مجدي أحمد توفيق :
رواية شاعر لثورة شعب
أنت تعرف أن الشعرَ قديمٌ .
وتعرف أنه قد صحب الإنسان منذ بداية حياته على الأرض . وربما يكون قد وُلِدَ في قلب الحياة منذ اللحظات الأولى الباكرة التي أشرقت فيها شمسُ اللغة على الأرض. وربما يكون الشعرُ أصل اللغة ومنشأها على ما يقول هيدجر في قراءته الممتعة المشهورة لشعر هلدرين .
وأنت تعرف أن النقَّادَ قد فُتِنوا بالشعر كما فُتِن به الناس . وطفق النقَّادُ يتساءلون عن سر هذا الجمال الذي يُعَظِّمون شأنه .
وبدا لهم ، في بعض الأحيان ، أن السرَّ يكمنُ في الصِّوَر التي يصنعها الشعرُ، إذ تتداخل فيها عناصر الطبيعة، وتتراسل الحواس، ويغدو فيها الحسِّيُّ معنويًّا، والمعنويُّ حسيًّا. وبدا لهم ، في أحيانٍ أخرى، أن السرَّ يكمنُ في المعاني العميقة، والحِكَمِ الدقيقة، وخبرات الوجود الإنسانيّ المعقَّدة . والشِّعْرُ العظيمُ يَعْرِضُ من الصور والمعاني فنوناً كثيرة لا يملك إزاءها الإنسانُ إلا أن يشعرَ بالإعجاب والانبهار.
ويمكن القولُ إن النقادَ قد أحبُّوا ، في أحيانٍ كثيرةٍ، ألواناً من الشعر لا يستطيع أن يأتيَ به سوى فئةٍ قليلةٍ من الناس، تتمتع بقدراتٍ سحريّةٍ، وفطنةٍ نافذةٍ، ويطلقون عليهم اسماً خاصاً يميزهم من سائر الناس ، هو الشعراء . وربما كان هذا ما يريده العرب القدماء حين كانوا يصفون الشعراء المبدعين بأنهم مطبوعون ، أي أصحاب قدرات فائقة خُلِقوا بها، وطُبِعوا عليها.
ولكنَّ كثيراً من الشعراء، وكثيراً من الناس ، قد أحبُّوا أن يخالفوا النقادَ ، وأن يُقْبِلوا من الشعر على لونٍ بسيطٍ سهلٍ ، يشعر قارئه أنه يستطيع أن يأتيَ بمثلِهِ، وأنه لايكاد يختلف عن الكلام المألوف الذ يتبادله الناسُ في أحاديثهم، إلا في أمرٍ خفيٍّ يميزه ، قد تكون حقيقته تلك الموسيقى التي تسري في كلمات الشعر، كأنها تسللت إليها تسللاً، ولم يقصِدْ إليها الشاعرُ قصداً على أي نحوٍ من الأنحاء.
هذا اللون من الشعر البسيط السهل هو ما يحبه الشاعر محمود عبد الحليم صاحب هذا الديوان :
في عز الشده والمحنه..
بنبقى كلنا واحد ..
نوهب للوطن روحنا..
وفي رحابه بنتعاهد ..
نكون كلنا إخوات ..
وحتى في أحلك الأزمات ..
نلاقينا ..
بنتواجد .. ونحمل هم بعضينا ..
ووقت الحرب يجمعنا ..
هدف واحد ..
مصير واحد ..
لا بد أن الذين يحبون أن يتحدثوا عن التشبيه، والاستعارة، والكناية، سيجدون أنفسهم عاطلين عن العمل أمام قطعةٍ من الشعر كهذه القطعة التي ننظر الآن فيها من ديوان محمود عبد الحليم ، أو هم يجدون أنفسهم مضطرِّين إلى أن يتمحلوا تمحلاً شديداً مسرفاً لكي يتمكنوا من أن يقولوا عن تلك القطعة من الشعر شيئاً مما اعتادوا أن يقولوه في تحليلاتهم .
ولا أظنك تجد في هذه القطعة إلا صوتاً بسيطاً يُرْسِلُ حديثاً مألوفاً لايكاد يغادِر الحديثَ المألوف الذي لاينتمي إلى الشعر إلا بسماتٍ قلائلَ تحقق ما يسمَّى في النقد الحديث – بدايةً من كتابات الشكليين الروس- باسم الشعرية أو الأدبية .
تلك السمات لاتفرضُ عليك حضوراً بارزاً ، أو عالي الصوت، بل هي أقرب إلى أن تتوارى داخل الكلمات توارياً ، كأنها تريد أن تبلغ بالشعرية الحدَّ الأدنى لها، أو أن تكون شعريةً خفية الحضور، تشعر بها ولا تكاد تدرك حضورها .
من بين تلك السمات تلك الموسيقى السارية في الكلمات كأنها لم يَقْصِدْ إليها الشاعر ولم يتصوَّرها . تراها في حرق الدال الذي يتجاوب بين الكلمات : " واحد ، وبنتعاهد ، وبنتواجد" في يسرٍ شديد . ومثلها ذلك التجاوب التلقائي بين كلمتي " إخوات " و " الأزمات " ، ومثله يقع عَرَضاً على ألسنة الناس في أحاديثهم ، في كل يوم ، في كل مكان .
أضف إلى تلك السمة سمةً أخرى هي الموقف الإنساني البسيط الذي يقدمه لنا الشاعر بأبسط الكلمات ، وهو موقفٌ يتوحَّد فيه مع الجماعة ؛ فنحن نسمع صوتَ الشاعر، ولكنَّ صوته يستخدم ضمير الجمع، ليصير الفرد الذي يتحدث بضمير الجماعة تعبيراً عن رؤيةٍ واسعةٍ تحتضن الجماعة، وتؤمن بضرورة وحدتها وترابطها . ولا تمثِّل هذه الرؤية مضموناً فحسب، ولكنها ، كذلك ، حالةٌ جماليَّةٌ بسيطةٌ تتخلل الديوانَ من بدايته إلى نهايته ، لا تفتأ تظهر واضحةً من موضعٍ إلى موضعٍ ، ولا تزال ، حين لاتظهر، تقف وراء الديوان كله .
هاتان السمتان اللتان أحددهما ههنا تخدمان استراتيحيةً أكبر، هي ماوصفته بأنه المقاربةُ بين لغة الشعر ولغة الحديث السهل البسيط المألوف في الجياة اليومية . ولعل استخدام العامية في الديوان كله جانبٌ من جوانب البحث عن لغةٍ شعريَّةٍ لها هذه الطبيعة التي تريد أن تضعَ الشعرَ في قلب أحاديث الناس، ولغتهم ، وهمومهم .
ولا تظهر هذه الخصائص في هذا الديوان لأول مرة في شعر محمود عبد الحليم ، بل هي خصائص عامة لشعره بوجهٍ عام، تقوم عليها تجاربه الشعرية جميعاً ، وإن يكن في تجارب سابقةٍ كان أكثر تحليقاً وهو يقارب بشعره الشعر الشعبيَّ الدينيَّ والصوفي على نحوٍ أو آخر.
مع هذا فإن الخصائص تبدو لي في ديوان " ثورة شعب " أكثر اتساقاً وملاءمةً لطبيعة الموضوع الذي اختاره الشاعر موضوعاً لديوانه ؛ أعني موضوع الثورة .
فالديوان يدور حول ما هو معروف بثورة 25/30 ، وهو اسم يشير ، في جزئه الأول، إلى ما حدث في مصر ابتداءً من 25 يناير 2011م ، ويشير، بجزئه الآخر، إلى ما حدث في مصر أيضاً ابتداءً من 30 يونيو 2013م ، ويريد الاسمُ بجزئيه أن يقيمَ وحدةً تجمع الأحداث معاً ، بوصفها ثورةً واحدةً ، أو ثورتين متكاملتين ، أو موجتين ثوريتين ، أو كيف يكون التقدير.
وبطبيعة الحال فإن الثورات حالةٌ إنسانيةٌ ينطلق فيها اللسانُ بغير خوف، ويفيض حديثُ الناس بهمومهم ، وأفكارهم، في وضوحٍ وصراحة . من ثَمَّ لا يحتاج الأديب الذي يصوِّر ثورةً إلى رمزٍ يلتفُّ به المعنى، ليُخْفِيَ حقيقةَ ما يُريد إلا على مَنْ يشاركه فهمَه وتصَوُّرَه . لايحتاج الأديب إلى عتريس محور رواية ثروت أباظة المشهورة ، ومحور فيلم حسين كمال البديع المأخوذ عن الرواية نفسِها ، ليكون رمزاً إلى السلطة القاهرة على نحوٍ من الأنحاء . ففي الثورات تُسَمَّى السلطةُ باسمِها، ويفيض الناس في نقدها علناً ، ويفيضون ، كذلك ، في الحديث عما يقبلون، وعما يرفضون ، في وضوحٍ وصراحة . لهذا يغدو الحديث الطليق الحيُّ المباشر شديدَ الملاءمة لما يريده الناس في وقت الثورة ، وهذا ما يتقبله كثيرٌ من الشعراء حين يكتبون عن ثورة . ولاغرو أن الشاعر يستطيع ، إذا أراد ، أن يكون له اختيارٌ جماليٌّ مخالفٌ لهذا الاختيار؛ فالشعراء أحرارٌ قبل الثورة ، وبعدها ، وأثناءها ، واختياراتهم الجمالية تَصْدُر عن خيالهم وخبراتهم قبل كل شيءٍ وبعد كل شيءٍ . ولكني أريد أن أوَضِّحَ لك فحسب أن الاختيارَ الجماليَّ لمحمود عبد الحليم في هذا الديوان يتَّسِق مع موضوعه ، ويستجيب لطبيعتِهِ .
قد نستطيع أن نقول إن الشعرَ ، في جوهره العام ، ثورة جمالية . وقد نستطيع أن نقول إن اللقاء بين الشعر والثورة لقاءٌ طبيعيٌّ تفرضه طبيعةُ الشعر عينها بوصفها طبيعةً ثوريةً مقاومةً للقبح ، ومطلقة للحرية ، ولكننا ينبغي علينا أن نعرِفَ أن اللقاءَ بين الشعر وثورة الشعوب لايزال يهدد الطبيعة الجمالية للشعر تهديداً قويًّا من جهتَيْن : الجهة الأولى هي ظاهرة العنف اللفظي، والجهة الأخرى هي ظاهرة الخطاب الشِّعاري .
وأنا أعتقد أن الشعارات التي تجري على ألسنة الناس خلال الثورات هي النقيض لما أسميه صوت الناس . ذلك أن الشعارات التي ترتفع بها صيحات الناس لا تَصْدُرُ عن نفوسِهم على نحوٍ تلقائيٍّ ، ولكنها تصْدُرُ عن طائفةٍ من الناس، ربما لا يعرفهم أحد ، يقومون على ترتيب الاحتجاجات ، ويصوغون العبارات الشعارية ، ثم يضعونها على ألسنة البسطاء ، فهي لاىتصدر عنهم ولا تُعَبِّر عن أفكارهم ، ولا تمثِّل خطاباً حيًّا مرسلاً من داخل النفوس . فوق هذا فإن لحظة الهتاف ، على الرغم من ارتفاع الأصوات فيها إلى أقصى مدى، ليست إلا لحظة صمت عميقة ؛ لأن الهاتفين لا يتحدثون ، ولا يفكرون ، ولا يناقشون ، فهم كائناتٌ صامتة ، والشعار وحده ينطق .
من ثَمَّ فأنا أعتقد أن ديواناً يقوم على لغة الحديث الحي ، يستنطق الصوت الإنساني، لابد له من أن يتجنب غلبة لغة الشعارات على أصوات الناس. هذه الغلبة هي النقيض الجمالي لما يريده الديوان ، وهي أدنى إلى أن تكون نوعاً من الاستلاب .
وأحمد لهذا الديوان ، أنه ، في قصائده التي تربو على عشرين قصيدة ، قد تجنب كل التجنب أن يغرق في الخطاب الشعاري ، وظل ، من بدايته إلى نهايته ، حريصاً كل الحرص على لغة الحديث الحي الصادر عن القلب والعقل جميعاً ، فحافظ على تجربته الجمالية سليمة كل السلامة .
أما العنفُ اللفظيُّ فهو طبيعيٌّ في الثورات الشعبية . لا أقول إنه مقبولٌ ، أو أنه أمرٌ طيِّب ، لكني أقول إن الغضبَ الذي يتفجَّر أثناء الثورات ، والشعور بالقوة الذي ينشأ عن تجاور الناس في جماعات ، يشجعان على إطلاق شحنةٍ هائلةٍ طويلةٍ من العنفِ اللفظي، تتراوح بين اتهاماتٍ مسرفةٍ في التجريح ، وسباب صريح يستحيل أن ندافع عنه ونصفه بأنه لونٌ من النقد، أو الفكر، أو المعارضة .
وإذا كان العنف اللفظي طبيعيًّا في خطاب الثورة فإنه لا يمكن أن يكون طبيعيًّا في خطاب الشعر. ذلك أن الشعرَ لا يستطيع أن يكون إنسانيًّا إذا كان عنفاً ، ولا يستطيع أن يكون راقياً إذا كان سبًّا ، ولا يستطيع أن يكونَ جمالاً إذا امتلأ بقبحٍ من التحقير، ومن الإهانة ، ومن التجريح .
الشِّعْرُ طاقةٌ من التسامح والتواصل .
لقد ترك العنفُ اللفظيُّ آثاره على الديوان في أنحاء شتَّى منه . وأخص بالذِّكْرِ القصائد الأولى من الديوان التي كانت معنيًّةً بالجوِّ النفسيِّ المصاحِب لأحداث يناير 2011م . ففي تلك الأحداث قدرٌ هائلٌ من العنف اللفظي ، انعكس انعكاساً واضحاً على القصائد ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ؛ فالمناخُ النفسيُّ لتلك الأحداث لا يمكن فهمُهُ بمعزلٍ عن ذلك العنف اللفظي . ولكنَّ القصائدَ لم تُسْرِفْ فيه ، ولم تُغْرِقْ في عرضِهِ أو نقلِه . وأنا ألم في القصائد نوعاً من الاتزان أرادت منه أن تحمِيَ شعرية اللغةِ قدر المستطاع .
وأفضَلُ وسيلة قاوم بها الديوان حضورَ العنف اللفظي هي التحوُّل، في بعض المواضع، إلى خطابٍ تأمليٍّ هادئٍ ، هو عندي أشدُّ إرضاءً للغة الشعر . واسمح لي أن ألفتَ نظرَك إلى قصيدةِ " الميدان والفوضى " التي حققت حظًّا طيباً من هذا الخطابِ المتأمُّل الهادئ .
فلتستعد .. للحظة الإشراق وكون ..
فوق ارتباك الكون وشوف ..
إيه اللي ممكن تعمله ..
استدعي كل الموروثات في باطنك ..
علك تجد بذرة من بذور المعرفة ..
أو وميض ذاتي يضيء هذا الظلام ..
في اللحظة ديه لا تنتظر ..
ارمي اللي عشته واكتسبته في المحيط ..
وابدأ كما مولود جديد ..
طاهر مطهَّر من كل أدران الوجود ..
أنتَ تَرَى في هذه القطعة الكون يَحْضُر، ومعه الإشراق بكل ما يحمله من ضوءٍ وهداية. وأنتَ تَرَى فيها التُّراث ، والمعرفة . أما التراث فصار طاقة داخلية، وقوة ، وقدرة . وأما المعرفة فصارت كالنبات : بذرة يمكن لها أن تنمو حتى تصير شجرة تظللنا إذا شئت القول . والتفت، كذلك، إلى فكرة الميلاد الجديد التي اقترنت بالطهر، وحققت وجوداً جديداً نقيًّا طاهراً .
هذه رؤيةٌ أعمق يحبها الشعر .
أنا أدعوكَ إلى أن تقرأ ديوان " ثورة شعب " بوصفه وثيقة شعرية ، وشهادة شاعر على ثورة شعب ممتدة . لن تجد فيه الوقائع التفصيلية التي كثُر الحديث عنها إلى حد الإملال . الثورة التي يرويها الديوان امتدت لأكثر من ثلاث سنوات ، واكتظت بأحداثٍ رهيبةٍ لا تُحْصَى . الديوان يتخطَّى هذا الفيض من الأحداث ، وخيراً فعل ، وأقام عند الخبرة النفسية التي مررنا بها – من المرور ومن المرارة . إننا أمام شاعرٍ يقدِّم لك خبرةً نفسيةً ، فلا تحاكمه على رأيٍ سياسيٍ يراه ولاتراه . تقبل منه ثورة الشعور . ومن المؤكد أننا إذا تقبل بعضنا بعضاً فسوف يكون الشعر قد نجح في رسالته : أن ينير روح الإنسان .
هل نسمح للشعر بأن ينير أرواحنا ؟.
أتمنى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق