دهشة الصورة في ديوان " صدفةٌ بغمازتين
للشاعر محمود مغربي
يقلم:
محمود رمضان الطهطاوي
حالة من الصفاء والدهشة تمرق في عمق الحرف .. لترسم صورة مدهشة ، خاطفة ، مكثفة ، قابلة للـتأويل والـتأمل .. مرتحلة داخل الذات .. طارحة بثمارها الشهية متعددة الألوان والمذاق .
تجربة ثرية .. بعد رحلة عميقة وطويلة مع الشعر .. يقدم لنا الشاعر " محمود المغربي ديوانه السادس " صدفة بغمازتين " الصادر عن بورصة الكتابة عام 2012، بعد طرحه " صمت الوقت مشترك ، و" أغنية الولد الفوضوي " ،و" العتمة تنسحب رويدا " ، و " تأملات طائر " و" ناصية الأنثى " يأتي هذا الديوان محملا بتجارب سابقة سامقة .. ليؤكد شعرية المغربي التي تعتمد على الصورة الومضة .. ولا عجب أن نقرأ قصيدة سطرا .. أو جملة فيما اسماه " تجليات " التي استحوذت على نصف الديوان تقريبا ، بعد ستة عشر قصيدة ما هي بالطويلة أيضاً .. بل والسطر الشعري لا يزيد عن (4) كلمات ويبقى في كل معظم الأحوال كلمة أو كلمتان ..
هذا التكثيف الذي يؤكد قدرة الشاعر على بلورة الصورة ،وطرحها وإذابتها وصهرها في أقل عدد من الكلمات .. تؤكد قدرة الشاعر على امتلاك ناصية الحرف .. والغوص في عمق الكلمة لاستحلابها .. وتوظيفها في موضعها راسما تلك الصورة الدهشة الرامزة من خلال حجب لا يغيم ولا يعتم ، بل يواري بين ستار شفيف يعطي للقلب مساحة للمتعة .. والروح ومضة للمروق .. وللعقل فرصة للتأمل ..
نلحظ ذلك من الوهلة الأولى ونحن نطل على الإهداء " إليها " كلمة يتيمة تقف سامقة في بياض الصفحة .. وتترك للفراغ / بياض الورق مساحة شاسعة .. للبحث عن هذه الملهمة التي يلقي إليها بهذا العبق القادم .. إهداء ماكر .. وما إن ندلف لعمق الديوان .. نتشوف صور الشاعر ، القصائد ، حتى نشعر بالحيرة .. ونسأل هل هي صاحبة " صدفة بغمازتين " في قصيدته الأولى " صُدفة تمطر بنتا بغمازتين " والتي تقول :
" في البلاد البعيدة ..
يظلّل روحي غيمٌ كثيفٌ
وثلجٌ
وشمس خجول " ص9
ثم تقول :
" بعينيك
أدخل كرم جدودي
بشغبي
وفوضاي " ص10
أم هي المهرة الأسطورة كما يذكرها في " بستاني ينتظرُ شروق الشمس " وهو يناديها :
" أيتها المهرةُ
ضُميني
لمي شَعْثَ حروفي
فأنا بستاني
يعشقُ كل تراب أزاهيرك " ص 15
أم هي تلك المطمئنة ، العارفة قدرها ومكانتها .. ومهما طاف وجال حط في ركابها .. واستقر في عشها ، كما يصورها في قصيدته : " ياطائري غرد هناااااااااااااك .. هنا " ،والتي تقول بثقة :
" ياطائري
حلِِّق كيفما شئت
في الجهاتَ الأربعة
في الفصول
خربش فضاءات الميادين
وحدك " 19
وبين الجهات الأربعة / الفصول ،وبين الأنثا عشر ألفاً في هناااااااااااااك " ، نجد مقابلة تؤكد هذه الثقة ، فإذا افترضنا جدلاً أن هذه الأحرف تشير إلى عدد اشهر العام ،والفصول الأربعة هي بالطبع معروفة " فهنا تؤكد الحبيبة على ارتحال الحبيب طوال العام بعيدا عنها ، ولكن على ثقة بعودته إليها كما تقول في نهاية القصيدة :
" وحدي ...
مسبحةُ التهدُّج في صلاةِ الفجر .. " ص 21
أم هي تلك الغجرية / الندى رمز البكور والصباح الجلي كما يصورها في قصيدة " الغجرية .. والرعيان " والذي يرسم معها حالة توحد في صورة فريدة ، رامزة ،وهو يعلن في نهاية القصيدة :
" أيها الرعيان ..
أطردُكم جميعا ..
واحدًا
واحدًا
وأُغرِّي جسدي لندى فجرًا " ص 24
أم تلك الممزوجة فيه ،والتي يربطها صراحة باسمه وهي يرسم مساحات بوحه في قصيدة " نشيد الحضرة " فيتموسق معها في لحظة صوفية متدفقة وهو يتلو ورده :
" يارب
وحُدك أنت المنانُ المحمودٌ الصنعة
هذا محمودك
يرجوكَ
ويستعطفُكَ
فهل تمنحه بُساط القدرة
كي يطوي بُعده
يدخل عدوًا
بستان الخضرة!! " ص 26
إنه الإهداء الماكر الذي يفتح مسامات القصيدة المغربية ،ويجعلنا نتشوف نحاول فك الطلسم ( الإهداء ) ولكن يبقى السر في بطن الشاعر ، وتبقى لنا متعة الغوص في قصيدته .. نتعطر بنسمات روحها .. ونسكب من خمر لذتها في قلوبنا العطشى ، ونذوب في حنايا خيالها الوسيع بصورها ليبحث كل منا عن ليلاه .
دهشة الصورة
وتبقى لنا دهشة الصورة في قصيدته المكثفة ، نجدها في فلسفة قصيدة " هامش " بتلك المقابلة / الحوارية بينه وبين ( إليها ) التي ترفض أنتعيش في الهامش وتبغي متنا .. تتقابل الأسطر الشعرية بينه وبينها تصنع صورة رامزة ( هي : لن أبقى في الهامش ، هو : الهامش سيدتي أملكه ، هي : أبغي متنا ، هو : لكن المتن بلا خجل / يسكنه القٌ / لا أعرف أين أراضيه " تصنع هذه المقابلة صورة تفتح مسامات الـتأويل و تناوش العقل والروح .
وفي قصيدتي " الكريسماس " و " وجمرة " يجسد الشاعر صورة الوحدة الذي يعاني منها ، ففي الأولى يسرد لنا وحدته في حدوتة شعرية فيظهر هذه الوحدة القاتلة وسط هذا الصخب / الاحتفال بالكريسماس ليظهر المفارقة في صورة بسيطة في مظهرها ،مدهشة في جوهرها / تأملها ، أما قصيدة جمر ، فيكفي أن يقول " ليلٌ شاسعٌ / وأرضي قفرٌ/ مفردٌ أنا / لا صباح لي " . ص31
وفي قصيدة "خجول" تبرز دهشة الصورة بين المهرة والبحر العجوز المرتبك الخجول .. قصيدة من أثنتي عشر كلمة تستنطق صورة مدهشة ، يرسمها بمهارة وكأنها لوحة تتجسد أمامنا .
وهكذا كل قصائد الديوان غزيرة بالصور الدهشة ، يقتصد فيها الشاعر كثيرا .. لا عن بخل ولكن عن قدرة فائقة على رسم الصورة بأقل عدد من الكلمات ..
وكما يقول في آخر طلاته " تجليات " شكرًا لكل وقتٍ يصنع لنا متسعا "
نقول شكرا شاعرنا المغربي لما منحته لنا من بهجة وصور عذبة داعبت أرواحنا .. وقصائد شعر طللنا فيها على ليلانا .. لقد وجلت في أعماقنا بتلك الصدفة الجميلة بغمازيتها .. فأبهرتنا لحد الدهشة .. وأمتعتنا لحد التوحد في صورك الدهشة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق