مدلولات وأسرار الرقم 5 في قصائد ديوانه الأخير
قراءة / نادي حافظ في «كرسي شاغر»... أناقة الروح ورشاقة اللغة
|بقلم حنان عبد القادر|
نادي حافظ... شاعرمصري ذو تجربة شعرية غنية، ولغة تتسم بالتوهج والدهشة وامتلاك الصور المشعة التي تستحوذ على روح القارئ، وتتركه في تساؤلات شتى، ومشاعر محلقة، ولعلنا نرد الطبيعة الشاعرية التي نعايشها في نصوصه إلى طبيعة الشاعر الذي يتطلع للجمال، والحب، وتألق الجانب الوجداني، والرؤية الفلسفية للحياة.
إنه من الشعراء الذين يملكون الدهشة التي تأتينا من الألفة المتجسّدة في تلقائية التعبير، وبراعة التكوينات التي تنبعث من هذه الألفة، إنه يتعامل بتلقائية لافتة مع التجربة الإنسانية وما تولده من نغم في النص، فيفجر في روح المتلقي عالما شعريا صاخبا يمتلئ بالمتعة والدهشة في آن.
هذا ما عهدناه في سياحتنا عبر نصوصه التي تضمنتها أعماله السابقة: «منذور لرمل»، «به فتنة وتلمع عيناه»، ثم العمل الذي بين أيدينا: «كرسي شاغر»، ناهيك عن قصائد أخرى ما زالت في جعبته، بالإضافة إلى قصائده المغناة.
والديوان الذي بين أيدينا اليوم: « كرسي شاغر»... لم يحمل في طياته سوى خمس قصائد أرخ لكتابتها بين عامي 1997: 2002، بدأت القصيدة الأولى بخمسة مقاطع، والأخيرة أيضا، وتوسطهما قصيدتان الثانية والثالثة في ثلاثة مقاطع، والرابعة رغم أن الشاعر لم يتعمد وضع مقاطعها إلا أنه قطعها ضمنا إلى 22 مقطع أو عبارة شعرية دالة.
إذاً فمجمل الديوان مقدم في عدد فردي، وأكثره العدد 5... ومما يقال عن مدلولات هذا العدد:
هو رقم الحيوية والإشعاع، ويرتبط بالنور والنماء والحركة والتغير، ويرتبط كذلك بالزواج والحياة الاجتماعية والعلاقات الطيبة مع الآخرين، وقد كان الصينيون قديما يربطون بينه وبين العناصر الخمسة والألوان الخمسة الأساسية، لأنه يقع في منتصف الطريق بين الصفر والعشرة، وبالتالي فهو يمثل حلقة وصل بين كل الأرقام.
وصاحبه يملك القدرة اللغوية سواء في الكتابة أو في التحدث، ويتمتع بكثرة الحركة، والفضول لمعرفة كل شيء، رغم أنه قد يظهر أحيانا شارد الذهن، وهو محب للحياة،ومؤهل أن يكون في مركز قيادي، لأنه يمتلك القدرة على احتواء المواقف، وعدم إثارة مشاعر الغضب والعداء لدى المسؤولين عنه.
واختيار الشاعر لهذا الرقم إنما يدل على تمتعه بتلك السمات أو بعضها، وهذا ربما ما نراه ونتلمسه في لغة الشاعر وتعبيراته.
عنوان الديوان
العنوان الذي تخيره من نكرة موصوفة ذكرت بذاتها مُعَرَّفَةً في قصيدة: «ليس يَحسُ بمثلِ هذه المعاني سوى الكرسيِّ الشاغرِ» وبمعناها في قصيدة أخرى: «لعلّنا نتبادلُ الحياة.
واستخدام النكرة هنا لها مدلولها من الإبهام الذي يحمل القارئ على التأويل، ولفت الانتباه أيضا إلى معناه، فثمة كرسي شاغر لا يلفت انتباه أحد لكنه وحده الذي يرى ويسمع ويحس ويدرك مالا يدرك.
ثم يصدره بالإهداء الذي يوهمنا أنه قد نال مبتغاه، ثم نكتشف في قصائده غير ذلك، أو أن الإهداء أتى تاليا، فنقر عينا ولا نعبأ بما سيحيطنا به الديوان من التياع وشجن... لكن هيهات لنا فقد خدعنا ودخلنا الحالة مع شاعرها، وأحاطت بنا من كل جانب وليس ثمة مهرب.
في النص الأول: «وجدتُني قربَ صوتِك»
يأخذنا الشاعر إلى عالمه الموحي برومانسية تعرب عن نفسها بوضوح في تعبيراته، فتأخذنا إلى أفق رحب من البراءة والحب والجمال والشوق والأسرار الدفينة في غيابات الروح فيقول:
فجأة.
ضبطتُ رُوحيَ
تفكرُ فيكِ
وفجأةً
وجدتُني قربَ صوتِك
فاستخدامه لكلمة: ضبطت... تدل على التلبس بأمر دفين في اللاوعي، وفجأة أدرك الوعي ما يدور في الخفاء بعيدا عن طائلته، وهذا التلبس للروح... أي أمر لا فكاك منه ولا مهرب، حيث صار واقعا محتما، ثم في مفاجأة أخرى وتلبس آخر:... وجدتني قرب صوتك... وهنا قمة رومانسية الحب... حيث يكفي تلك الروح العاشقة أن تستأنس بصوت المحبوبة، وتجد بغيتها في محض كلام يحبو بينهما:
ما الذي يَجرِفُني
إليكِ
أيتُها البنتُ
غيرُ هذي اللغةِ
التي تحبو
بيننا؟
ما الذي أريده منك
غيرَ أن تظلي
قريبةً من هديلي
واستخدامه هنا للفعلين: يجرفني، وتحبو... استخدام بديع، فالأول يعبر عن قوة العاطفة واندفاعها وتأججها وكل هذا يتسبب فيه الفعل الثاني تحبو الذي يدل على مدى الرقة والعذوبة والبراءة التي تظلل هذه العلاقة، وفي النهاية المطلب الوحيد له أن تظل المحبوبة قريبة من الهديل، والهديل هنا يحمل معنيين: الفرح والترح في آن والعذوبة والشجن أيضا، فهو يريدها أن تكون وقت بوحه إلى جواره مهما كان هديله، ولا تزال للغة عنده مكانتها حتى صارت وطنا يلوذ به، لكنها اللغة المستحيلة، والكلمة الصامتة:
أوطاننا لغة ٌ
تموتُ إذا تكلمنا
وتبدأُ في الذبولْ
فأي لغة تلك التي نتكلمها دون أن نتكلم؟!... أليس في ذلك قمة التسامي في المشاعر والتماهي والتواصل بين محبين؟!
ويستعير الشاعر في نفس النص بالمقطع الأخير بحر ابن زيدون وشبه قافيته، لكنه يخالفه الرأي في أن النأي يذهب الغرام، إذ يرى شاعرنا أن الحب كل الحب في النأي وليس العكس فيقول ابن زيدون:
«لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
أن طالما غير النأي المحبين»
وكأنه يريد أن يزيد في حرمان ذاته بالفراق، أو أن يعودها على قدر محتم يراه بعين روحه جليا، فيقنعها بغير ما تعارف عليه الناس، وربما ليبرز لنا أن المحبة الصادقة تتألق أكثر في الفراق، وليس صحيحا قول العامة: البعيد عن العين... إذ يظل الفؤاد يحمل على البعد الشوق الممض والحنين الحقيقي بل ويزداد الوداد كلما كان المحبوب بعيدا.
وجاء نصه الثاني بعنوان: لعلّنا نتبادلُ الحياة... ليعلن عن أمنية ظاهرها فيه اليسر وباطنها من قبله العذاب... إذ يعرب عن آمال لا تتحقق تاركة في النفس لوعتها.. فيقول:
كان بودّي
لو تصعدينَ معي
قليلاً
إلى سِدرتي في الأعالي
كنتُ سأولمُ لكِ روحي
دونَ مبررٍ مقنع
سوى أنَّ صدرَك
أوسعُ من صدرِ أمي
قليلاً
فهو مستعد أن يقدم روحه وليمة لامرأة تمنحه صدرا أرحب للبوح يشبه صدر أمه، ووقتا إضافيا للحنان والاحتواء... إلى هذه الدرجة تتعطش حناياه للائتناس في ليل وحدته... لكنها بَعْدُ أمنيةٌ، «كان بودي»... حتى أمه التي كانت تؤنسه في المنام... امتنع عنه طيفها، ثم يأخذنا في مقاطع جديدة، تحمل هموما أخرى وأمنيات عصية أيضا:
عاملُ القهوةِ...
-هذا الذي يتدحرجُ
بيني وبينك
كلَّ صباح-
آخذُ منه فنجانكِ
وأتركُ فنجاني
لأرشفَ رشفةً واحدةً
هنا
مقابلَ رشفةٍ واحدةٍ
هناك
عندَ شفتيكِ
لعلّنا نتبادلُ الحياة
وتبادل الحياة هنا يمكن أن نأخذه على معنى أن يبادل كل منا صاحبه بحياته، أو أننا نتبادلها معاشة ونتقاسمها معا، وإن كان ذا أو تلك فهي أماني بعد مستحيلة.
أما في المقطع الأخير، فيرى الكرسي الخالي من وجودها كأنه حضنه، والتبادل هنا في اللاوعي إذ يتمنى أن يكون مكان الكرسي الحاضن لها طوال الوقت؛ لذا يتحدث عنه بأحاسيسه الملتاعة، واشتياقه الذي لا يستطيع في الوعي أن يعرب عنه، وغيابها الذي تركه في عجز وجمود، فيقول:
يااااااااااااااااااااااااه
كم هذا الكرسي
ملتاعٌ وصبور
مرّ أسبوعٌ كاملٌ
ولم يأخذكِ بين ذراعيه
...
يااااااااااااااااااااااااااه
كم هذا الكرسي
مسكينٌ في غيابِك
يتيمٌ...
وعاجزٌ
عن الحركة!ّ
والحديث هنا عن كرسي شاغر... هو كرسيها المشلول، فهي الوحيدة القادرة على منحه حياة ودفئا، ونورا يسطع على المشتاقين و«على العبادِ الشغوفين بالضياء».
والوحدة عند الشاعر ذات شجون، والحديث عنها لا يلبث يراوده في أنحاء ديوانه، ففي قصيدة: نجرب الحياة مرة أخرى... يقول:
مِن أجلي
من أجلِ ظلمةٍ
تترصدُ نافذتي
...
ضعي الحكايا
على أولِ الذكرياتِ
وها هو يطالعنا بأماني أخرى، ورجاءات من المحبوبة لم تتحقق فهي تهويمات الروح التي ربما لا يقدر عليها من يملكون أجسادا، ولا يشعرون إلا بالحدود المادية للأشياء.
ارفعي السماءَ قليلاً
ليصعدَ العناقُ
كوري أحلامَ العصافيرِ
وانثريها بنفسٍ رضية
لأسماكِ البحرِ المصلوبِ
على حائطنا
وفي المقطع الأخير لتلك القصيدة، والذي عنونه: «نرتب أيامنا» يفاجئنا بفكرة على حد استحالتها على قدر رومانسيتها وتحليقها، وهي في ذات الوقت الحلقة الأروع في سلسلة الأمنيات التي يحمل القارئ عبقها في روحه مع هذا الحالم... إذ يقول:
تعالي نجمِّع أيامَنا
- كلَّها
في عُلبةٍ قديمة
ونضعها في خزانةِ الملابس
وننساها تماما
ثم نجربُ الحياةَ مرةً أخرى
إلى هذا الحد يتوق ويحلم، يتمنى ويحلق، يرسم من نفحات روحه ما يصبو لتواجده على أرض الواقع، كل ذلك في لغة موحية، وتعبيرات شفيفة ينقلنا بها- رغم حداثة الكتابة- إلى أجواء رومانسية شديدة العذوبة، ليثبت في النهاية أن المشاعر الإنسانية ممتدة ومتشابهة، والتجارب الواقعية تتناص وتتلاقى، وأن الحلم بالسعادة، والسعي خلف الأمان والألفة والاستقرار مطلب إنساني عام لا ينكره حصيف.
الحكمة وفلسفة الحياة
يعرض لنا الشاعر في أكثر من مكان خلاصة تجاربه وفلسفته في الحيا، وما خلص له من حكمتها، فهو يمتلك الحس الإنساني الذي قام على أسس فلسفية يتحدى بها الرؤى التقليدية ليصنع رؤيته الخاصة للعالم من حوله، فهو إنسان عميق الوعي، عظيم الحزن، يكتب معانيه بمداد روحه، وينمقها بأريج عقله.
وربما تبدى ذلك أبدع ما تبدى في القصيدة عنوان الديوان: «ليس يَحسُ بمثلِ هذه المعاني سوى الكرسيِّ الشاغرِ»... حيث كتبها في مقاطع متتالية لم يعمد لعنونتها، وكأنه يقدم سلسلة من العبارات الدالة والمصيبة للهدف الذي يصبو إليه، فذكرني بما صنع الخيام في رباعياته حيث استقلت كل رباعية بفكرة تنطوي على حكمة ونظرة للحياة، وكذا شاعرنا حيث يقول:
للجسدِ:
اشتهاءُ الموسيقى
وللموسيقى:
ابتكارُ جسدٍ
لا يكلَّ من مناجاتِها
في بهجةِ الإثم.
وهكذا... ففي اثنين وعشرين مقطعا يعرض لنا بعض ما خلص إليه وما رآه من خلال تجربته الإنسانية التي تمتلئ بالمتناقضات وتزخر بالحياة.
إيقاع شعري متميز
الشعر عند نادي حافظ غني بالإيقاع الداخلي والخارجي، الذي ينبثق من إحساس الشاعر العميق بجمال الحروف ومعانيها، وأناقة الصور ودلالتها، وهو لا يني يثبت للقارئ قدرته الشعرية، وثقافته الممتدة من البحور الخليلية حتى قصيدة النثر مرورا بنصوص التفعيلة، فتجده آنا يكتب التفعيلة، كما انتقى تفعيلة المتدارك هنا:
الشفاهُ التي تلسعُ
كالشفاهِ التي للورودِ
أو
كالشفاهِ التي في الغياب
كلُّها واحدةٌ
ثم يعمد إلى عمود الشعر متخيرا بحر البسيط، كما في قوله :
وما المحبة ُإن كانتْ على لُقيا
إنّ المحبة َفي نأي المحبَيْنِ
وانظر معي أيضا إلى قوله وقد امتطى تفعيلات الكامل:
عبثا تغني كلّما ندهَتْك ساحرةٌ لتبدأَ في الذهولْ
عبثا تغني بينَ أشجارٍ سرى في قلبِها سوسُ الخمولْ
وما يلبث أن يلقي بك معه في خضم النثر بكل تكثيفاته الموحية وجمالياته، بعيدا عن الغموض والتعقيد وتصنع المجاز اللغوي والإبهام الذي يوقع المتلقي في حيرة البحث عن دلالة... انظر إلى قوله:
قد يكونُ البنفسجُ
محضَ أكذوبةٍ
روّجها شعراءُ الحداثة
لكنه غيرُ ذلك
ويثبت نادي حافظ في النهاية، وأنا أرى معه ذلك، أن جمال الكتابة ليس له ثوب معين، ولا يتبدى في لون من دون آخر، إنما جمال الكتابة يكمن في أناقة الروح التي تقمصتها، ورشاقة اللغة التي أبدعتها.
جريدة الراي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق