أيهما الأهم : مقتل كليبر أم محاكمة سليمان الحلبي؟!.
أي قارئ في التاريخ المصري من مصادره لابد أن يواجه خلال قراءته لتاريخ الحملة الفرنسية هذا السؤال الوارد في العنوان والذي قد يبدو للبعض غريبا لأول وهلة..
كتب التاريخ المدرسية تفرد مساحتها ذات الأهمية في استعراضها لتاريخ الحملة لقصة مقتل كليبر على يد المجاهد الحلبي سليمان، ثم في قفزة - تعكس هشاشة الوعي وغياب الرؤية العلمية الدقيقة من وراء عملية التأريخ التعليمي بأكملها - تخبر قارئها بأن الفرنسيين حاكموا سليمان وحكموا عليه بالموت جزاء قتله للجنرال الفرنسي!. ثم لا تذكر شيئا عن وقائع المحاكمة التي تعتبرها مجرد تفاصيل غير ذات دلالة مهمة، على الرغم من أن وقائع هذه المحاكمة قد شغلت المساحة الأكبر في عدد الصفحات التي أفردها لها المصدر التأريخي الأول لتاريخ الحملة، وهو كتاب "عجائب الآثار" للجبرتي، كما تشغل المساحة الأهم في التأثير على تكوين الفكر المصري الحديث والعقل المصري الحديث والتاريخ المصري المعاصر كله.
لست معنيا هنا بمناقشة بطولة الحلبي وما أثير حولها من سجال تاريخي ينظر إليه على جانب منه باعتباره بطلا قوميا ومجاهدا ضد الاستعمار، وينظر إليه على الجانب الآخر باعتباره عميلا عثمانيا مدفوع الأجر وفق ما أثبتت وقائع محاكمته الفرنسية وما يميل إليه المؤرخ الجبرتي وهو يسمي سليمان الحلبي "أفاقي أهوج". وربما كان هذا السجال السياسي – في غير محله - بأكثر من كونه تاريخيا أو علميا هو أحد الأسباب الهامة لتهميش الأهمية والحساسية التاريخية الماثلة في وقائع وإجراءات محاكمة الحلبي.
الجبرتي بنفسه يجسم لنا أهمية المحاكمة التي تعد – كما يقول د.لويس عوض – لحظة اكتشاف المصريين وجود قواعد العدالة الجنائية والمدنية الحديثة. تعد لحظة تنوير هامة اكتشف فيها المصريون أن القتل لا يجوز إلا لو كان عقوبة قانونية مجتمعية، عقوبة لا تقع دون محاكمة علنية عادلة دقيقة، ولا تتم إلا وفقا لاجراءات جنائية لها قوانين تنظمها، ووفق أدلة وشهود وتقارير طب شرعي ومواجهات بين المتهمين ومداولة بين القضاة ونطق بالحكم ثم تنفيذ معلن للعقوبة.
ولتتجسد أهمية هذا "الاكتشاف" الذي يلخص واحدة من أهم لحظات الصدمة الحضارية في العقل المصري لابد أن نتذكر أنه حتى هذه اللحظة التي أجريت فيها محاكمة الحلبي بعد مقتل كليبر لم يكن في مصر من اجراءات التقاضي والمحاكمات سوى المعنى العرفي أو الفردي أو البدائي الذي يتمحور حول قاضي القضاة التركي الذي يعينه الوالي العثماني ويخلع عليه من قبل الباب العالي. ولم يكن القتل الذي يقع للمصريين بيد المماليك أو فرق الانكشارية من المقاتلة المرتزقة الأجانب أو جنود فرق الجيش العثماني مما يحلم أحد بأنه يمكن أن تكون له عقوبة!، وهي المقارنة التي يعقدها الجبرتي بين عدالة الجيش الفرنسي و"افعال الأوباش الذين يدعون الإسلام ويزعمون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية"، في إشارة إلى الفظائع التي ارتكبها الترك والمماليك في آلاف المصريين بعد خروج الفرنسيين من مصر بشبهة التعاون معهم دون أدنى – طبعا - تفكير في محاكمة.
يقول الجبرتي بلغة القرن السابع عشر في فقرة يبدي فيها دهشته وإعجابه بمحاكمة الفرنسيين ويبرر بها المساحة الطويلة التي شغلتها وثائق القضية في سجلات تاريخه:
"وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تراكيبها لقصورهم في اللغة ثم رأيت كثير من الناس تتشوق نفسه إلى الاطلاع عليها لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة (المحاكمة) ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين وكيف وقد تجارى (جرؤ) على كبيرهم ويعسوبهم (كليبر) رجل أفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم بل رتبوا حكومة وأحضر القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام وسألوه على انفراد ومجتمعين ثم نفذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم".
ويدهش الجبرتي أن ليس كل من اتهم في المحاكمة أدين. وحدث أن برئ "مصطفى أفندي الموصلي" الذي اتهم ظلما بقتل ساري عسكر. كما يدهش من علنية المحاكمة: "ومنها أيضا أنه أمر ساري عسكر رينيه بحضور المتهمين المذكورين قدام القضاة وهم من غير قيد ولا رباط بحضور وكيلهم والأبواب مفتحة قدام كامل الموجودين". كما يورد تقرير (الباش حكيم) والجراح (الجرايحي) عن إصابات كليبر وسبب وفاته واستجوابات الشهود، كما يورد النص الخاص بتشكيل محكمة عسكرية وتعيين مدع عام ومحام للمتهمين يسميه الجبرتي (وكيل الجمهور).
ولنعد الآن إلى مقولات التاريخ المدرسي ومنهاج مؤلفيها في حشو الوقائع لنسألهم: مقتل كليبر كان الأهم إذن أم محاكمة الحلبي كانت هي الأهم والأكثر تأثيرا في العقل والوجدان والتاريخ المصري؟ وهل يعي "رواة سير" التاريخ في الكتب المدرسية أنهم ليسوا مجرد مدوني وقائع سطحية وأن رؤيتهم للتاريخ وروايتهم له لأجيال المصريين يجب أن تتسم بوجود رؤية تاريخية شاملة تمكن كاتب التاريخ وقارئه من تلمس الأهمية الحقيقية للوقائع بعيدا عن مدى إثارتها أو قابليتها لإثارة القارئ، ثم تكون هذه الرؤية بذاتها معيارا لما يجب تكثيف الضوء عليه من أحداث التحليل – وليس الرواية أو التلقين – التاريخي للناشئة؟!