فاطمة عبد الله تكتب :- غواية بابٍ مواربٍ على الليل * قراءة في رواية وحيد الطويلة
غواية بابٍ مواربٍ على الليل *
فاطمة عبد الله تكتب :- غواية بابٍ مواربٍ على الليل * قراءة في رواية وحيد الطويلة
بابٌ لا مفتوحٌ يسمح لك بالدخول، أو يمنحك مشهدًا واضحًا، ولا يمنعك أيضا من الرؤية.. بابٌ ليس مغلقًا يقف أمام رغبة الولوج من خلاله، أو يمنعك من استقراء ما خلفه.. بابٌ لا مقفول يحث على الفتح والتساؤل عما خلفه.. إنما هو بابٌ مواربٌ يدفعك للفضول، ويغريك بالولوج الحَذِر لاستكشاف عالم يتوارى خلفه.. بابٌ مواربٌ مُغْرٍ، يفتح طاقةً، قَدْرَ مواربته، للتساؤل: هل كان على وشك الانغلاق؟ أم كان على وشك الانفتاح؟ ولم تكن قوة الدفع كافية في الحالين!! أم أنه يفتح طاقة للبحث عن إجابة تساؤلات مثل: لماذا واربه الكاتب ولم يفتحه تمام الفتح، كما لم يغلقه كذلك؟! وعلى أي شئ واربه، أو أي عالم ذلك القابع خلف باب موارب؟!
بابٌ في لحظة تشويقٍ حذِرة يتحول إلى تلك الحيلة المُستحَبة التي لجأ إليها الكاتب وحيد الطويلة في روايته (باب الليل) ليجذب القارئ بيدٍ حريرية تصطحبه لعالم رسمه بحرفية شديدة، محافظًا على “شعرة الشوق” بينه وبين القارئ، وكأن وحيد الطويلة حوّل شوق القارئ إلى ما يشبه “شعرة معاوية”، ومن ثم تحكم الكاتب إلى حد كبير في المدى الذي يسمح للقارئ بالتحرك فيه داخل عالم الليل.
من العتبة الأولى لنص الرواية نجد الجملة المُحيِّرة المقتبسة من فيلم أسبانى إنجليزى: “القبلة هي النقطة التي توضع فوق حرف الباء في كلمة الغرام”، فتصبح النقطة غائمة غير محددة الهوية أو الماهية، وكأنها متحركةٌ فوق سطحِ التساؤل فاتحةً كلَ بابٍ للتأويل، وكأن الكاتب من البداية يقرر أن يحصُرَ القارئ فى البحث عن تلك النقطةالسحرية!!
هكذا تأتى جملة الشَرَك الثانية فى نفس الصفحة: “أبواب الرواية: بعضها أبواب مدينة تونس، بعضها أبوابك أو أبوابها” ليدهشك بهذا الالتفات بضمير الغائبة في “أبوابها” فيأخذك الشوق إلى معرفة من الـ”هي” التي يعود عليها الضمير!!
بعد العنوان والمفتتح يدلف الكاتب إلى الإهداء لصغيرته التي تحبه (مثل) اسبانج بوب، وإلى فيروز الكبيرة التي تحبه (أكثر) من رئيس الجمهورية، ليفتح بابًا آخر للتساؤل: هل هناك تقابل ما بين (مثل) و(أكثر) وبين اسبانج بوب والرئيس؟!! كما يظل نعت فيروز بـ”الكبيرة” مثار تساؤل وبحث أثناء القراءة عن فيروز صغيرةٍ مسكوتٍ عنها!! ويفتح (الطويلة) أيضًا نفس هذا الشوق المدهش وراء البحث عن علة ورود رئيس الجمهورية كمُقَارَنٍ في الحب!! أو ليظل القارئ في دائرة السؤال والبحث أثناء قراءة الرواية عن رئيس الجمهورية، أو عن الشخصية التي أحبته، وعن وجه شبه بين فيروز الكبيرة وشخصية (دُرّة).
الباب الموارب سؤالٌ أم إجابة.. إغراء أم غواية.. خلف أم أمام.. وهكذا أيضًا يفتح علينا وحيد الطويلة أبواب التساؤل، وإغراء الكشف، وغواية الاكتشاف، منذ العتبات الأولى لـ(باب الليل).
ثم والقارئ في حيرة التساؤل، غائمًا، يسحبه الكاتب بيد حريرية ليُدْخِلُهُ من باب لباب لثالث إلى رابع، ثم آخر، حتى تنتهي الأبواب الأربعة عشر إلى مختتم، ويظل الكاتب رفيق القارئ طيلة هذه الجولة بين الأبواب، أو أمامها وربما خلفها، راصدًا تساؤلا يطرح نفسه: هل هناك علاقةٌ بين أسماء الأبواب؟ قبل النظر لما خلفها.. هل يكون باب “البنات” مفتتحًا للهوى، وما بين الأقواس ثمة تفسير خاص؟ وهل هناك ارتباط بين” “العسل” و”المملكة” و”النحل”؟ وما بين “الجسد” و”الريح” و”النار” و”البحر” كمكونات كونية للأرض والإنسان؟ وكذلك بين “النساء” و”الرجال”؟ ليظل التفرد لـ”باب الوجع” و”باب اللادرة”؟!! ومن ثَمَّ يدفعك السؤال من جديد لربط عنوان الباب بما يتضمنه، وكلما قارب القارئ على النهاية يرجع ثانيةً ليتأكد من ارتباط اسم الباب بالمحكيّ عنه. إلى أن يأتي إلى جوهرة العقد (باب الوجع).. باب التفرد.. فهو ليس الباب السابع ليكون منتصفا للأبواب الأربعة عشر لكنه الباب الثامن!! أي بداية المفتتح الثاني للأبواب.
ومن هذا الباب، الثامن، نتعرف كثيرًا على حكاية فلسطين المتوارية خلف أبواب الليل وداخل جدران المقهى، مجتمعة في رباط تجتمع إليه درات إنسانية مشحونة بالوجع والافتقاد، فيجمعها في “لمة الأحباب”، حيث يهرب كل واحد من حكايته في حكاية الآخر.
جوهرة العقد:
تتجلى مهارة الكاتب وحيد الطويلة عبر الرواية جميعِها، ولكنه يبلورها في (باب الوجع) حيث تظهر مهاراته اللغوية والبلاغية في براعة الاستهلال، وحُسن التخلُّص من استاتيكا الذكرى، إلى حسن الدخول في ديناميكية الحدث والشخصية، فى لغة محملة بالتوتر والمفاجأة، لكنها ليست منفرة أو صادمة (ص125+158: سرّحت لزميلاتها فى السجن شعورهن، نهشت أجسادهن الجائعة بأصابع عطشى، وهي التي كانت تحلم بمن يمسِّد بيد طرية جسدها، واختلطت الخطوط في بعضها، وتسللت الأصابع، واشتعل عنبر السجن بآهات مكبوتة تحت وطأة الليل والظلام والحاجة، تمدد سقفه، وما لم تفعله الأصابع فعله اللسان، تكلمت بلسانها كثيرًا، قطعت الصمت بصمت جديد)، مع مزج الأدب الشعبي بالرسمي (اللي يستنى أفضل من اللي يتمنى) + (ص155: لكن لأن الذي ربى خير من الذي اشترى، رفضت الخالات والأخوال) + (ص156: لأن قليل البخت يجد العظم في بطن البقرة) + ( ص194: الدنيا مع الواقف) + (ص244: نجوم الظهر أقرب له) بلغةٍ تقع، أغلبها، في نطاق السهل، مُصَاحَبة بشاعرية الأسلوب في مواضع كثيرة: (الناي الذي لا يعبر عن شجن صاحبه وعن شوقه وصبابته ليس نايا – ص 98) + ص 127(الرقص الناعم يحتاج إلى عاشقين، والرقص الحار يحتاج مجنونين، في السياسة لابد له من داهيتين أو داهية ومجنون على أقل تقدير) + ص155(لم أستطع ساعتها.. المكسور يخشى المغامرة) + ص196 (أكل قلبه في منتصف الليل بعد أن عب من الكونياك ما يكفي لقتل نصفه، وإذابة النصف الآخر، مضغه، لاكه بقوة، وتوكل على الله ليأكل قلوب الآخرين بمنتهى المتعة ودون ذنب).
في (باب الليل) يتحول الكاتب لباحث معملي، فيقدم مقطعًا طوليًا لشريحة وحيدة الخلية تضم مذكرها ومؤنثها، مما يصنع “زايجوت” أدبيًا رائعًا، قد لا يجدالقارئ في واقعه القريب أشباهًا له، أو قد يرى بعضًا من أضوائه، لكن الكاتب حريص أن يؤكد لقارئه أنه يصطحبه لزيارة عالم خاص جدًا.. يقدمه للقارئ على شكل مقطع من عالم يتوارى خلف الليل، أو خلف الباب الموارب، شريحة من إنسانيين مهمشين قابعين بوحدتهما المتشابهة، وهي تموج حركةً ووجعًا، يقبعان متجاورين، يظلهما عالمُ مقهى “لمة الأحباب”.
ومن البراعة التي تُحسب للكاتب أنه متمكن من صنع شخصياته بشكل طيّع متنامٍ يجيد التمهيد للحظاتها الدرامية بلغة السهل الممتنع، وبلغة تميل للإيجاز الفني كذكْرِه للتحول الذي حدث لـ(أحلام) وحولها إلى (حلومة) وغيرها من الشخصيات، لكنه أيضا لم يسمح لشخصياته بأن تستقل تمامًا عنه، إذ أنه يقبع خلفها أحيانا ليتخذها وسيلة للتعبير عن رأيه الشخصي، أو حين يستثمر الوصف المُمهِّد للحدث أو الشخصية، ليطل برأسه ككاتب يعبر عن رأيه أو يقدم تفسيرًا خاصًا أو تأويلا، ولعل التفاسير المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وكيفية تعامل الحكام العرب معها، خير مثال على حضور الكاتب متلبِّسا الشخصيات في بعض الأحيان، أو مستقلا لسانها وسيلة للتعبير عن رأيه هو على مدار الرواية.
يظل وحيد الطويلة كاتبًا ذا بصمة خاصة.. يمتلك مهارة نسّاجٍ ماهر لحكاية ألّف فيها بين متنافراتٍ، وجاور بين متباعداتٍ، فالمقهى حوى أشتاتًا من الناس.. من جنسيات مختلفة وبلاد متباعدة، وتحملت أجواؤه بذكريات متباينة لشخصيات، ويظل كذلك واضعًا شخصياته وقراءه معًا تحت طائلةِ اللحظةِ المُراوِغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مختبر السرديات – مكتبة الإسكندرية 11-3-2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق