‘الكتابة والمرأة’ أو ‘التشكيل والمرأة’ أو ‘الإبداع والمرأة’ عناوين تحيل إلى موضوعة واحدة، موضوعة الجندر التي ما فتئ نقاش يتنامى ويتزايد حولها، ليس فقط من حيث الإواليات التي يتأسس عليها ما يسمى ”بمقاربة النوع” بل في المضاعفات التي خلفتها في تاريخ الأدب والمؤسسة بشكل عام.
نحن هنا لا نود الانخراط في الجانب الأول ولا حتى متابعة تاريخ المؤسسة، بما يفيده هذا الأخير من ذكر النساء، في التاريخ الإنساني. وإنما الذي يهمنا هو التفكير في العنوان كأفق للمساءلة والتأمل. لنتأمل العنوان الأول المُنْبني على كلمتين وحرف الوصل. الكتابة / المرأة / والواو.
المرأة مرآة للذات. أو هو الآخر الذي يعكس صورة الأنا الكلمة تفيد ذلك، أي حين لا نضع الهمزة على الألف، فإن الكلمة حاضنة للتأويل والمعنى. إذن بأي صيغة تفيد الكلمة هذا القلب. صحيح أن المرآة تفضحنا، تعكس رؤيتنا إلى العالم.
الأنا متعدد وإن كان واحدا. بهذا المعنى نفهم حكاية الخلق كحكاية ما انفكت تحضر وتغيب في الذاكرة والأثر. ألم يقل القرآن ان ‘حواء’ خلقت من ضلع ادم، ليرى نفسه فيها. إن قصة الخلق تنزاح نحو خروج آدم وحواء من الجنة بفعل الغواية.
الغواية هي الوسيط الذي انحفر في الذات ليعلن عن استقلالية مفترضة. لكن من أي زاوية نظر نربط الحكاية بالمرآة؟ أو على الأقل كيف ننظر إلى الكتابة بكونها مرآة و امرأة؟ ألا يعني هذا السؤال مخاطرة تبتغي المغامرة. بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. هنا تكون الكتابة عريا لصاحبها أو لصاحبتها، ما دامت لعبة المرايا تحجب أكثر مما تظهر. إن اختلاف الجنس في الحدود الذي يمثله بين ذكر وأنثى، حدان متوازيان. إلا أنهما يلتقيان في جنس ثالث مغضوب عليه ومرفوض في المؤسسة القانونية والدينية والاجتماعية…إلخ أي لا هو بذكر أو بأنثى وإن كان هذا الأخير قد أثث المخيال السفلي في الثقافات الإنسانية، سواء عند الإغريق أو في الثقافة العربية الإسلامية (ألف ليلة وليلة، كتاب الأغاني وما تناقلته المأثورات العربية من داخل القصور وغير ذلك) إذن لنزل الطرف الممنوع من تفكيرنا الآن، ولنر ما تخفيه المرأة باعتبارها الآخر الذي يسكننا ولنقل باحتيال شديد أن الكتابة امرأة، ليس من حيث تاء التأنيث محددة لهما، وإنما من حيث هي مرآة تعريها معا، أو على الأقل، تعري الوسط الذي يفيد العلاقة، وهذا هو الأمر الذي نريد الاشتغال عليه كما لو كان هو البياض الموجود بين الكلمتين، بياض يحجب المعنى ولا يظهره أو لا ينكشف إلا حين اقترابه من اللامعنى.
ماذا تكتب المرأة؟ ماذا ترسم وماذا تبدع؟ سؤال يفترض الموضوع كعينة اختيارية تستلزم آليات التحليل والتركيب والنقد وما إلى ذلك. في حكاية قديمة تفرض على الشاعر الجاهلي الوقوف عند الأطلال، لكونها حاملة لأثر الحبيبة/ المرأة. كأن هذه العتبة هي ما تعطي للشاعر هويته. بمعنى أنه لا يقول الشعر إلا إذا وضع المرآة أمامه، ليرى الآخر الذي يسكنه، لكن إذا اعتبرنا المسألة قاعدة في المعلقات الشعرية العربية وحتى في الكتابات المعاصرة كما لو كان المكان الذي لم يؤنث لا يعول عليه بلغة ابن عربي، أو كأن الكتابة بدون امرأة لا يعول عليها.
يمكننا قلب الرؤيا بين امرأة كاتبة وآخرَها الذي يظهر ويختفي في المرآة. هنا يلزمنا جهد خاص يقوم بقراءة النصوص بتركيز شديد لمعرفة هل المرأة المبدعة تبدع بكيانها؟ أم أنها تتلبس السلطة الذكورية لإ يجاد المعنى. قد أقول بأن غالبية النساء يكتبن بطريقة تفيد الذكورة والسلطة والمعنى.
قد تكون الذكورة سلطة تنكشف في مرآة الكتابة النسوية، ربما لتاريخ التهميش الذي عاشته رغم أنها الأصل والأثر، فالمرأة هي التي خلقت في الأساطير القديمة الآلهة، بل هي التي أبدعت وخلقت الرسل والأنبياء في الديانات التوحيدية، إلا أنها بفعل سلطة الذكورة تحتجب بحجاب الغواية، هكذا تخبرنا قصص الأنبياء، مثلما يضعنا كتاب ألف ليلة وليلة في هذا التَّمَاس المروع بين شهرزاد وشهريار، وهي نفس اللعبة التي تستهوينا من فنون تبدعها. لننظر إلى الأمهات المغربيات وهن يخربشن في الهامش أعني؛ حين يكتبن على الجسد وشما مفتوحا على القراءة والتأويل، أي حين يخترقن سلطة اللاهوت وينزحن نحو غواية الآخر/الذكر. بالغواية أو حين يطرزن المناديل والزرابي وما إلى ذلك إنهن يكسرن المرايا ويقمن بتجميعها مرة أخرى. هذا النوع من الإبداع ، يظهر لنا مفعولات الرغبة في السلطة. سلطات متعددة تتجلى في أقصى درجات الهامش. لكننا اليوم أمام الكتابة كسلطة، كحاملة لرأسمال رمزي، توقعها امرأة. وتظهر عريها أمام الآخر الذي يعاكس ويتلبس بها مثلما تتلبسه. في لعبة، يكون الخداع استعارتها واللغة واللون والصورة والموسيقى… إيقاعاتها. توقعه ويقع فيها، كما الحجاب تماما. أليس الغطاء عراء. والعكس صحيح تماما كما تقول إحدى نساء ‘الرشيد’ في زمن ما.
إن لعبة التوقيع (توقيع النص) تحيل إلى إرادة القوة والمعنى، في أكثر الكتابات النسوية العربية، من هنا يكون الصراع بشكل خفي ويكون ‘الهو’ مرتعا له. أليس ‘الهو’ هوية مشتتة لهذه الكتابة. لنتوقف عند مفهوم الصراع ونبين أولا أنه ليس بالضرورة صراعا مع الذكر وإنما هو صراع مع بنيات ثقافية رمزية. تستعير القانون والدين والايديولوجيا لترسيخ هذا الذي نسميه صراعا مادام هذا الأخير يفيد الهيمنة والقمع والسلطة. مثلما يفيد الهامش والخضوع والدونية. صحيح أن العالم تغير… وتغيرت معه القوانين وأشكال الضغط مثلما تبدلت الرموز والعلامات وهي كلها تغيرات صورية أو هي بالأحرى ‘سيمولاكرات simulacres’ لأصل ما فتئ يحضر ويغيب، لقد أعلنت ‘سيمون دوبوفوار’ إبان ثورة طلبة باريس68، شعار التحرر من المؤسسة الذكورية، إلا أن هذا الشعار سرعان ما تلاشى في الفضاءات العامة وإن كانت الدولة الحديثة في أوروبا قد شرّعت للمناصفة والمساواة. إلا أن هذه التشريعات التي تعاقد عليها المجتمع لم تبلغ ما كانت تتضمنه البيانات النسوية لتلك المرحلة، بمعنى أنه لم يكن بالإمكان القطع النهائي مع الأصل. ليس الأصل هنا دينيا واجتماعيا، وإنما في حالة التصور البيوثقافي الذي يؤسس لذلك. المسألة تبتعد مما نريد التوكيد عليه أي مما تعلنه الاجتهادات التحليل- نفسية الجديدة، وكذلك مما تعلنه الاكتشافات البيولوجية الجديدة ‘New-biology’ في أمريكا وبعض دول أوروبا. وهي اكتشافات تخترق الأصل في اللحظة التي تؤزم النسخة وتخلخل كيانها البنيوي.
إلا أننا في العالم العربي والمغربي على الخصوص، تظل المرأة هامشا يرغب في النور والوضوح، وهي مسألة ليست بالسهلة في مجتمع يعود فيه الدين بقوة إلى فضاءاتنا العمومية ويعود فيه فقهاء الظلام لإعادة النساء إلى مكانهن المظلم في كل شيء وهي عوائق تعيق النساء عن الظهور.
هاهنا تظهر لنا القيمة المائزة للنساء اللاتي يبدعن ويبحثن عن صوتهن في مجتمع أصبح فيه الصوت عورة، إنهن مناضلات بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قد يطول الحديث بنا لتفسير تضاعف هذه الرغبات في الكتابة والرسم والإبداع، ليس فقط في التركيز على ذلك الصراع الثاوي خلف ذلك النص التشكيلي أو الشعري أو الروائي أو… وإنما في حدود الانفلات الذي ترسمه المرأة لنفسها بين العتمة والنور، بين ‘الهو’ وسلطة الواقع ، بين الأب والرغبة في قتله رمزيا، إننا نعود إلى ذلك القلب الذي مارسناه على كلمة امرأة بحذف الهمزة على الألف، بمعنى أن النص الذي رسمته، كتبته، أو نحثته مرآتها. ما دامت المرآة لا تقول الحقيقة، وإنما تزعج… لهذا فالمرأة الكاتبة تناضل من أجل ترسيخ اسمها من كتابتها ولتكون هذه الأخيرة عيّارا لقوتها أوضعفها، في بعض الأحيان لا أميز بين كتابة وأخرى من خلال الجنس ولكن تثيرني الكتابة النسوية من داخلها، كما الوجع الذي يحيط بها مرة في الشهر أو في فضاءات أخرى، أليس ‘الفن- بهذا المعنى- رحلة إلى الآخر’ على حد تعبير غوته.
* نص المداخلة التي شاركت بها في المهرجان الأخير لجمعية بصمات للفنون التشكيلية بمدينة سطات آخر شهر يونيو2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق