مستقبل الشعر العربي
فـي ظل سطوة التكنـولوجيا وغيـاب المدارس الشعرية
د. مهدي صلاح الجويدي
على الرغم من ذيوع مصطلح المدارس الشعرية وانتشاره في الأبحاث النقدية العربية وقاعات الدرس الأدبي، فإن قدراً كبيراً من التشابك الاصطلاحي قد شاب هذا المصطلح، على شهرته واتساعه، وتضارَب الاستعمال النقدي في هذا الشأن؛ فالتبس المصطلح وتداخل مع مصطلحات أخرى اكتسبت بعض مشروعيتها من شيوعها والتوافق عليها. واللافت أن مصطلح المدارس الشعرية كثيراً ما تداخل في الدراسات الأدبية العربية مع مصطلح آخر هو مصطلح المذاهب الأدبية(1)، على الرغم من المسافة الشاسعة بينهما فيما نتصور. وهذا الأخير يتساوى لدى كثير من الباحثين مع مصطلحات أخرى مثل مصطلح التيارات الشعرية، أو الاتجاهات الشعرية.
والمذهب الأدبي هو (الطريقة أو الاتجاه الأدبي المستند إلى فهم معين لطبيعة الأدب ووظيفته) (2)، أما المدارس الأدبية (فتتصل مباشرة بالأسئلة الأيديولوجية والاجتماعية والنقدية، وتتصل هذه المدارس بلعبة المواقع والنفوذ الدائر خارج الشعر، وإن تذرعت بالشعر في أحيان كثيرة) (3).
ويبدو مصطلح الجماعات الشعرية، أو الجماعة الشعرية، غير بعيد عن هذا الركام الاصطلاحي المتشابك. صحيح أن مصطلح “الجماعة” ليس جديداً في حقل الدراسات الأدبية، إلا أنه شاع منذ إطلاقه على حركات أدبية بعينها، وتبادل هذا المصطلح مع مصطلح المدارس الشعرية، فكان رديفه، أو بديلا عنه؛ ففي تسمية بعض الحركات الشعرية مثل مدرسة الديوان على سبيل المثال كثيراً ما نقرأ عن “جماعة الديوان”، أو “مدرسة الديوان”، والأمر نفسه ينسحب على “جماعة أبولّو”، أو مدرسة “أبولّو”. في الوقت نفسه نتحدث عن المدارس الشعرية العربية الحديثة الأكثر شهرة وذيوعاً، فنذكر المدرسة الكلاسيكية، ثم المدرسة الرومنسية، مروراً بمدرسة الديوان، ومدرسة المهجر، ومدرسة أبولّو، ومدرسة الشعر الحر. وحين نرصد المذاهب الأدبية(4) نتحدث عن الكلاسيكية، والرومنسية، والواقعية، والرمزية، والبرناسية. وما يستوقفنا هنا هو تأرجح الكلاسيكية والرومنسية على وجه التحديد بين مفهومي المدرسة الشعرية تارة، والمذهب الأدبي تارة أخرى.
ها هنا يكون التمييز بين المفهومين ضروريًا، لا سيما أن ثمة فوارق بينهما نذكر منها:
أولاً: أن المذاهب الأدبية سابقة على ظهور المدارس بالضرورة.
ثانيًا: أن المذهب إطار جامع، ذو طبيعة شمولية، تؤثر مقولاته النظرية في المدرسة الشعرية وليس العكس.
ثالثًا: أن المذهب ذو طبيعة نظرية في الغالب، بينما تقوم المدارس الشعرية على تطبيق العناوين التي تقوم عليها ركائز المذهب، وإن ظلت المدرسة الشعرية تحتفظ بشيء من النظر.
رابعًا: أن المذاهب الأدبية تمتد تأثيراتها - على نحو واسع - في أكثر من فن؛ فالرومنسية مثلا انتشرت في الأدب والشعر، والمسرح، والرسم، والنحت، والفنون التشكيلية وغيرها.
خامسًا: أن المذاهب الشهيرة تمتد وتنتشر خارج حدود نشأتها، أما المدارس الأدبية فهي ذات طبيعة جغرافية محدودة، وإن قيض لها الامتداد فإن انتشارها يبقى في نطاق أضيق.
وأخيرًا، فإن المذهب قد يضم أكثر من مدرسة شعرية، أو بتعبير أدق قد يؤثر في أكثر من مدرسة؛ فتنضوي مدارس شعرية عدة تحت مظلة مذهب واحدك فمدارس الديوان، والمهجر، وأبولّو، تأثرت جميعاً بالمذهب الرومنسي.
ووفقا لهذا التصور كانت تسمية مدرسة الإحياء والبعث أكثر دقة، إذ إنها تندرج هي وما عرف بالكلاسيكية الجديدة تحت مظلة المذهب الكلاسيكي، وعلى هذا النحو يمكن النظر إلى مدرسة الديوان، ومدرسة المهجر ومدرسة أبولّو بوصفها الجماعات الأدبية التي تأثرت بالمذهب الرومنسي.
أما مصطلح مدرسة الشعر الحر، فتنفتح معه إشكالات من نوع آخر، تتصل بحركة شعرية النثر فيما بعد؛ ذلك أن الأطر التي حددت إطلاق مفهوم المدرسة على قصيدة التفعيلة، سواء فيما يتصل بالبنية الشكلية أو الرؤى والتصورات الأيديولوجية تتشابه مع تلك التصورات التي قامت على أساسها تسمية النص النثري بقصيدة النثر.
البنية الشكلية في قصيدة التفعيلة تقوم على وحدة السطر الشعري بديلا عن البيت المشطور، ووحدة التفعيلة، وعدم الالتزام بتوزيع محدد للقوافي، وقد دعا روادها في الوقت ذاته للجوء إلى الرمز والأسطورة والطاقة الإيحائية، والصور الجديدة الممتدة والتعبير عن الواقع، وتحدثوا عن الوظيفة الاجتماعية للشعر، وكذلك الدعوة إلى التحرر والاستقلال ...إلخ(5). أما قصيدة النثر فقد قامت على بنية شكلية مختلفة تتمثل في إسقاط الوزن العروضي، والاعتماد على أشكال إيقاعية أخرى مثل النبر والتنغيم، والتكرار الحرفي، وغيرها، بالإضافة إلى مجموعة من الرؤى المضمونية التي تكرس مفاهيم الوحدة والعزلة، والتعبير عن هموم الذات الشخصية، والحديث عن التفاصيل الصغيرة التي تتعلق باليومي، والمعيش، وتفاصيل الحياة اليومية(6).
وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن السؤال الذي تجدر إثارته هو: لماذا لم يطلق الأدباء والمشتغلون بالأدب على حركة قصيدة النثر (المدرسة النثرية) مثلا؟ لا سيما وأن الشكل البنائي هو السمة الأبرز في هذه القصيدة(7). علينا أن نؤكد في هذا السياق أن المعايير التي تحدد إطلاق مفهوم المدرسة على حركة الشعر الحر تنطبق كاملة على حركة قصيدة النثر، والذي اختلف - في واقع الأمر - هو تبدّل المسميات وفقا لتغيرات ومحددات أخرى يتصل بعضها بالمزاج الأدبي إن جاز التعبير، وبعضها الآخر له علاقة بطبيعة العصر، ودخول عوامل أخرى في تشكّل الحركات الأدبية عمومًا. ها هنا نستدعي مفهوم الجماعة مرة أخرى؛ ذلك أن الحركات الأدبية المختلفة، والتي تشكّلت على هيئة موجات شعرية متلاحقة، لم تتوقف عن الحركة، وادعاء تجاوز المراحل التي سبقتها، وأنها تقوم على أفكار تفارق ما قامت عليه الحركة السابقة عليها، ولكن مع سيرورة هذا التطور اتخذت مسميات أخرى، وتقدّم مصطلح الجماعة الشعرية على مصطلح المدرسة. والجماعة الأدبية - بحسب تعريف سترونغ- هي “تجمع عفوي لأشخاص يفكرون بطرق متشابهة”، أو “رد فعل عفوي على الظرف التاريخي”. أما فريدمان الذي درس ظاهرة الجماعة الأدبية، فيراها عملا أميل إلى التجمع الواعي منه إلى التشكل العفوي، لكنه يشير إلى دوافع مشابهة لتلك التي لاحظها سترونغ”(8). وهو ما ينسحب على مفهوم المدرسة الشعرية ذاته، خاصة فيما يتعلق بتشابه التصورات، والظرف التاريخي. والذي حدث هو تبدّل المفاهيم، واتخذ مسمى الجماعة الشعرية الصفة الأشهر، ومن ثمّ رأينا “جماعة مجلة شعر”، التي تأسست في بيروت عام 1957، بريادة يوسف الخال، وخليل حاوي، وأدونيس، ونذير العظمة. ثم انضم إليها أنسي الحاج فيما بعد، وقد أطلق جبرا إبراهيم جبرا على هذه الجماعة مسمى آخر هو “جماعة الشعراء التموزيين”، إلا أن اشتهارها بجماعة “شعر”، أو جماعة “مجلة شعر” هو الأكثر شيوعًا. وما يلفت انتباهنا في مسمى جماعة مجلة شعر أنها اتخذت من نافذة النشر عنواناً رئيساً لها، وهو تغير لافت على مستوى التسمية من زاويتين؛ الأولى تتصل بتغيّر المسمى من مدرسة إلى جماعة، والثانية تتعلق بإطلاق اسم المجلة على مجموعة من الشعراء تبنّت مجموعة من التصورات وتوافقت عليها وراحت تنشرها من خلال هذه المجلة(9). هذا لا يعني أنه لم يكن ثمّ ارتباط بين الحركات الأدبية والنوافذ أو الأشكال المؤسسية، فقد ارتبط تطور حركة أدباء المهجر بمجلة الفنون التي تأسست عام 1912، وكذلك بجمعية الرابطة القلمية التي تأسست في أمريكا 1920(10). بينما ارتبطت حركة الشعر الحر بمجلة الآداب التي كانت تصدر في بيروت على سبيل المثال. وكان من الأولى أن تطلق جماعة مجلة شعر على نفسها مسمى يتعلق بقصيدة النثر بحكم ارتباط هذه القصيدة برواد الجماعة في البداية! وهو ما لم يسع إليه شعراء هذه الجماعة، ربما لأسباب تتصل بمسمى القصيدة النثرية في بداياتها، والخلاف حول مسماها.
في هذا السياق تعددت البؤر والمراكز الشعرية على اتساع الوطن العربي منذ الستينيات من القرن الماضي، وأصبح من العسير متابعة كل الجماعات الشعرية التي نشأت في أقاليم جغرافية متعددة، ولم تقيض لها الشهرة ذاتها التي حظيت بها جماعة مجلة شعر، وربما كان الاستثناء في ذلك جماعة كركوك الأدبية في الستينيات، وجماعتا “أصوات” و“إضاءة” في مصر في السبعينيات. وفي سلسلة من التطورات المتلاحقة تغيرت المسميات، وتبدلت خريطة المفاهيم، فتقدم مفهوم الجيل على حساب مفهوم الجماعة، على الرغم مما ينطوي عليه مفهوم المجايلة من منزلقات فكرية، وتباينات إبداعية واضحة، إلا أن شيوع المفهوم قد حظي بالنصيب الأكبر في مصر والعراق والشام والمغرب العربي في النصف الثاني من القرن الماضي؛ فصرنا نقرأ عن جيل الستينيات، وجيل السبعينيات، وجيل الثمانينيات، وانتهاء بجيل التسعينيات (11). ها هنا يمكن التوقف لتأمل المسألة؛ ذلك أن ما نطرحه الآن يذهب إلى أن تلك الحركات الشعرية، والجماعات، والأجيال، ما هي إلا مسميات لكيانات شعرية قامت على أساس مجموعة من الرؤى المشتركة، والظروف التاريخية، والأسس الجمالية التي شكّلت مفهومها أو مسماها الخاص. وهو ما يعني أن مفهوم المدارس الشعرية لم يغب، بقدر ما تبدّل. وفي هذا التبدل الكبير للمفاهيم والرؤى والمسميات، طرأت ظواهر جديدة على طبيعة الشعر العربي الحديث، جعلت متابعته والوقوف على توجهاته، أمراً في غاية الصعوبة، وأصبحت مراقبة الحركات الشعرية تتجاوز الجهد الفردي، وتتطلب جهوداً متضافرة لرصد مسيرة الشعر العربي في هذا العصر المتلاحق.
ومن أهم هذه الظواهر الطارئة، التطورات التكنولوجية المتلاحقة، والتي كان أبرزها انتشار التعامل مع شبكة الإنترنت، وانصراف معظم الشعراء إلى المواقع الإلكترونية الأدبية لنشر إبداعاتهم ومحاوراتهم الشعرية والثقافية، وهنا نستطيع القول إن تغيرًا فارقًا قد حدث في مسيرة الشعر، اختلفت معه وسيلة النشر، والوسيط، وعمليات الإنتاج الشعري وتلقيه في آن واحد، وأصبحنا نتحدث عن الكيانات الشعرية من خلال مفهوم مصاحب للنشر الإلكتروني هو “المواقع الإلكترونية”. لقد اندفع الأدباء نحو هذه النافذة الإلكترونية الجديدة، اندفاعًا محمومًا إلى حد أن درجة حماسهم إلى الوسيط الجديد، ووسائل النشر الإلكترونية أفرزت مقولات مفاجئة كتلك التي أطلقها الكاتب الأردني محمد سناجلة: “لقد انتهى عصر الورق”(12)، وانتشرت مفاهيم أخرى متعددة؛ مثل الإبداع الرقمي، والواقع الافتراضي، والنص التفاعلي، والنص المترابط Hypertext (13) وغيرها. على أن كثيرًا من هذه المفاهيم كان يرتبط بالنص الروائي المنشور على الإنترنت نشرًا إلكترونيًا، فماذا عن موضوع النشر الإلكتروني للنصوص الشعرية على الشبكة؟ وما طبيعة التجارب الشعرية التي يتم نشرها؟ وما الفارق بين نشر هذه النصوص على الشبكة العنكبوتية، ونشرها على الورق؟
نقطة البداية الحقيقة هي المواقع الإلكترونية المتخصصة. صحيح أن البدايات الحقيقية كانت في محاورات الشعراء عن طريق الشات وغرف الدردشة، ولكن هذه المساجلات كانت ذات طبيعة فردية شخصية ولم ترق إلى صناعة الظاهرة التي نعرف الآن على شبكة الإنترنت. سأختار ثلاثة مواقع إلكترونية أمثلةً على الظواهر الجديدة في طبيعة النص الشعري، وطبيعة تلقيه، والفوارق بين هذه المواقع الإلكترونية، لا سيما تلك الفوارق التي قد تؤثر في عمليات إنتاج أو تلقي النص الشعري. وهذه المواقع الإلكترونية الثلاثة أسوقها نماذج مُمثِّلة فحسب للمواقع التي اهتمت بنشر النصوص الشعرية، وهي موقع “جهة الشعر”، موقع “الورشة الثقافي”، وموقع “إنانا” الأدبي.
فيما يتعلق بجهة الشعر الذي أنشئ في 1996 بإشراف الشاعر البحريني “قاسم حداد” ثم تحوّل إلى مؤسسة بعد ذلك، فقد اهتم الموقع بنشر النصوص الشعرية لشعراء مختلفي المشارب والتجارب، واهتم في الوقت ذاته بنشر سير عن بعض الشعراء، يسهم فيها المشاركون بإسهاماتهم، وكذلك اهتم الموقع بنشر بعض القراءات النقدية في الشعر والرواية. ويمكن بعد القيام برحلة عبر روابط وأقسام الموقع أن نكتشف أن ما ينشر فيه من نصوص لا يكاد يختلف كثيرًا عما ينشر في الصحف الورقية والمجلات. على يسار الصفحة الرئيسة في الموقع تستطيع أن تقف بالفأرة دون ضغط على أحد العناوين هو (الجهة الخامسة) على سبيل المثال، ومن ثم يبرز لك مستطيل كتب فيه “تجارب في الإبداع الإلكتروني” ، وعندما تصل إلى الصفحة لا تجد سوى مجموعة من المقالات (من خلال قائمة “اختر”) تدور حول الإبداع الرقمي. وخلاصة القول إن الموقع على الرغم من كونه رائدًا في تجربة النشر الإلكتروني، إلا أن ما يقدّم إليه من نصوص لا يكاد يختلف كثيرًا عن النصوص الورقية. والاختلاف الوحيد هو وجود بعض النصوص بأصوات الشعراء، أو بالصوت والصورة وهو أمر لا يقدم اختلافًا ذا قيمة على مستوى التجربة الرقمية. لكن مقتضيات التجربة تفرض القول إن شهرة الموقع وانتشاره قد منحاه اختلافا آخر على مستوى تشكُّل الظاهرة وهو وصوله إلى آفاق جغرافية، وعدد من القراء لم تكن تتيحه الصحف أو المجلات الأدبية، وهذا الأمر قد ينطبق على مختلف المواقع الإلكترونية، يضاف إليها أمور أخرى كثيرة، مثل سهولة التصفح وسرعته، وسهولة البحث، وإمكانات الاقتباس..إلخ.
أما موقع الورشة الثقافي فقد أسس في مارس من عام 2006، بجهد فردي قام به الشاعر المصري “أحمد يحيى”، والتقى فيه مع “جهة الشعر” في أبواب كثيرة، إلا أنه اختلف عنه - ربما لأنه الأكثر حداثة - بتفاصيل أخرى، مثل اهتمامه بفنون أخرى كالموسيقى، وفنون السينما، وتقديم نشرة إخبارية متنوعة تتصل في غالبيتها بالأدب وقضاياه، بالإضافة إلى الأبواب الأخرى، مثل الدراسات النقدية و“ببلوجرافيا المبدعين”، و“جاليري الورشة”، و“إصدارات” ..إلخ. ويحتل النشر (نشر النصوص) في “الورشة” مكان الصدارة والاهتمام، وتتيح - من زاوية أخرى - فكرة التفاعل مع النص المنشور عن طريق مساحة للتعليق على النصوص المنشورة والتفاعل معها، وقد تصل عمليات التفاعل حول نص بعينه إلى حد تراكم القراءات، أو تفاعلها، بمعنى أنك واجد تعليقًا على النص، وقد تجد تعليقًا على التعليق، وتفاعلات أخرى حول النص والتعليقات المثارة حوله. هذا ولم تخصص الورشة اتجاها بعينه في النصوص الشعرية التي تنشرها، ولم تتبنّ حركة أدبية تمثل اتجاهًا، أو حركة تضم مجموعة أدبية لها تصورات موحدة، متجانسة، أو متشابهة، وإنما تجاورت النصوص وتنوعت التجارب، سواء على مستوى التصورات الموضوعية والأيدلولوجية، أو على مستوى الشكل البنائي؛ فتنشر النصوص النثرية، ونصوص التفعيلة، والشعر العمودي، متجاورة بعضها إلى جوار الآخر، وإن غلب الشكل النثري من حيث عدد النصوص المنشورة.
أما موقع “إنانا الأدبي” فقد حاز شهرة واسعة، واستقطب عددًا كبيرًا من القراء والمبدعين، وهو يضم مجلة، وإذاعة، ومنتدى، ويقيم حلقات نقاش وإسهامات نقدية قد تتسع لتشمل قضايا تخص الأدب العربي، وأخرى خارج
نطاق الأدب. ولا يكاد يختلف الموقع كثيرًا عن المواقع الأدبية الأخرى، ولكنه شكّل كيانًا أدبيًا يعتني بالنشر، وإدارة الورشات الأدبية والنقدية حول الأدب وقضاياه.
من أهم الظواهر الطارئة، التطورات التكنولوجية المتلاحقة، والتي كان أبرزها انتشار التعامل مع شبكة الإنترنت، وانصراف معظم الشعراء إلى المواقع الإلكترونية الأدبية لنشر إبداعاتهم ومحاوراتهم الشعرية والثقافية، وهنا نستطيع القول إن تغيرًا فارقًا قد حدث في مسيرة الشعر، اختلفت معه وسيلة النشر، والوسيط، وعمليات الإنتاج الشعري وتلقيه في آن واحد،
إلا أنه فيما يخص طبيعة النصوص الشعرية المنشورة على المواقع الثلاثة، نلاحظ أنها لم تستطع أن تستفيد من تقنيات الوسائط المتعددة في تطوير بنية الشكل الشعري، ولا في الرؤى النصية ذات العلاقة بالمضمون. وكذلك لم تدخل الصورة الرقمية - مثلا - النص الشعري، مثلما هو الحال في دخول الصورة الرقمية الثابتة والمتحركة في تشكيل النص الروائي، ولعل التجارب الروائية الإلكترونية (شات، ظلال الواحد، صقيع) تؤكد ما يذهب الباحث إليه. أضف إلى ذلك أن مسألة التفاعل عبر الشبكة الإلكترونية، والذي تتيحه بعض المواقع دون غيرها، هو تفاعل يغلب عليه طابع المجاملات السريعة، والتهنئات المقتضبة، فالشاعر يرسل نصه إلى الموقع الإلكتروني، ويقوم مجموعة من القراء بإضافة تعليقاتهم على هذا النص، وبمراجعة بسيطة لبعض النصوص المنشورة تجد أن التواصل بين الشاعر والقراء لا يتجاوز كلمات التهنئة، وكثيرًا ما يكتفي المعلقون باقتباس مقطع من مقاطع النص لإبراز إعجابهم بهذا المقطع أو ذاك.
إن الطموح الهائل والتضخيم الدعائي الذي صاحب المفاهيم المرتبطة بالفضاء الإلكتروني وسّع من فكرة التفاعل إلى حد القول بأن هناك نصًا “يتم إنتاجه بالمشاركة بين المؤلف والقارئ، فالمؤلف يطرح فكرة، أو يكتب جزءًا من النص، ويشاركه القارئ من خلال التواصل عبر الإنترنت في إضافة أجزاء أخرى، وهكذا يتمدد النص بتعدد القراء، ومن ثم ينهض النص من وجهة نظر مشتركة، إضافة إلى أن القارئ قد يعطي الفرصة لتفاعل أكبر، بأن يعلق فورا على العمل، أو يتواصل بالبريد الإلكتروني مع المؤلف”(14). العملية التي نسميها التفاعل هنا تفتقد في الحقيقة إلى رؤى متكاملة، أو أطروحات تتسم بقدر من التماسك، أو تسعى إلى تقديم قراءة عميقة تستجلي طبيعة النص أو طبيعة الظاهرة. فهل ينجح العالم الافتراضي في إحداث الطفرة النوعية التي يمكن أن نتحدث فيها عن ظاهرة شعرية تفارق المعروف بشكل جذري؟ هذا العالم الافتراضي الذي يفتح طاقات هائلة لعمليات التخييل كان ينتظر أن تستفيد منه القصيدة المنشورة إلكترونيًا، وتستثمر إمكانات توالد الصور بشكل لانهائي، وإمكانات إنتاج ملايين الصور الوهمية التي لا تستند إلى أي مرجعية في عالم الواقع، ودخول ذلك عالم الإبداع من بابه الواسع، إلى حد وصف بودريار بأننا صرنا نعيش في عالم الصور “إن العالم مجرد صورة، نقلا عن صورة، نقلا عن صورة، وأصبح العالم مجموعة من عمليات المحاكاة والصور غير ذات الأصل المحدد. لم تعد هناك صورة وأصل، بل صور ذات أصول متعددة.. لقد تآكل مبدأ الواقع في متاهة الصور اللامتناهية. عالم من الصور المتخيلة، والمخلقة، والوهمية التي تنشرها وسائل الإعلام هنا وهناك، وواقع يفقد يقينه شيئًا فشيئًا.. صور حول صور أكثر من كونها صورًا حول واقع أو حقيقة. نسخ مخلّقة بطريقة كومبيوترية تفوق بمراحل كثيرة الصور المخلّقة بأشكال آلية...إننا نعيش الآن في عالم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي، والفضاء اللانهائي الذي يتحكم فيه الكومبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية”(15)
إن النشر الإلكتروني إذا لم يستثمر الإمكانات الواسعة في هذا العالم الافتراضي الواسع، فإننا “لا يمكننا أن نتحدث عن النص الجديد... لا يمكننا أن نتحدث عن النص العربي الجديد حتى وإن قدمناه على الشبكة، واستعملنا تقنيات الحاسوب.. لأن بعده الخطي يظل هو الأساس”(16).
وأخيرًا جاءت مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر لتؤثر تأثيرًا مباشرا على المواقع المتخصصة، وهو تأثير كبير في الواقع؛ إذ انصرف عدد كبير من الشعراء عن النشر في المواقع الإلكترونية الأدبية المتخصصة، متجهين إلى مواقع التواصل الاجتماعي لنشر قصائدهم وإبداعاتهم، وهو ما أفضى إلى فوضى عارمة في عمليات الإبداع، واستعمال مصطلح الفوضى هنا لا يأتي من قبيل التحكم في سيرورة الإبداع أو إصدار حكم قيمة ما، بقدر ما يمثل رصدًا لواقع ملموس لا يمكن إنكاره. على مواقع التواصل الاجتماعي لا تُفرَزُ القصائد المنشورة، وأي شخص يمكنه أن ينشر نصا يسميه نصًا شعريًا، وسيجد من يرسل له التهنئة ويقتطف مقاطع من نصه ليبرز إعجابه بها، على الرغم من أن ما يقدمه يفتقر إلى أي ملمح شعري أو إبداعي، ومن ثم أصبح أي شخص يمكنه أن يكون مبدعًا وله قراؤه ومريدوه، ووصل الأمر إلى حد القول بالقصيدة الحاسوبية، أو القصيدة التي ينتجها الكومبيوتر بنفسه. لم تعد ثمة رؤى أو تصورات تمثل أطرًا جامعة بين الشعراء، ولكن الأفق لا يزال مفتوحًا لأن تتمكن مجموعات التواصل الاجتماعي من تقديم حركة شعرية ذات ملامح بارزة، لم تتضح معالمها إلى الآن.
الهـوامـش
1- انظر على سبيل المثال كتاب “في النقد والأدب” لإيليا حاوي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1986. وكتاب “مدارس الأدب المقارن”، د سعيد علوش، المركز الثقافي العربي، 1987.
2- المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، د شكري عياد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت،1993، ص 222.
3- مقالة شربل داغر ضمن كتاب “الشعر العربي الحديث”، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مهرجان “القرين الثقافي” الثاني عشر، 2005.
4- هناك بالطبع أحاديث كثيرة عن المذاهب الأدبية، وأنها تعد مؤشرًا على طبيعة العلاقة مع الغرب، ومقدار التأثير أو التأثر، أو التفاعل بين الحضارتين العربية والغربية، وهو ما آثرنا تحاشي التطرق إليه لدواع تتعلق بطبيعة هذه الدراسة، ولكن يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى كتاب المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، د شكري عياد، سبق ذكره، ص 17.
5- انظر “اتجاهات الشعر العربي المعاصر”، د إحسان عباس، عالم المعرفة، الكويت، فبراير 1978، ص 16-28.
6- يمكن تتبع ملامح قصيدة النثر من خلال كتاب “قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية”، عبد العزيز موافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006.
7- هناك بالتأكيد مقولات عامة أطلقها شعراء هذه القصيدة تضاف إلى ما قيل عن ملامح قصيدة النثر، لا تتعلق بالشكل البنائي وحده، مثل اهتمامهم بقضايا الذات الفردية على حساب القضايا الكبرى، وسقوط مفهوم الشاعر النبي، والشعور بالعزلة والانكفاء، بالإضافة إلى أمور أخرى ارتبطت بالشكل وطبيعة اللغة على نحو خاص.
8- الثقافة بين الجماعات الثقافية والمؤسسات الثقافية، عطارد حيدر، جريدة جدار الإلكترونية، 29/12/2005.
9- كانت جماعة أبولّو قد أصدرت مجلات عدة على رأسها مجلة أبولّو، ومن ثم فاتخاذ جماعة شعر اسمهم من اسم المجلة التي ينشرون فيها إبداعاتهم، لم يكن جديدا كل الجدة، وإنما سبقتهم أبولّو، انظر: الأدب العربي المعاصر في مصر، د شوقي ضيف ، دار المعارف، القاهرة، 1983، ص 71.
10- فصول في الشعر ونقده، د شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة،1988، ص 292.
11- انظر “السبعينيات ما قبلها وتلاها؛ رؤية في التحقيب العشري لأجيال الحداثة الشعرية في العراق”، حكمت الحاج، مجلة اللحظة الشعرية، العراق، العدد 19، صيف 2010.
12- محمد سناجلة، نحو نظرية أدبية جديدة
sanajleh@yahoo.com -
www.sanajlehshadows.8k.com
13- من النص إلى النص المترابط: مفاهيم، أشكال، تجليات، د. سعيد يقطين، مجلة عالم الفكر، العدد: 2، المجلد32، أكتوبر/ ديسمبر2003، ص 83.
14- النص المتشعب ومستقبل الرواية،د عبير سلامة
www.alimizher.com/n/3y/studies3/studies3.htm
بتاريخ23نوفمبر 2003.
15- عصر الصورة، السلبيات والإيجابيات، د. شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، الكويت 2005،ص 393.
16- من النص إلى النص المترابط: مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي، د سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2005، ص167
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق