المهاجر رولا عبدالرؤوف حسينات/ الاردن
رمى السيجارة من فمه وداسها بقدمه، وأمال قبعته مخفيا قسماته الكئيبة، ودس يديه في جيبيه.
انكمش جسدا ضئيلا من شدة البرد، حينها هاج موج البحر، وتلاطمت تتلقف السفينة جيئة وذهابا.
تنادت الأصوات:" هلموا ايها البحارة شدوا الأشرعة، عاصفة تقترب."
رمقه القبطان غاضبا وتعالت الشتائم:" ايها الغر هلم إلى حزم الأشرعة، ويلك من صعلوك جاحد.
ما همه كآبة السماء، فأين هي من ظلمة وجهه المليء بأشواك لحيته؟ التي نسي مذ متى كانت أخر مرة رأى فيها شفرة الحلاقة.
أخذ يمشي الهوينى هازئا بكل المخاطر فإن إلتقمه البحر ودفنه في غياهب ظلماته فأمره بالحياة والممات سيان.
سقطت منه كل مفردات التفاؤل.
أخذ يحزم الأشرعة مع الآخرين بحسرة يطوي دفاتر أيامه، ما رمته أمواج الدنيا إلا حاصلا على تفوق في الحساب، وما راودته الوظيفة عن نفسه بل عشقت ثملي المادة وعشاق الزيف والخداع.
أخذت الأمطار تلفهم والبحر بغطاء من فيضان الأنفس، لتنضح بكل أسى فيهم.
تعلقوا بالصواري وكثير منهم غاص، ومن موج البحر هاجت الأرواح متضرعة بالوصول لبر الأمان.
وأي عذاب يأتيهم بعد هذا ليكشف سوءاتهم؟؟ تملقوا السماء بضراعة، حينها أغمض عينيه وتعلق بأخر أمل له في الدنيا، طريدة المعشوقة رباب.
أين عنترة منه؟ بل هل يجاريه مجنون ليلى؟؟ بل هو إبراهيم (مجنون رباب).
وما ارتمائهم جوف الموت إلا حسرات على من تلقفها زواج ضرع الغنى، فارة من قفير الفقر هازئة بكل تعاليم الحب التي حفظاها معا.
فماذا بعد؟ فقير يلفه جناح القتامة بكل خطى حياته.
فما يضنيه عن هجره مرفأ البلد؟.
صمم في نفسه حين التجأ إلى البحر بحارا، أن يسرد قصته عند خلجان الغربة، ما تعيقه الأسوار.
مضت ساعات طوال وهم في هيجان البحر الغاضب وسأم السماء، غمرتهم الأمواه بشراسة فما استطاعوا طلب النجاة.
و مد البحر بعد حين حملهم إلى صخور الشاطئ بلا أشرعة ولا صواري باسقات.
صحا على صوت النورس محلقا في السماء الزرقاء تيقظت حواسه، وهو يرمق بغشاوة العين خليج وبيوت قابعات، ما هذي البلاد بلاده؟؟
إنها حلم مستقبله، بالكاد أفلت قيده من الماضي التليد، محررا روحه من سقمه، ناظرا إلى الأمل يلوح في الأفق، أبحر بجسده في المياه الضحلة، غير آبه لرفاق السفر فما تعارفهم سوى أشهر قليلات.
وصل مبتغاه وهذا الأهم، حط براحلة قدميه القواعد الأسمنتية، ما درى أين يشير عقرب بوصلته؟؟
البرد قارص يجمد الأوصال المشرئبة بالمياه. بدأ المسير وبدأت الغيوم بالتكاثر ناشطات.
بحث في جيبه عن علبة السجائر وجدها غريقة بالمياه، ألقاها شاتما الحظ العاثر، وسوء الطالع يلاحقه حتى في غربة أسفاره.
ومن بين المحال المتناثرة الجأ نفسه إلى محل رمق فيه ما يسد جوع ليال.
قطعة من الحلوى بتسولها، فالجيب ينتفض من بور أرضه.
مشى متثاقلا، وقف أمام الزجاج، لم يطق رفع عينيه فقد أعجزه السؤال، حينها فتح الباب ورنت أجراسه، إذ بها تنتظره فكأنما تعد خطاه. استقبلته أما، وكأنما عرفها منذ سنين سيدة ما وجد السواد له محلا بين الخصيلات البيضاء.
ووجهها المستدير بعينين ضاحكتين، وكأنهما تحكيان قصص التائهين في الخلجان، بقصرها وسمنتها توصي بكرم الضيافة للمنسين.
ألجأته تائبا طالبا غفران المستعطفين.
أجلسته إلى كرسي خشبي وبابتسامة قدمت له فنجان الشوكولاته الساخنة، وقطعة الحلوى المنقشة بالسكر.
دعته برقة ووداعة تأخذ بما أفضى إليها من ذكريات، فقص عليها ما قد سلف من نكران الزمان.
تأوهت وأبكتها العين بحرقة، فقد تذكرت حبيبا سكنت روحه في جدران المكان، لكم تاقت الروح لحبيبها، هكذا وقعت عليه أول مرة عابرا الشطان.
فتاة شقراء أوقعها في شباكه الصياد وأدخله أبوها حماه فلاذ بقلبها من أول مرة وما لها من كرة.
فقد سلب المفتاح، وعاشا معا دهرا ذابا في حضن الكد ودفئهما حبا ذائبا بعرق الرزق.
أخذت تمر بأناملها على الزجاج تروي حكايا الحلوى الذائبة بالعسل والمحلاة بالحبة السوداء، وغيرها مما زاده لصنعتها في بحر الحلوى المغربية المنصهرة بالحلوى الإيطالية.
صمتت وهمست:" لقد دفن جسدا وروحه ذابت وجدران المكان، اشتم أنفاسه."
انهمرت دموعها انهارا وهي تبعثر بأناملها في أحد الأركان، أخرجتها من عتيق الذكريات علبة سجائر، ما كان غيرها يتمايل بين الشفاه.
أمسكها وكأنما امسك عشيقة تاه عنها بحرا من السنوات، غمزته وكأنها تقول:" نصيبك خبئ لك."
لقد أعجبها اسمه فقد كانت حالمة بين جنباته (إبراهيم رسول كريم).
وكأنها ما فوتت حرفا من الحروف، مسيحية تقبل أديان السماء، ما تميزها عن نساء المغرب بلكنتها ومزحاتها وبريح حلواها، وكأنما جبلت بذرة وساقيها في أرض الله.
صمتت ونبست وكأنما عجلت بذكرا خيفة النسيان.
ولجت إلى الحاسبة بكبر حجمها، وعزمت أمرها أن لك هاهنا طيب المقام، متدبرا صالح أمره وأمرهم.
تركته أمينا في المحل، ودخلت بابا موصدا أغلقت وراءها ريحا دافئة.
اذرف دمع العين:" وي كأنه وميض الأمل يسقط عند قدميه على استحياء."
ما أطالت مكوثه وذكرياته، جالبة ملابس دفيئة ستجمع صبر الأيام، انسل خلف الستارة يلقي غارق الثياب مرتديا ما يدفئ به البدن.
حط قبعته جانبا، فانزلق شعره ناعما يصل الكتفين، وارى الستارة جانبا، وما أن وقعت عيناها عليه حتى صفقت وحضنت كفيها:" آه ما أجملك، تنضح بالفتوة والشباب."
حينها رنت أجراس الباب، وفتاة شقراء تهدل شعرها الذهبي مثقلا بحبات المطر، ومسحت أنامل الريح على وجنتيها حمرة فأضحت حورية في سبيل الحوريات.
هللت السيدة العجوز بها، وبلغتها الإيطالية جمعت لها الحروف والكلمات مبعثرة، عرفتها بالشاب إبراهيم، وجم حينها وتاه في زرقة السماء، وسهما وقع في صدره قطع القلب أشلاء.
وتنادى اسمها (غريتا) نجوم الليل وضوء القمر.
واشتهاها حبيبة تشق بريحها همس الندى، لامست أناملها أنامله، تلاصقتا معا وكأنا قدر قدر حبا أبديا.
أين رباب من غريتا؟ أين الثرى من الثريا؟؟
ومرت الأيام تلعب أنامله على كبسات الحاسبة ضربا على مفاتيح البيانو.
وجلس يوما ظهره إلى باب الزجاج، عاملا أنامله راسما وجوها تقف تتلقف لهفة العشاق أمواج البحر.
أخذت أعينهم تناظره رساما قد أبدع، فجعلوه محجا لأوتار الرسم، وشاهدا على اليوم وتاريخه.
وعلى قماشة ألوانه تناثرت الروبيات تتلألأ صادحة في الصدى.
كل يوم حاله جامعا المال بمهنة وهواية.
ليحفل بغريتا عروسا في حجرة، سقفها الفضا وجدرانها همس الليل وقطرات الندى، يلتحفان السما ووسادتهما خيوط القمر نورا يلفهما نورا.
وفي يوم جاء يشق سكون الفجر، فرأى الباب موصدا وعلت الشمس على استحياء، أرسلت نورها فما نبس الباب بكلمة.
مرت ايام وجم القلب، وتاه في السبل حائرا. أتراه حبا طعن في السراب وتلاشى؟؟
حينها على الطرقات جلس، يتم حب العاشقين بلهفة قيد لا يمحى، وجعل ليله يعتل البضائع المتكدسة في الميناء.
هناك رمق أولئك من كانوا بحارة رفقاء ماجوا وموج البحر غرقى، يعتلون أكداسا تناثرت على الجنبين تنوء من أثقالها الأجساد.
وصف له الألم بردا في رئتيه، فسقمتا تتأوهان بالبلغم والصديد وليفا أياما، وتلاشى من السقم بين الأكداس مستنجدا، جلدا يتبدل جلدا.
وفي سقمه رسم رسمها من خلجات نفسها، تضلعت لوحة ولا أجمل (غريتا يا ضوء القمر).
حج إلى المحل فجرا، وضعها أمانة الباب الزجاجي الموصد، شاهدا على حب أذن له أن يتبعثر.
ومضى يشق سبيله في الدنا، مضى هو، واتت غريتا وأمها ايبتين من (ميلانو).
فقد طارت برقية إلى الأنامل، أخ سلبه الموت موضعا، ولو أنهن ظلمن أنفسهن بميعاد فما خسرن اللقيا.
لقد كانت ثروة طالتهما بعد دهور في الفقر قاصرات، وقفن ينظرن لهفة العاشق، تنبس بها كل ظلة في الوجه.
وناظرتها عين ثالثة معهما، يسرها القدر ناقد باحث في الأرجاء عن مبدع لقد صرخ:" إنها تحفة (المولينيزا) تولد من جديد.
وتلقفها واضعا إياها في متحف الفن، ووزنت بقدر دافق من المال، عنون لإبراهيم.
طفقت تجد تجول في الطرقات، شكت لرمل الشاطئ وعشاق المكان، فوصفوه لها جالسا يرسم هاهنا.
فافترشت الأسوار، وقد تقاسمت:"أن بلهفتها تنجو من سخط عاشق، ودموع عينيها تشق الوجنتين."
بلهيب العشق مضت ساعات، وما أتى أزف الليل أن يستر ظلمة المكان ظلمة غيمه.
آذن لها هيجان البحر العودة، لفت نفسها بنفسها هائمة في الطرقات تتلاشى، ما أوقفها سوى صدى حسيس الخطى، تلفتت فما أخطأت رسم الخطى، عاشقا ثملا بالانكسار.
ارتمت عند قدميه باكية، تمطرها السماء تغسل ما يشوب النفس من الأوجاع.
تلقفها جاثمة يداعب خصلاتها الذهبية، مقبلا الجبين يلفها مندسين في حب فار فما اهتدى.
حينها آذن زواجهما إكليلا فكانت جائزته ثمنا لشرعية وجوده، بذرة لأبناء تجنسوا وتجانسوا في تراب الغربة أجسادا وأرواحا.
فتلك ترتيلة مهاجر رسمت له تقاسيم القدر أهلا ومستقبلا، ما كان ليكون له في ارض منبته حتى لو سقم.
رمى السيجارة من فمه وداسها بقدمه، وأمال قبعته مخفيا قسماته الكئيبة، ودس يديه في جيبيه.
انكمش جسدا ضئيلا من شدة البرد، حينها هاج موج البحر، وتلاطمت تتلقف السفينة جيئة وذهابا.
تنادت الأصوات:" هلموا ايها البحارة شدوا الأشرعة، عاصفة تقترب."
رمقه القبطان غاضبا وتعالت الشتائم:" ايها الغر هلم إلى حزم الأشرعة، ويلك من صعلوك جاحد.
ما همه كآبة السماء، فأين هي من ظلمة وجهه المليء بأشواك لحيته؟ التي نسي مذ متى كانت أخر مرة رأى فيها شفرة الحلاقة.
أخذ يمشي الهوينى هازئا بكل المخاطر فإن إلتقمه البحر ودفنه في غياهب ظلماته فأمره بالحياة والممات سيان.
سقطت منه كل مفردات التفاؤل.
أخذ يحزم الأشرعة مع الآخرين بحسرة يطوي دفاتر أيامه، ما رمته أمواج الدنيا إلا حاصلا على تفوق في الحساب، وما راودته الوظيفة عن نفسه بل عشقت ثملي المادة وعشاق الزيف والخداع.
أخذت الأمطار تلفهم والبحر بغطاء من فيضان الأنفس، لتنضح بكل أسى فيهم.
تعلقوا بالصواري وكثير منهم غاص، ومن موج البحر هاجت الأرواح متضرعة بالوصول لبر الأمان.
وأي عذاب يأتيهم بعد هذا ليكشف سوءاتهم؟؟ تملقوا السماء بضراعة، حينها أغمض عينيه وتعلق بأخر أمل له في الدنيا، طريدة المعشوقة رباب.
أين عنترة منه؟ بل هل يجاريه مجنون ليلى؟؟ بل هو إبراهيم (مجنون رباب).
وما ارتمائهم جوف الموت إلا حسرات على من تلقفها زواج ضرع الغنى، فارة من قفير الفقر هازئة بكل تعاليم الحب التي حفظاها معا.
فماذا بعد؟ فقير يلفه جناح القتامة بكل خطى حياته.
فما يضنيه عن هجره مرفأ البلد؟.
صمم في نفسه حين التجأ إلى البحر بحارا، أن يسرد قصته عند خلجان الغربة، ما تعيقه الأسوار.
مضت ساعات طوال وهم في هيجان البحر الغاضب وسأم السماء، غمرتهم الأمواه بشراسة فما استطاعوا طلب النجاة.
و مد البحر بعد حين حملهم إلى صخور الشاطئ بلا أشرعة ولا صواري باسقات.
صحا على صوت النورس محلقا في السماء الزرقاء تيقظت حواسه، وهو يرمق بغشاوة العين خليج وبيوت قابعات، ما هذي البلاد بلاده؟؟
إنها حلم مستقبله، بالكاد أفلت قيده من الماضي التليد، محررا روحه من سقمه، ناظرا إلى الأمل يلوح في الأفق، أبحر بجسده في المياه الضحلة، غير آبه لرفاق السفر فما تعارفهم سوى أشهر قليلات.
وصل مبتغاه وهذا الأهم، حط براحلة قدميه القواعد الأسمنتية، ما درى أين يشير عقرب بوصلته؟؟
البرد قارص يجمد الأوصال المشرئبة بالمياه. بدأ المسير وبدأت الغيوم بالتكاثر ناشطات.
بحث في جيبه عن علبة السجائر وجدها غريقة بالمياه، ألقاها شاتما الحظ العاثر، وسوء الطالع يلاحقه حتى في غربة أسفاره.
ومن بين المحال المتناثرة الجأ نفسه إلى محل رمق فيه ما يسد جوع ليال.
قطعة من الحلوى بتسولها، فالجيب ينتفض من بور أرضه.
مشى متثاقلا، وقف أمام الزجاج، لم يطق رفع عينيه فقد أعجزه السؤال، حينها فتح الباب ورنت أجراسه، إذ بها تنتظره فكأنما تعد خطاه. استقبلته أما، وكأنما عرفها منذ سنين سيدة ما وجد السواد له محلا بين الخصيلات البيضاء.
ووجهها المستدير بعينين ضاحكتين، وكأنهما تحكيان قصص التائهين في الخلجان، بقصرها وسمنتها توصي بكرم الضيافة للمنسين.
ألجأته تائبا طالبا غفران المستعطفين.
أجلسته إلى كرسي خشبي وبابتسامة قدمت له فنجان الشوكولاته الساخنة، وقطعة الحلوى المنقشة بالسكر.
دعته برقة ووداعة تأخذ بما أفضى إليها من ذكريات، فقص عليها ما قد سلف من نكران الزمان.
تأوهت وأبكتها العين بحرقة، فقد تذكرت حبيبا سكنت روحه في جدران المكان، لكم تاقت الروح لحبيبها، هكذا وقعت عليه أول مرة عابرا الشطان.
فتاة شقراء أوقعها في شباكه الصياد وأدخله أبوها حماه فلاذ بقلبها من أول مرة وما لها من كرة.
فقد سلب المفتاح، وعاشا معا دهرا ذابا في حضن الكد ودفئهما حبا ذائبا بعرق الرزق.
أخذت تمر بأناملها على الزجاج تروي حكايا الحلوى الذائبة بالعسل والمحلاة بالحبة السوداء، وغيرها مما زاده لصنعتها في بحر الحلوى المغربية المنصهرة بالحلوى الإيطالية.
صمتت وهمست:" لقد دفن جسدا وروحه ذابت وجدران المكان، اشتم أنفاسه."
انهمرت دموعها انهارا وهي تبعثر بأناملها في أحد الأركان، أخرجتها من عتيق الذكريات علبة سجائر، ما كان غيرها يتمايل بين الشفاه.
أمسكها وكأنما امسك عشيقة تاه عنها بحرا من السنوات، غمزته وكأنها تقول:" نصيبك خبئ لك."
لقد أعجبها اسمه فقد كانت حالمة بين جنباته (إبراهيم رسول كريم).
وكأنها ما فوتت حرفا من الحروف، مسيحية تقبل أديان السماء، ما تميزها عن نساء المغرب بلكنتها ومزحاتها وبريح حلواها، وكأنما جبلت بذرة وساقيها في أرض الله.
صمتت ونبست وكأنما عجلت بذكرا خيفة النسيان.
ولجت إلى الحاسبة بكبر حجمها، وعزمت أمرها أن لك هاهنا طيب المقام، متدبرا صالح أمره وأمرهم.
تركته أمينا في المحل، ودخلت بابا موصدا أغلقت وراءها ريحا دافئة.
اذرف دمع العين:" وي كأنه وميض الأمل يسقط عند قدميه على استحياء."
ما أطالت مكوثه وذكرياته، جالبة ملابس دفيئة ستجمع صبر الأيام، انسل خلف الستارة يلقي غارق الثياب مرتديا ما يدفئ به البدن.
حط قبعته جانبا، فانزلق شعره ناعما يصل الكتفين، وارى الستارة جانبا، وما أن وقعت عيناها عليه حتى صفقت وحضنت كفيها:" آه ما أجملك، تنضح بالفتوة والشباب."
حينها رنت أجراس الباب، وفتاة شقراء تهدل شعرها الذهبي مثقلا بحبات المطر، ومسحت أنامل الريح على وجنتيها حمرة فأضحت حورية في سبيل الحوريات.
هللت السيدة العجوز بها، وبلغتها الإيطالية جمعت لها الحروف والكلمات مبعثرة، عرفتها بالشاب إبراهيم، وجم حينها وتاه في زرقة السماء، وسهما وقع في صدره قطع القلب أشلاء.
وتنادى اسمها (غريتا) نجوم الليل وضوء القمر.
واشتهاها حبيبة تشق بريحها همس الندى، لامست أناملها أنامله، تلاصقتا معا وكأنا قدر قدر حبا أبديا.
أين رباب من غريتا؟ أين الثرى من الثريا؟؟
ومرت الأيام تلعب أنامله على كبسات الحاسبة ضربا على مفاتيح البيانو.
وجلس يوما ظهره إلى باب الزجاج، عاملا أنامله راسما وجوها تقف تتلقف لهفة العشاق أمواج البحر.
أخذت أعينهم تناظره رساما قد أبدع، فجعلوه محجا لأوتار الرسم، وشاهدا على اليوم وتاريخه.
وعلى قماشة ألوانه تناثرت الروبيات تتلألأ صادحة في الصدى.
كل يوم حاله جامعا المال بمهنة وهواية.
ليحفل بغريتا عروسا في حجرة، سقفها الفضا وجدرانها همس الليل وقطرات الندى، يلتحفان السما ووسادتهما خيوط القمر نورا يلفهما نورا.
وفي يوم جاء يشق سكون الفجر، فرأى الباب موصدا وعلت الشمس على استحياء، أرسلت نورها فما نبس الباب بكلمة.
مرت ايام وجم القلب، وتاه في السبل حائرا. أتراه حبا طعن في السراب وتلاشى؟؟
حينها على الطرقات جلس، يتم حب العاشقين بلهفة قيد لا يمحى، وجعل ليله يعتل البضائع المتكدسة في الميناء.
هناك رمق أولئك من كانوا بحارة رفقاء ماجوا وموج البحر غرقى، يعتلون أكداسا تناثرت على الجنبين تنوء من أثقالها الأجساد.
وصف له الألم بردا في رئتيه، فسقمتا تتأوهان بالبلغم والصديد وليفا أياما، وتلاشى من السقم بين الأكداس مستنجدا، جلدا يتبدل جلدا.
وفي سقمه رسم رسمها من خلجات نفسها، تضلعت لوحة ولا أجمل (غريتا يا ضوء القمر).
حج إلى المحل فجرا، وضعها أمانة الباب الزجاجي الموصد، شاهدا على حب أذن له أن يتبعثر.
ومضى يشق سبيله في الدنا، مضى هو، واتت غريتا وأمها ايبتين من (ميلانو).
فقد طارت برقية إلى الأنامل، أخ سلبه الموت موضعا، ولو أنهن ظلمن أنفسهن بميعاد فما خسرن اللقيا.
لقد كانت ثروة طالتهما بعد دهور في الفقر قاصرات، وقفن ينظرن لهفة العاشق، تنبس بها كل ظلة في الوجه.
وناظرتها عين ثالثة معهما، يسرها القدر ناقد باحث في الأرجاء عن مبدع لقد صرخ:" إنها تحفة (المولينيزا) تولد من جديد.
وتلقفها واضعا إياها في متحف الفن، ووزنت بقدر دافق من المال، عنون لإبراهيم.
طفقت تجد تجول في الطرقات، شكت لرمل الشاطئ وعشاق المكان، فوصفوه لها جالسا يرسم هاهنا.
فافترشت الأسوار، وقد تقاسمت:"أن بلهفتها تنجو من سخط عاشق، ودموع عينيها تشق الوجنتين."
بلهيب العشق مضت ساعات، وما أتى أزف الليل أن يستر ظلمة المكان ظلمة غيمه.
آذن لها هيجان البحر العودة، لفت نفسها بنفسها هائمة في الطرقات تتلاشى، ما أوقفها سوى صدى حسيس الخطى، تلفتت فما أخطأت رسم الخطى، عاشقا ثملا بالانكسار.
ارتمت عند قدميه باكية، تمطرها السماء تغسل ما يشوب النفس من الأوجاع.
تلقفها جاثمة يداعب خصلاتها الذهبية، مقبلا الجبين يلفها مندسين في حب فار فما اهتدى.
حينها آذن زواجهما إكليلا فكانت جائزته ثمنا لشرعية وجوده، بذرة لأبناء تجنسوا وتجانسوا في تراب الغربة أجسادا وأرواحا.
فتلك ترتيلة مهاجر رسمت له تقاسيم القدر أهلا ومستقبلا، ما كان ليكون له في ارض منبته حتى لو سقم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق