أغنية "نعم يا حبيبي" الشهيرة لعندليب الطرب العربي عبدالحليم حافظ واحدة من كبريات الأغاني الكلاسيكية التي تلفت المستمع بوعيها الموسيقى واللحني الحاد، العميق، المهيمن، والذي يقود باقتدار المايستروهات منظومة التأثير الشعوري مروضا كل عناصر الدلالة الوجدانية في كلمات الأغنية، وكل إمكانيات الجمال والتطريب في صوت المغني، صانعا لهما مجرى الحفر العميق في عاطفة المستمع.
يقف وراء لحن كهذا ملحن عبقري يتجاوز وعيه الموسيقي الفائق مجرد ترجمة الدلالات المباشرة لمعاني كلمات الأغنية وإبراز إمكانيات صوت المغني إلى تجسيد نغمات الخلفية الفلسفية العميقة، شعوريا ووجوديا، كترجمة للموقف الغنائي برمته.
وأول ما يلفت النظر في اللحن وجود نغمتين للمدخل يجدل منهما المؤلف وعي المستمع الشعوري بعمق. ويشتغل عليهما لبقية الأغنية راسما بسحر ورشاقة صوت المغني وكلمات الأغنية ممكنات الدلالة الشعورية الوجدانية الكامنة بهما.
المدخل الأول مدخل درامي قصير مهيب يحاكي نفيرا حاشدا ينبه لخطورة وامتلاء وكليانية ما يتلوه. وبعد أن يتدرج هذا المدخل الخاطف إلى صمت يبدأ بعده تمهيد جديد، "فرشة" أخرى تشيع فيها عناصر الرقص الدافئ والانسياب الهادئ الطروب الأليف للعاطفة. ويطول هذا المدخل الثاني قليلا لكنه يصل كذلك إلى الخفوت والصمت مفسحا الطريق لإنشاد كورالي مهيب فخيم آخر بصوت المجموعة، مذكر ومؤنث مجدول.. (نعم يا حبيبي).
ما هو النبأ العظيم "ثقيل الوزن" الكامن وراء المدخل الأول الفخم؟ وما هو الانسياب الوجداني الهادئ الحميم الكامن وراء المدخل الثاني الرقيق؟ وهذه الجديلة البارعة التي تتعانق وتتعاشق وتنساب تلويناتها بطول الأغنية؟
ولو مرة ناداني قلبك..سنين عمري تبقى عبيدك
وأنا ياما بأبكي لك..وفكرني بأغني لك..يا حبيبي
لا شيء إلا الحب الرومانسي طبعا. وتجسيد موقفه الوجودي العظيم والذي يضم ملحمية التناقضات الكبرى إلى حميمية العاطفية الدافئة. الحب بما أنه معبر عن موقف إنساني شامل من الكون والحياة. الحب بما هو كون فسيح ملحمي يسع الكون كله، لا يعيش فيه – رغم ذلك - إلا حبيبين يغيب كل شيء خارجه عنهما. ثم الحب كفعل يومي تلقائي وشائع ومتكرر بصورة غريزية عامة هادئة أليفة.
ما يجسده اللحن – كما أتذوقه - بشمول ونفاذ وعمق هو الحب الذي يمسك بتلابيب العالم البشري من طرفيه القصيين. ويجذب الوجود الإنساني من بعديه العميقين الذين لا يجتمعا إلا للحب الرومانسي: البعد المادي والبعد المعنوي، الروحاني والجسداني..اللقاء الممكن واللقاء المستحيل..التوحد بشروط الكون الروحاني..والاختلاف بشروط الكون المادي.. ليجمع ويوحد ويلخص كل احتمالات ومباهج وألام الوجود البشري في ذكر وأنثى وما بينهما من حب.
أقولك نعم في منامي..وياما ناداني خيالك
وحملته شوقي وسلامي..وحلفته أخطر في بالك
رميت قلبي في نار غرامك..وكان قلبي ماله ومالك
ده أنا ياما بأبكي لك..وفاكرني بأغنى لك يا حبيبي
ولطالما تساءلت كيف لا يتعرض لتحف الغناء العربي الكلاسيكي مثل أغنية العندليب هذه محللون تقنيون بارعون يتولون تبيان ما بها من عناصر الفن وآيات العبقرية بلغة فنية موسيقية ونقدية منضبطة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق