سورة حلبجة
طه خليل
وبكيت..
سأبقى.. إذ تركت لي جناحاً واحداً.. أبكي به.
وحين تقول لي يوما: شكرًا للبكاء
للظهر المكسور
والعين التي لا ترى..
سأرد عليك كما رد مكلموك: ولكني من ملح بكائي.. ما اكتفيت.!
انت تمطر ما تزال , وتمرر غيمك على الحواف.. كما لو ان شيئا لم يحدث.
تشرق شمسك وتغيب.. ويخرج الناس لأعمالهم في الحقول.
تتبدل الفصول كعادتها.. والدم في سوريا كعادته..
كما لو ان شيئا لم يحدث.
تمر بك ذكريات صبوتي.. فتجرد علي جيوشك.
يمر بك ريش من جناحي المكسور ولا تراه.!
انت لا ترى ريشي, ترى الدم على طرف الريش..
ولا ترى رذاذ الغيم.. تراه فقط حين يقطر دما .!
إلهي.! أنت الذي أمسكت بيدي, إذ أخذتني للطاعة المكسورة..
وطفت بي كل البلاد.. وانت من أغراني بالإنجاب..
ووعدتني ستأخذني قبل الكل..
أنت من مهد لي الأرض.. وشق البحر بعصا هارون..
أنت من فتح باب الريح والغبار.. سلط الجراد على زرع الفراعنة.. وأنفقتَ ماشيتهم.
وانت من سلط على الكرد ما يستحقونه من زناة الليل, وأعراب نجد.. وسلاجقة وقياصرة انهزموا في الحروب كلها.. وانتصروا عليَ..!
أنت تشكرني إذ أبكي بجناحٍ واحدٍ.. وتقول لي شكراً.
كما لو ان شيئا لم يحدث.
أخذت منك الجناح.. ضعيفا كجناح فراشة تترك ذهبا على يد حلبجة.
انت يا إلهي الذي استوقفتني أمام الريح..وقلت للنساء ان يمررن بي..ويقطفن الزهر من شعري.
كانت حلبجتي تنمو على يدي كشامة الغريب..
يعرفني الناس بها.
هي ملهاة الكرد في هبوب الكيمياء.. غنيتُ لهم . واسميتها كإسم البلدة البعيدة.!
بلدة ترسل لي اليوم قتلة يرفعون قرآن العرب بأيديهم ويحزّون خطمية البراري.!
كرد دهماء اعتنقوا دين قاتليهم، فسابقوهم، ولوثوا الأرض بحكايا التاريخ.!
ما اسميتها حلبجة لتنهش كلاب حلبجة ضوءها..
ما اسميتها حلبجة ليجيء اعراب السنة ويفتكوا بالرئة الريحان..
وما اسميتها حلبجة ليرقص بغاث الكرد حول إسم مدمى.. وضفيرة الضوء.!
وما اسميتها حلبجة لتأخذها رهينة لسيوف العلويين وشيعة الندم..!
وما اسميتها حلبجة ليبارك لي المعزون بالشهادة..!
لا شهادة توازي ضفيرتها يا رب الخدعة الكبرى.!
انت تنتقم منها.. وانا من أعصاك..
إليك بي .. هل أدلك علي.؟!
هي تنمو كل يوم على يدي.. تنمو كحسرة أم.!
انت تجرجرني للتربة الباردة كل يوم.!
كما لو ان شيئا لم يحدث.
تعال الي إلهي سأذكرك بالحكاية من جديد:
" وأما هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد كان شديد الأذى للمسلمين وعرض لزينب بنت رسول الله لما هاجرت فنخس بعيرها، وكانت حاملا فأسقطت، ومرضت من ذلك، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت فأهدر النبي دمه".
وانا يا رب رسولك.. الا تريدني ان أهدر دما.؟
اني أعدك أهدر دم العرب سنة وعلويين.. شيعة ولا منتميين..!
هل سترسل لي من قادة محمد من يرمي قتلة حلبجة في النار، اذا قال رسولك لقادته : " ان لقيتم هبار بن الاسود فارموه في النار "
وانا هزيل الهي . ليس لي ان أهدر دمك. والشعر لا يحب الدم..!
لكن دم حلبجة كثير.!
دمهاعال.. وصعب
يغلي على سفح الدنيا المائلة.!
دنيا تميل نحوها.. تستظل بها.!
أو يظن عبادك انهم زغردوا لها عروسة.. كانوا يهيلون عليك تربة المنافي..!
حلبجتي تسألني منذ سنين عن إسمها وخجلت ان أذكرها بالأنفال وكيمياء العرب .!
خجلت لك.. ولمسلميك.. وذرية محمد كلها.
كان عليك ان تخجل قليلا وانت تقترب من حلبجتي..
كان عليك ان تكون رمادا.. يمر بك طير هابيل القديم.
كان عليك ان تفنى كدود.!
وكان عليك ان تسألني كثيرا.!
ولكن كما لو ان شيئا لم يحدث.
لقد أضعت المواثيق بيننا الهي.. ونكثت بالعهود كلها.!
هؤلاء اعرابك.!
ومسلموك.!
وتلك ابنتي المعقودة بالخير..
وأغاني الكرديات البائسات.. على قبور أولادهن.
وتلك ابنتي سأصفها لك:
ما تبقى من خلاخيلها.. ترن صباحا لهواء الجبال..!
وما تبقى من ضوء عينيها يأخذه حماة روجآفا تميمة وراء المتاريس..!
تحميهم من " الفئة الباغية " قتلة عمار بن ياسر.
وصوتها ـ يا الله ـ يلتف به دجلة في عبوره الخجول.!
ونسأل دجلة : لم ترك ماؤك صفوه واين.؟
فتدلنا " الكوجرية " شاهنشاهة الحزن في بلاد الاسكندناف.
تقول : " لا تبدلوا اسمها..".
خواتم حلبجة وصندوق العرس القديم..
صندوق جدتها فاطمة اذا أغلقته على أسرار الكون كله،
على تعب الخرسيات في كردستان المائلة على كتفها.
حلبجة تمسكت بجبل وجنين أحضرت له اسم : باكوك..!
حلبجة أخذت قمم باكوك كلها.. وتركتنا في سهل الحيرة نلتف كالأفاعي على حزننا.. ولا فكاك.
لا فكاك من هذا البكاء إلهي.!
جاءت رسل حلبجة من اورميا وسنة وخانقين والسليمانية وسرى كانيي وآمد يحملون لي حزنا قديما دفينا.. ذكروني بشهيدات كردستان لتهدأ عيناي.!
وعيناي مليئتان بورم الوقت وانتظار مزحة الله الثقيلة.!
الله.! قل لأعرابك ان يتوقفوا قليلا.. وينفضوا عن وقتهم غبار الألم الكردي.!
وسل أعرابك ماذا جنت أيديهم.. تلك كانت حلبجة طه خليل نديمك السري.!
تلك كانت لهفة السنونو في آذار البروق ومنمنمات الوحشة الكردية.!
حلبجة كانت غرة فرس الانبياء.. فاختلت الحوافر الذاهبة الى ينابيع النعناع
كما لو ان شيئا لم يحدث.
لمن نأخذ الحناء بعد اليوم.!؟ و ليد من سننقع الحنين الخجول.؟
لمن نهدي وريقات الفل المتيبسة تحت ضفيرتها.!
انت لم تر الضفائر كيف سورت مرقدها الأخير..!
انت لم تمد يدك يوما لضفيرة فتعرف حرير الأمهات.!
انت لم تجرب شيئا مما لدينا.!
وجربنا كل الذي لديك..
انت تتدخل في أغانينا وتحرق زرعنا خلسة..!
ثم تجلس كبريء بين المعزين.!
كما لو ان شيئا لم يحدث.
كرد وعرب حملوا سيوف الذل والخيانات الطرية ورموا رئمي بمقتل.!
يا الله رأيت ولم تحرك ساكنك الذي وعدت أعرابك به.!
انت تغريهم لا تزال.. ويغريهم دمنا.!
دم حلبجة لا يشبه دم الأعراب.!
انت غدرت بي... اذ سرقتها وانا في منتصف الحريق..
ومنتصف الحياة.. ومنتصف البكاء.. ومنتصف النهار.. ومنتصف الدم.!
دمها على جلباب الرسول كيوم القيامة..!
سيقف الرسول بين يديك يوما.. وعليك ان تسأله عما ارتكبت أعرابه.!
عليك ان تسأل جيدا.!
وعليك ان تقف خجلا أمام سدرة المنتهى نمر بها عابثين بأثاثك المهترئ.!
سنمر بك.. انا وحلبجة.. ونرمي عليك خزاماتنا..!
ليس لديها الا الخزامي وبعض وريقات الخطمية.. يبستها في جيبها الصغير.!
حلبجة ابنتي التي من نبات
التي من خجل صبايا الريف.. يجففن حيرتهن على حبال الوقت..!
كما لو ان شيئا لم يحدث.
سأحدثك عن حيرة حلبجة يوم الدم ..!
هي استنجدت بالفراغ..
وبكت للفراغ..
ولم تجد مغن كردي يعيد على اسماعها قصص الخيانة الكردية.
جاؤوا يباركون لي.!
يباركون دمي على الارض.
هذه الارض.. و أوطان العبث لا تقدر بقطرة دم .. او لفحة خوف..!
هي اوطان الموت كلها.
الموت هو الموت.. حنظل الصيف قبل جفافه بقليل..!
كما لو ان شيئا لم يحدث.
يا رب الموت..
هل سيرد أعرابك حلبجتي..ّ ان بكيت.؟
انت تنتشي اذ أبكي.. وتشكرني اذ ابكي بجناح واحد..
وانا من ملح بكائي ما اكتفيت.
كما لو ان شيئا لم يحدث.
هي حرب اقوام ذليلة يقتلون الكرماء.
يثأرون لأشباح تاريخ مشين..
رممه بعثيون بالجثث وبلاغة الرمال..!
توافدوا من كل فج عفن ليرموا فاتنات الكرد..
فلوثوا مرعى الغزال.
ومروا بحلبجتي فيهم خسة التاريخ
وحقد على الجمال..!
كما لو ان شيئا لم يحدث.
فقط تهدمت علي جدران كونك..
وعلي اليوم بقطيع الحزن الجليل
اسوقه صوب مراعيك العالية..!
لترعى حزينة حول سيدة الخيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق