الندم، يطرح التجربة على روح غيره و يرى نفسه فيه و فيها ببراعة و ثقل شديدين، ثم يعود بنا داقا رأسه في حائط الأرض الواقعية المريرة في قصيدته "المعجزة", و يعترف بتقاعصه التام عن ابتداء النداء و انتظاره رد النداء رغم ذلك و هذا في قصيدته القصيرة المريرة "فاي"، و في "هروب" كانت الصورة جديدة و جريئة و دخان التجربة مشتعل في سطور قليلة حارقة.
أما قصيدته البهية "كان الشتا"، فإنني أراها جوهرة العمل رغم تعدد المنازعين على اللقب، قصيدة هادئة عميقة ، و تعبيرات شديدة الانسانية و مكاشفة لا تخجل من ضعف أو خوف:
كان الشتا شبهي قوي
و انا كنت شبهه كمان قوي
كانت عيونه حزينة
و عيوني المطر
و الشمس كتر خيرها
مع أول خطر
لمت هدومها و روحت
من غير ما تشغل بالها برسالة وداع
كان مستهين بالوحدة
كِبر و لَخْبطة
بخْلان يسبَّق بالعطا
و حياته شمسية مقلوبة
في الريح الشديد
و يظل الشتاء و نواته و برده بطلا متفردا على امتداد الديوان، يستخدمه الشاعر بديلا عن كل خوف و وحدة و ضياع كما في قصيدته الكثيفة "جليد"
أما في "إنسان فقير" فيعدد لنا ميسرة بوضوح جارح كيف هجرته جماليات الروح و تركته قلبا فقيرا رغم تعدد نعم الله عليه. و هو ما يشبه كثيرا رسالة قصيدته التالية "عابر سبيل" و إن اختلفت المعاني و مواقع الرصد و التصوير داخل الروح.
يعود بنا الشاعر في قصيدته "عقدة ذنب" إلى زاوية صغيرة ضاما الأمل مرة أخرى متمثلا في ضحكة الحبيب، و أن خالطتها دوما مشاعر الذنب و الخوف الكبير، و كأنه لا يستطيع تجرع فرحة كاملة دون منغص لجمال اللحظة أو أمان النهايات.
هكذا يطوف بنا ميسرة داخل روحه و يضع توقيعه الأخير في قصيدته المختصرة كالتوقيع الخاص "توقيع" كاشفا سر صموده رغم كل ما كان، بأن الروح هو سر ثبات الانسان.
ثم................ ننتهي من قراءة الديوان
لنعود إلى بدايته
و ستظهر الكثير من المعاني في كل قراءة، و ذلك من دواعي الابداع.
إن هذا الديوان الجديد للشاعر ميسرة صلاح الدين لهو عمل أدبي من طراز رفيع المستوى، يستحق قراءات عديدة، و لا يبخل على قارئه بتعدد الرؤى و تجددها مرة بعد مرة.

ليست هناك تعليقات: