الاثنين، يناير 05، 2015

الأديب محمد عاشور يكتب عن رواية البشموري





في مرة من المرات انتهيتُ من قراءة أحد الكتب الممتعة ومضت فترة دون أن أعثر على كتاب آخر يجذبني لقراءته.. وبالصدفة وقعت عيناي على رواية البشموري، للكاتبة سلوى بكر.. وكنت قد سمعت عنها، وأشاد بها أمامي أكثر من صديق؛ لذا لم أتردد في شرائها، وعدتُ إلى البيت سعيدا بحصولي على نُسختي منها.
منذ السطور الأولى أيقنتُ أنني أمام رواية مختلفة، دفعتني لمواصلة قراءتها لثلاثة أيام كاملة حتى انتهيت منها.. وحينها شعرتُ بالأسف وتمنيت لو أنها كانت قد امتدت لمئات بل وآلاف الصفحات الأخرى. وهذا هو الشعور الذي ينتابني دائما عندما أنتهي من الأعمال الممتعة والفارقة.. وقد كانت البشموري بالنسبة لي كذلك.
رواية البشموري رواية تاريخية تتناول فترة مهمة من تاريخ مصر، فهي تدور في القرن التاسع الميلادي، في زمن الخلافة العباسية والخليفة العباسي المأمون.. حيث يثور البشموريون (أهل دلتا مصر) على والي الخليفة الذي يصرُّ على تحصيل الخِراج والجبايات التي أفقرتهم وأثقلت كواهلهم.
يرفض البشموريون بزعامة " مينا بن بقيرة" دفع الخِراج، ويخوضون معركة شرسة مع جنود الوالي. وحينما يعلم الخليفة يغضب ويُقرر أن يأتي إلى مصر بنفسه لقمع الثورة.. وحينما يعرف الأب "يوساب" رئيس بيعة "السيدة العذراء" بمصر العتيقة يُرسل الشماس "ثاونا" وخادم البيعة "بدير" إلى مينا بن بقيرة برسالة منه يطالبه فيها بفضّ التمرد والعدول عن موقفه حتى لا يناله – هو والبشامرة – أذى الخليفة، وحتى لا يتسببوا في علوِّ كعب الخلقدونيين، عليهم هم التاضوسيين.
الرواية شديدة الجاذبية، وأكثر ما أعجبني فيها : اللغة. فقد نحتت الكاتبة روايتها بلغة مستقاة من لغة تلك الفترة المبكرة من تاريخ مصر الإسلامية، واستطاعت أن تستنطق شخصيات الرواية بجمل وتعبيرات نَقَلت إلينا أجواء تلك الفترة الزمنية باقتدار.
أجادت الكاتبة رسم شخصيات الرواية، فبدت كأنها شخصيات من لحم ودم. وأكثر شخصية أعجبتني فيها شخصية "بدير" الذي يبدأ الرواية كخادم لبيعة في مصر العتيقة، ثم يُقبض عليه أثناء فض ثورة البشموريين ويؤخذ أسيرًا إلى الشام، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى بغداد، وهناك يتعرّف على الإسلام، ويعتنقه عن حبٍّ واقتناع. هناك أيضا شخصية الشماس "ثاونا"، والأب ميخائيل، والحسين بن فالح كبير الفحامين، وغيرهم من الشخصيات المرسومة بعناية، والتي لا تملك بعد انتهائك من الرواية سوى أن تحتفظ بهم في ذاكرتك.
وردت عبارة في الرواية حينما أتأملها أجدها تنطبق على واقع حياتنا بصورة أو بأخرى، وهي: "ما من شيءٍ في عالمِنا هذا يمنح المرء اليقين. كلَ شيء مضطربٌ يا بدير، والتحولات لا تترك لكَ مجالا ترتب روحك عليه بسبب سُرعتها، فما هو كائنٌ اليوم يختفي في الغد، وما تراهُ عينيك في هذه اللحظة سرعان ما يَغيب في لحظةٍ أخرى" 
أليس هذا هو ما يحدث اليوم في حياة كل منا؟
لسلوى بكر سبع مجموعات قصصية وثماني روايات منها: مجموعة " زينات في جنازة الرئيس" ومجموعة "إيقاعات متعاكسة" ، ورواية "سواقي الوقت" ورواية "وصف البلبل" ورواية " البشموري" التي كتبتها عام 1998م، وأطلقتْ عليها وصف: "رواية الروايات".
"البشموري" تستحق القراءة لأكثر من مرة، وتلك سمة من سمات الأدب الذي كُتِب ليبقى.
(
محمد عاشور هاشم)
يناير - 2015

ليست هناك تعليقات: