الكفيل
سقط من رحم الوجع يتيماً، تكفلّ به عمه، ربطه مغمض العينين مُلجماً بناعورة الأيام، يدور كبغل راضخ ينزّ عرقا
تحت أشعة شمس خبيثة تترصده، تُلهب وَبره، تسودّ جلده، وتذهب بما بقي من بياض إنسانية في دواخل روحه المعذبة .تتراكم أويقات الألم لتُعانق وجع جسده ؛ تستولّد الكوابيس عنوة من واحة ظلال يلتجئ إليها لما يعيّل صبره..تعتّمها وتدفع به لبئر عميقة لا قرار لها إلا قعر حضيض يأوي أشباه أشباح
بوجوه مغبرّة تجرجر خطى متكاسلة، وتجترّ من خلفها سحابات دخان نتنة تقطف بكارة الوجود وتمحو ذاكرة المكان، تدبّ أظافرها في عنقه
يصرخ في الأرواح الميتة، تخبو علي ثغره كلمات التوسل والرجاء، يصحو من نومه على كلمات أخوته..:
وداعا ..وداع يا أخانا.. !
تركوه يذهب ، ورددت جموعهم نشيد غربته النازف بين لسان الظمأ المبتور بنصل السكين ..والصدق المطمور في خباء السبيل !
حدثه صديق الألم والمعاناة قائلا:
نحن مشكاة نار الوجع التي تتأوه ولا يطفئ أوارها سوي
ثقل التراب وغياهب القبور..
مات عمه، وانزاح الكابوس الجاثم على حياته كلها ...تحررت نفسه قبل يديه المغلولتين ورجليه المكبلتين ...وأقبل النور على روحه يسابق المتسلل الى عينيه من تحت رباط الارتهان .. كسر الأغلال والقيود، واعتزم الصعود إلى قمة أحلام طالما تاق إليها ؛ هرول يقفز كالقرد في سيرك حياة لا يعرفها ويجهل مكامنها ؛ برأسه تتناسل مجرات بآلاف النجوم الحبلى بالأمنيات، يعكف على قطف عناء الليل عملاً وسهراً وشقاء ؛ تنفذ إليه أضواء الفجر بوميض يبعث الدفء والقُرّ في آن واحد، يقبض ثمن تعبه وعرقه، يرتدى زي الطالب المجتهد، يحصد حروفاً وأرقاماً مبعثرة، يحل المسائل المعقدة، ويجمع ويطرح أرقام كبيرة، يجتاز مرحلة تلو أخري، يمتلك سلاح العلم، ويدرك متأخرا في أسف لاسع أن من يمتلكون هذا السلاح الذي يصدأ في أيدي المغمورين مثله كثر، كغثاء سيلٍ يُصبّ علي قرية مقفرة !
أسكن الشهادة على الحائط، فتلحفّ بها الخواء ، وأذلها العنكبوت، ينظف وجهها الزجاجي يوميا.. يبصق عليها ليزيل الغبار ويبصق على زمن عقيم لم يخصب عملا يقيه ذل السؤال !
يظهر صديقه اللدود متشفيا ساخرا ..
أضف إلى الشهادة التي أرهقتك وأضناك الحصول عليها بعض المقادير لتستوي ، قليل من الماء، ملعقة ملح ، وضعها على النار، ولما تنضج وتخرج عصارة شقائك منها ، اشرب وعب ودلّك أطرافك ببركتها ، ووزع ما فضُل عنك على ذويك وأشباهك الحاصلين على صك الخيبة هذا الذي تفتخرون به وتزدَهون ...يا أبله ..ألا تعرف بعد ... أن ابن الضابط ضابط، وابن المستشار قاض، وابن اللص.....!، وابن الفقري ...شحات...أو بائع قات ..!،
وهل للمعتوهة والمعروك أن ينجبا دكتوراً ؟!
أطفأ التهكم البارد جذوة حماسته وإقدامه، أحرق الشهادة علي " راكية الشاي "، شرب الشاي مُرا، وراح يجوب دروب الحياة من جديد في بحث حثيث عن حلمه المفقود، كلما أخرج من جرابه حلماً يرتطم بأول عقبة، فيحتضر ويموت، وعلى دربه تتلعثم عبارات الفشل، ويرتجف الأمل تحت عباءة اليأس، يدور حول نفسه في فلك الأحزان، يصطدم بالأشباح مُجدداً عبر شريط الواقع السخيف، يتعثر برجل ضخم الجثة ذو شارب كثيف، يصرخ في وجهه:
عندما تكون جاهزاً اضرب.. صفاء وانتباه.. ارقد على الأرض، ازحف عارياً، نفذ وتَظَلَّمْ، انْسَ كرامتك خارجاً في الشارع....
انتهت أيام الذل، حصل على شهادة القدوة الحسنة، فكر في الهجرة من وطنه، هرول خالي الوفاض، إلا من أوراق سطر فيها تواريخ الذل والحرمان أودعها حقيبة، وامتطى سطح قارب لا يعرف إلى أين سوف يتجه به؟
رحل مع أشباهه من المعدمين والمحرومين والحالمين بحياة أفضل، شق القارب طريقه في بحر مظلم كما المجهول الذي ينتظرهم ، حبات دموع تسقط من عينيه، تلألأت كالمَاس تحت ضوء قمر خَفَتَ قبل أن يستدير ويتكور، يناجي ربه:
يا الله، هل خُلقت من أجل العذاب ؟
صورة أبيه وأمه تطوفان على سطح البحر، يُحاول أن يلمسهما، فتذوبان مع الأمواج المتلاطمة ..، القارب سعفة في عين العاصفة ينتفض ..تُنفَض الخلائق من على ظهره المهترئ.. الصرخات والتوسلات ترتفع إلى السماء ومعها الأرواح، وبعدها يعم الصمت الرهيب، يجد نفسه وحيداً يحتضن حقيبته ويجعل منها مطية ، يسبح ويُصارع الأنواء، يلقي به البحر أخيراً على بر الذهب الأسود، يرفع رأسه، رجل هناك ظنه المنقذ المرتقب .. يصادر أوراق هويته ..يلغي حقيقته كإنسان ولدته أمه حرا .. يُطوق رقبته بسلسلة، ويقول...هلا وغلا ..
يعطيك العافية !